الاثنين، 28 نوفمبر 2011

موسوعة الفقه الإسلامي 10

موسوعة الفقه الإسلامي 

من وزارة الأوقاف المصرية

لقراءة الجزء الأول اضغط هنا

لقراءة الجزء الثاني اضغط هنا 

لقراءة الجزء الثالث اضغط هنا 

لقراءة الجزء الرابع اضغط هنا

لقراءة الجزء الخامس اضغط هنا

لقراءة الجزء السادس اضغط هنا

لقراءة الجزء السابع اضغط هنا 

لقراءة الجزء الثامن اضغط هنا


لقراءة الجزء التاسع اضغط هنا 


إجماع (ب)

خامسا: لا يتحقق الإجماع بعترة
الرسول صلى الله عليه وسلم
وحدهم عند الجمهور
كافة الزيدية يقولون: إن الإجماع عام وخاص، كما قدمنا، فالعام هو إجماع جميع المجتهدين والخاص هو إجماع مجتهدى عترة الرسول عليه الصلاة والسلام.
ولو انفرد العترة وحدهم فأجمعوا على أمر فى عصر من العصور دون غيرهم انعقد الإجماع بذلك ولم يتوفف على موافقة الغير.
وقد بينا فى تعريف الإجماع مرادهم بالعترة، وقد وافقهم على مذهبهم بعض العلماء، منهم أبو هاشم وأبو عبد الله البصرى، والقاضى عبد الجبار، فى رواية عنه، واحتجوا على مذهبهم بالكتاب والسنة فأما الكتاب فقوله تعالى " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " (169).
وجه الدلالة أنه تعالى أخبر مؤكدا بالحصر بإرادته إذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم تطهيرا تاما، وما يريده الله تعالى من أفعاله واقع قطعا، فثبت ذهاب الرجس عنهم، وطهارتهم عنه الطهارة التامة، والرجس المطهرون عنه ليس إلا ما يستخبث من الأقوال والأفعال، ويستحق عليه الذم والعقاب، لأن معناه الحقيقى لا يخلو عنه أحد منهم.
وليس المراد إذهابه عن كل فرد، لأن المعلوم خلافه، فتعين أن المقصود إذهابه عن جماعتهم فجماعتهم إذن معصومة وهو المطلوب، وكذلك استدلوا بقوله تعالى:" قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى ".
دلت الآية على أن مودتهم طاعة، بل واجبة، فيكونون على الحق، وإلا حرمت مودتهم، بقوله تعالى: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " وغيرها.
وكونهم على الحق يقتضى وجوب متابعتهم، لعدم الواسطة بين الحق والضلال بدليل قوله
تعالى " فماذا بعد الحق إلا الضلال " والمراد بالقربى أهل البيت 0
وأما السنة فأحاديث كثيرة رووها وتمسكوا بها، منها قوله صلى الله عليه وسلم: " إنى تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدى أبدا: كتاب الله، وعترتى، أهل بيتى، ألا وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ".
وحديث الثقلين هذا شهور عندهم ومروى من جهات كثيرة.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " مثل أهل بيتى فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك ".
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " أهل بيتى أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء ".
وقد عنى الزيدية بإيراد هذه الأحاديث والاستدلال بها على ما ذهبوا إليه، وترى ذلك فى كتبهم ومنها كتاب "هداية العقول " الذى أفاض فى إيراد الأدلة على ذلك، وفى مناقشة معارضيها أو
ناقضيها (170).
ويرد عليهم علماء الجمهور:
أولا: بأن المراد من قوله تعالى " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، فالآية نازلة فيهن بين آيات سابقة لها، وآية لاحقة بها، فالآيات السابقة تبدأ من قوله تعالى: "يا أيها النبى قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا " (171) إلى قوله تعالى " وقلن قولا معروفا " (172).
ثم تأتى آية الاستدلال، وهى قوله تعالى " وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا "(173).
والآية اللاحقة بذلك هى قوله تعالى:
" واذكرن ما يتلى فى بيوتكن من آيات الله والحكمة، إن الله كان لطيفا خبيرا " (174).
فالكلام فى هذه الآيات إنما هو مع أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، ولكن الله تعالى عبر فى إذهاب الرجس بقوله:
" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " فأتى بضمير الخطاب للذكور فى لفظ " عنكم " وأتى بلفظ " أهل البيت " فيفهم من ذلك أنه أراد أن يعمم هذا الحكم وهو حكم إرادة التطهير فى أهل البيت رجالا ونساء على سنة تغليب المذكر إذا اجتمع رجال ونساء، فغاية ما يدل عليه ذلك هو اشتراك قرابة النبى وأزواجه فى هذا التطهير المراد، فإذا كان هذا يدل على عصمتهم وحجية إجماعهم فقولوا بذلك أيضا فى الأزواج كما قلتم به فى القرابة والعترة وأنتم لم تقولوا به، فبطلت حجتكم.
ثانيا: معنى الرجس الذنب، فغاية ما يلزم العصمة عن الذنوب لا العصمة عن الخطأ فى الاجتهاد كيف والمجتهد المخطىء يؤجر ويثاب، فكيف يكون ما يؤجر عليه الإنسان ويثاب من باب الرجس.
ويحتمل أن يكون المراد من الرجس الشرك أو الإثم ، أو الأهواء ، أو البدع ، أو يكون إذهاب الرجس بما ساق إليهم من تشريع ، فلا يلزم منه العصمة من الخطأ فى الاجتهاد أيضا.
وقد كثر الجدال فى المعنى المراد من هذه الآية ، وحاول كل فريق أن يقوى دلالتها على ما ذهب إليه أو على نفى ما ذهب إليه الآخرون ، ولا يتسع المجال لذكر هذا كله ، فمن شاء فليرجع فيه إلى كتب الفريقين ، مثل " هداية العقول " فى أصول الزيدية ، وشرح مسلم الثبوت ، فكل منهما يمثل وجهة نظره فى استقصاء ، ويرد على ما يناقشه به الآخرون (175).
وكذلك الكلام فى باقى الأدلة التى استدلوا بها من الكتاب.
أما استدلالهم بالأحاديث فقد رد عليهم فيه بأن هذه الأحاديث آحاد ، وخبر الواحد ليس بحجة فى مثل هذا ولكنهم لا يقبلون هذا الرد ، فإن الأحاديث التى أتوا بها متواترة ، إما لفظا بذكر الاعتصام بآل البيت نصا ، أو على سبيل التواتر المعنوى ، كما قال الجمهور فى أحاديث عصمة الأمة عن الخطأ والضلال.
وقد عارضهم الجمهور بمثل " أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم واهتديتم " وبما تواتر عن الصحابة والتابعين من أنهم كانوا يجتهدون ويفتون بخلاف ما أفتى به أهل البيت ولا ينكر أحد عليهم، ولا يعيبهم أهل البيت أنفسهم، وهذا يفيد أن أهل البيت لا يقولون بوجوب اتباع ما أجمعوا عليه.
ألم تر كيف رد ابن مسعود قول أمير المؤمنين على فى عدة الحامل المتوفى عنه زوجها، وكيف رد شريح قوله بقبول شهادة الابن، مع أن كلا من الزيدية والإمامية يقولون بحجية قوله، ويستدلون لذلك بأدلة عندهم، فقول الإمام إذن يدل على إجماع أهل البيت عند الإمامية والزيدية، فكيف ساغ للصحابة والتابعين أن يخالفوه.
بمثل هذا يستدل الجمهور على بطلان القول بأن إجماع عترة الرسول صلى الله عليه وسلم يكفى حين ينفردون به عن غيرهم من مجتهدى الأمة، والنقاش طويل والمراجع هى المراجع التى ذكرناها للفريقين.
سادسا: إجماع أهل المدينة
إجماع أهل المدينة على انفرادهم ليس بحجة عند الجمهور لأنهم بعض الأمة، والأدلة الدالة على كون الإجماع حجة متناولة لأهل المدينة وغيرهم.
وقال مالك رحمه الله تعالى: أنه حجة فلا يعتد بمخالفة غيرهم، ومن أصحابه من قال: إنما أراد بذلك ترجيح روايتهم علي رواية غيرهم.
ومنهم من قال: أراد به أن إجماعهم أولى ولا تمتنع مخالفته (176).
وقال الباجى: إنما أراد حجية إجماع أهل المدينة فيما كان طريقه النقل المستفيض، كالصاع والمد والأذان والإقامة وعدم وجوب الزكاة فى الخضروات مما تقضى العادة بأن تكون فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم، فإنه لو تغير عما كان عليه لعلم، فأما مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء0
وقال القاضى عبد الوهاب: إجماع أهل المدينة على ضربين: نقلى، واستدلالى.
فالأول كنقلهم الصاع والمد والأذان والإقامة والأوقات والأجناس وكتركهم أخذ الزكاة من الخضروات مع أنها كانت تزرع بالمدينة، وكان النبى صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده لا يأخذون منها، وهذا النوع من إجماعهم حجة يلزم عندنا المصير إليه وترك الأخبار والمقاييس به، لا اختلاف بين أصحابنا فيه 0
والثانى، وهو إجماعهم من طريق الاستدلال ، فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه ليس بإجماع ولا مرجح.
والثانى: أنه مرجح 0
والثالث: أنه حجة ولكن لا يحرم خلافه وإذا عارض هذا النوع الاستدلالى خبر فالخبر أولى عند جمهور أصحابنا، وقد صار جماعة إلى أنه أولى من الخبر بناء منهم على أنه إجماع وليس بصحيح لأن المشهود له بالعصمة إجماع كل الأمة لا بعضها (177).
ويرى ابن الحاجب المالكى أن الصحيح التعميم، أى القول بكونه حجة مطلقا، لأن العادة جرت بعدم إجماع هذا الجمع الكثير من العلماء المحصورين الأحقين بالاجتهاد إلا عن راجح (178).
وقد قيد ابن الحاجب إجماع أهل المدينة الذى فيه الكلام بأنه إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين.
ويقول الغزالى فى الرد على ما ذهب إليه مالك: " إن أراد مالك أن المدينة هى التى جمعت فى زمن الصحابة أهل الحل والعقد، فمسلم له ذلك لو جمعت، وليس ذلك بمسلم بل لم تجمع المدينة جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها، بل ما زالوا متفرقين فى الأسفار والغزوات والأمصار.
وإن أراد أن اتفاقهم فى قول أو عمل يدل على أنهم استندوا إلى سماع قاطع لأن الوحى الناسخ نزل فيهم فلا تشذ عنهم مدارك الشريعة، فهذا تحكم، إذ لا يستحيل أن يسمع غيرهم حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر أو فى المدينة لكن يخرج منها قبل نقله، وربما احتجوا بثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وعلى أهلها، وذلك يدل على فضيلتهم وكثرة ثوابهم لسكناهم المدينة، ولا يدل على تخصيص الإجماع بهم " (179).
ونقل صاحب طلعة الشمس فى أصول الإباضية عن الحاكم قوله:
" والمشهور عن مالك أنه رد الخبر بفعل أهل المدينة حتى قال ابن ذؤيب: يستتاب مالك " (180).
يريد أن مالكا روى إجماع أهل المدينة على أن البيع بشرط البراءة لا يجوز ولا يبرىء من العيب أصلا علمه أو جهله، ثم خالفهم، فلو أخذناه بمذهبه لقلنا له: خالفت الإجماع ومن خالف الإجماع يستتاب.
وهذه المخالفة من مالك لما عليه العمل والإجماع من أهل المدينة، يستدل بها من يؤول مذهب مالك فى ذلك.
ويقول: لو كان يرى أن إجماعهم حجة لم تسعه مخالفته (181).
بل كل ما هنالك أنه يرجح نقلهم على نقل غيرهم، وهذا ما يشاركه فيه الشافعى، فقد أشار إلى هذا فى القديم، ورجح رواية أهل المدينة، وحكى عنه ذلك يونس بن عبد الأعلى، قال: قال الشافعى: إذا وجدت متقدمى أهل المدينة على شىء فلا يدخل فى قلبك شك أنه الحق، وكلما جاءك شىء غير ذلك فلا تلتفت إليه ولا تعبأ به (182).
ثم استمر صاحب طلعة الشمس فى التعقيب على ما اشتهر نقله عن مالك فقال: " إن أكابر علماء الصحابة كانوا خارجين عن المدينة، وهذا يستلزم ألا يعتد بخلافهم، وهو من البعد بمنزلة لا تخفى على ذوى الألباب، فإن عليا وابن مسعود وأبا موسى وغيرهم كانوا بالكوفة، وأنس فى البصرة وأبو الدرداء بالشام، وسلمان فى المدائن، وأبو ذر كان فى الربذة، ومن المحال ألا يعتد بخلاف هؤلاء لأهل المدينة، فبطل ما زعموا.
هذا ما قاله صاحب المنهاج، وهو من الحسن بمنزلة لا تخفى " (183).
سابعا: إجماع الخلفاء الراشدين
" لا ينعقد الإجماع عند الجمهور باتفاق الخلفاء الأربعة أو الخمسة، فيما لو عد الحسن بن على رضى الله عنه (184) ، مع وجود المخالف لهم من الصحابة رضى الله عنهم، ولا ينعقد من باب أولى باتفاق الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما.
وذلك لما سبق من أن الدلالة الدالة على اعتبار الإجماع حجة متناولة لإجماع أهل الحل والعقد كلهم فلا خصوصية للخلفاء الراشدين.
ونقل الآمدى وغيره عن أحمد بن حنبل ، فى إحدى روايتين عنه، أنه يرى إجماع الخلفاء الأربعة حجة.
وكذلك نقل هذا عن القاضى أبى حازم من أصحاب أبى حنيفة (185) وعن بعض الظاهرية (186) وعن ابن البنا من الحنابلة (187) ، وحجة من قال بإجماع الأربعة، أو الخمسة، قوله عليه الصلاة والسلام: " عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى، عضوا عليها بالنواجذ "، فقد أوجب اتباع سنتهم كما أوجب اتباع سنته والمخالف لسنته لا يعتد بقوله، فكذلك المخالف لسنتهم.
وحجة من قال: بإجماع الشيخين قوله عليه الصلاة والسلام: " اقتدوا بالذين من بعدى أبى بكر
وعمر ".
قال الآمدى: وهذا معارض بقوله عليه الصلاة والسلام: " أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم أهديتم " وليس العمل بأحد الخبرين أولى من العمل بالآخر، فبطل الاستدلال بحديث " عليكم بسنتى " وحديث " اقتدوا بالذين من بعدى " (188).
وقال صاحب طلعة الشمس الإباضى:
" إن سنة الخلفاء الراشدين كسنته صلى الله عليه وسلم فى وجوب الاتباع، لا فى اعتبار الإجماع، ولم يخص النبى صلى الله عليه وسلم الخلفاء الأربعة بل أراد كل خليفة حق ، ولا شك أنه قد جاء من بعدهم خليفة حق من أئمة المسلمين رضى الله عنهم فلا وجه لتخصيص الأربعة " (189).
وفى حواشى هداية العقول للزيدية: إن حديث " اقتدوا بالذين من بعدى " ضعفه الذهبى، وحديث
" عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى " رواه أبو داود وضعفه ابن القطان، وحديث
" أصحابى كالنجوم " ضعفه أحمد (190).
وذكر ابن قدامة المقدسى الحنبلى فى روضة الناظر: أنه قد نقل عن أحمد رحمه الله ما يدل على أنه لا يخرج عن قول الخلفاء الأربعة إلى قول غيرهم، وكلام أحمد فى إحدى الروايتين عنه يدل على أن قولهم حجة، ولا يلزم من كل ما هو حجة أن يكون إجماعا ".
فهذا تحرير لمذهب ابن حنبل فى هذه المسألة، وقد علق عليه شارح الروضة بأنه هو الحق (191).
ثامنا: إجماع الحرمين والمصرين
المراد بالحرمين مكة والمدينة، وبالمصرين الكوفة والبصرة، وقد ذكر الغزالى: " إن قوما قالوا المعتبر إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة، والمصرين الكوفة والبصرة، وما أراد هؤلاء، والقائمون بإجماع أهل المدينة، إلا أن هذه البقاع قد جمعت فى زمن الصحابة أهل الحل والعقد. ثم بين الغزالى أن ذلك غير مسلم، (192) ولم يبين الغرالى من هم القائلون بذلك.
وجاء فى هداية العقول، من كتب أصول الزيدية: " حكى الأمدى وغيره عن بعض، القول بأن إجماع أهل الحرمين والمصرين حجة على غيرهم، وقيل: بل إجماع البصرة والكوفة فقط، حكاه الشيخ أبو إسحاق فى اللمع.
وقيل: إجماع أهل الكوفة وحدها كما نقل عن حكاية ابن حزم.
وقيل: إجماع البصرة وحدها، كما نقله بعض شراح المحصول " (193).
وقال الشوكانى فى إرشاد الفحول: وقد زعم بعض أهل الأصول أن إجماع أهل الحرمين والمصرين حجة، ولا وجه لذلك، وقد قدمنا قول من قال بحجية إجماع أهل المدينة، فمن قال بذلك فهو قائل بحجية إجماع أهل مكة والمدينة والمصرين من باب أولى.
قال القاضى: وإنما خصوا هذه المواضع لاعتقادهم تخصيص الإجماع بالصحابة، وكانت هذه البلاد مواطن الصحابة ما خرج منها إلا الشذوذ.
قال الزركشى: وهذا صريح بأن القائلين بذلك لم يعمموا فى كل عصر، بل فى عصر الصحابة فقط.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازى: قيل إن المخالف أراد زمن الصحابة والتابعين، فإن كان هذا مراده فمسلم لو اجتمع العلماء فى هذه البقاع، ولكنهم لم يجتمعوا فيها (194).
وجمهور الأصوليين على غير هذا الرأى، ولم يقل بذلك أحد من المذاهب التى تقول بالإجماع والحجة فى ذلك أنهم بعض الأمة، والأدلة التى ثبتت بها حجية الإجماع متناولة لأهل الحل والعقد كلهم كما سبق.
تاسعا: إجماع الأكثر
مع مخالفة الأقل
اختلف العلماء فى انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل، ومنهم من يعبر عن ذلك بندرة المخالف أى قلته غاية القلة، كإجماع من عدا ابن عباس على العول مع مخالفته فيه، وإجماع من عدا أبا موسى الأشعرى على أن النوم ينقض الوضوء مع مخالفته فى ذلك، وإجماع من عدا أبا طلحة على أن كل البرد يفطر، مع مخالفته فى ذلك.
فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينعقد. قال الآمدى فى تأييد هذا المذهب:
والمختار مذهب الأكثرين، ويدل عليه أمران:
الأول: أن التمسك فى كون الإجماع حجة إنما هو بالأخبار الواردة فى السنة، الدالة على عصمة الأمة وعند ذلك فلفظ " الأمة " فى الأخبار يحتمل أنه أراد به كل الموجودين من المسلمين فى أى عصر كان، أى جميع أهل الحل والعقد منهم، ويحتمل أنه أراد به الأكثر كما يقال: بنو تميم يحمون الجار ويكرمون الضيف والمراد به الأكثر، لكن حمله على الأكثر بطريق المجاز، ولا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة، ولهذا يصح أن يقال إذا شذ عن الجماعة واحد، ليمس هم كل الأمة ، ولا كل المؤمنين بخلاف ما إذا لم يشذ منهم أحد، وعلى هذا فيجب حمل لفظ " الأمة " على الكل.
الثانى: أنه قد جرى مثل ذلك فى زمن الصحابة ولم ينكر أحد منهم على خلاف الواحد، بل سوغوا له الاجتهاد فيما ذهب إليه مع مخالفة الأكثر، ولو كان إجماع الأكثر حجة ملزمة للغير، لما كان كذلك، أى لما سوغوا له أن يجتهد، وقد أجمعوا ولبادروا بالإنكار والتخطئة (195).
وهذا الرأى هو الذى اختاره جمهور علماء المذهب وساروا فى كتبهم على ترجيحه (196).
وذهب جماعة إلى انعقاد الإجماع إذا اتفق الأكثر وخالف الأقل، وممن قال بذلك: محمد بن جرير الطبرى، وأبو بكر الرازى وأبو الحسين الخياط، وأحمد بن حنبل فى إحدى الروايتين عنه، وينقل عن بعض الزيدية الميل إليه (197) ، واحتج أصحاب هذا المذهب بما ورد من عصمة الأمة عن الخطأ ، وقالوا: أن لفظ الأمة يصح إطلاقه على أهل العصر، وإن شذ منهم الواحد والاثنان ويرشحه قوله: عليه الصلاة والسلام " عليكم بالسواد الأعظم "،: " عليكم بالجماعة "،: " يد الله على الجماعة "،: " إياكم والشذوذ " والواحد والاثنان بالنسبة إلى الخلق الكثير شذوذ، " الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد".
وقد اعتبرت خلافة أبى بكر رضى الله عنه ثابتة بالإجماع وإن خالف فى ذلك سعد ابن عبادة، ولولا أن إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل حجة لما كان أمامة أبى بكر رضى الله عنه ثابتة بالإجماع، ثم إن خبر الواحد بأمر لا يفيد العلم، وخبر الجماعة إذا بلغ عدد التواتر يفيد العلم، فليكن مثله فى باب الاجتهاد والإجماع.
وقد أنكرت الصحابة على ابن عباس خلافه فى ربا الفضل فى النقود، وتحليل المتعة، ولولا أن اتفاق الأكثر حجة لما أنكروا عليه، فإنه ليس للمجتهد الإنكار على المجتهد إلى غير ذلك من وجوه الاستدلال وكلها قد دارت فيه المناقشة بين المثبتين والمخالفين- (198) وهناك آراء أخرى كرأى من يقول: إن عدد الأقل إن بلغ التواتر لم يعتد بالإجماع دونه، وإلا كان معتدا به (199).
ولم ينسبوا هذا الرأى إلى قائل معين ، وكرأى أبى عبد الله الجرجانى، وأبى بكر الرازى من الحنفية: أنه إذا سوغت الجماعة الاجتهاد للمخالف فيما ذهب إليه كان خلافه معتدا به، مثل خلاف ابن عباس رضى الله عنهما فى توريث الأم ثلث جميع المال مع الزوج والأب، أو مع المرأة والأب وإن لم يسوغوا له ذلك الاجتهاد فلا يعتد بخلافه، مثل خلاف ابن عباس رضى الله عنهما فى تحريم ربا الفضل، وخلاف أبى موسى الأشعرى فى أن النوم ينقض الوضوء (200).
وكالرأى الذى اختاره ابن الحاجب المالكى من أن قول الأكثر يكون حجة، ولا يكون إجماعا
قطعيا (201).
فمذهب ابن الحاجب فى عدم اعتبار اتفاق الأكثر إجماعا هو مذهب الجمهور، أى أن الإجماع لا ينعقد مع وجود المخالف وإن قل.
ولكنه يتكلم فى حجية اتفاق الأكثر وعدم قطعيته وكالرأى القائل بأن اتباع الأكثر أولى وإن جاز خلافه (202)
عاشرا: إجماع الصحابة مع خلاف
من أدركهم من مجتهدى التابعين
اختلفوا فى التابعى إذا كان من أهل الاجتهاد فى عصر الصحابة ، هل ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفته أو لا ينعقد؟
فمنهم من قال: إن كان التابعى من أهل الاجتهاد قبل انعقاد إجماع الصحابة فلا يعتد بإجماعهم مع مخالفته، وإن بلغ رتبة الاجتهاد بعد انعقاد إجماع الصحابة فلا يعتد بخلافه.
والقائلون بذلك هم أصحاب الشافعى وأصحاب أبى حنيفة، وهو مذهب أحمد ابن حنبل فى أحد الروايتين عنه.
ومذهب مالك والزيدية والإباضية على أصح القولين عندهم (203).
والدليل على ذلك: أنه فى حالة بلوغ التابعى رتبة الاجتهاد قبل إجماع الصحابة لا يصدق على الصحابة وحدهم لفظ " الأمة " مع مخالفة التابعى المجتهد لهم، وقد كان كثير من التابعين يفتون فى عهد الصحابة، وكان الصحابة يسوغون ذلك لهم، بل كانوا أحيانا يحيلون عليهم فى المسائل كالذى روى عن ابن عمر أنه سئل عن فريضة، فقال: اسألوا فيها سعيد بن جبير فإنه أعلم بها منى.
وعن الحسين بن على كرم الله وجهه أنه سئل عن مسألة فقال: اسألوا الحسن البصرى، إلى غير ذلك.
أما فى حالة عدم بلوغ التابعى مرتبة الاجتهاد عند إجماع الصحابة فالأمر يختلف إذ لفظ " الأمة " ينطبق على الذين أجمعوا وحدهم، فهم أهل الحل والعقد حينئذ دون غيرهم، ولا عبرة ببلوغ التابعى مرتبة الاجتهاد بعد ذلك، فقد قام الإجماع قبله وانتهى الأمر.
وينبغى أن يعلم أن هؤلاء هم الذين يقولون بعدم اشتراط انقراض العصر، أى أن الإجماع يعتبر قائما فى لحظة انعقاده ولا ينتظر انقراض المجمعين بالموت حتى يتبين أن أحدا منهم لم يرجع وسيأتى الكلام على هذا الشرط.
ومنهم من قال: لا ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفة التابعى سواء أكان من أهل الاجتهاد حالة إجماعهم أو صار مجتهدا بعد إجماعهم لكن فى عهدهم، وهؤلاء هم الذين يشترطون فى تمام الإجماع انقراض عصر المجمعين.
وكلا الفريقين من الذين يقولون بأنه لا ينعقد الإجماع بموافقة الأكثر مع مخالفة الأقل.
ومن الناس من يقول: لا عبرة بمخالفة التابعى أصلا إذا أجمع الصحابة ، والقول بذلك مروى عن أحمد فى إحدى روايتين.
ويتفق هذا مع مذهب القائلين بأن إجماع الأكثر معتد به ولو خالف الأقل. ودليل القائلين بعدم الاعتداد بخلاف التابعى هو ما ورد من النصوص فى اتباع الأصحاب، وأن لهم مزية الصحبة.
وبين المختلفين نقاش فى الأدلة لا نطيل بذكر (204).
شروط الإجماع
يذكر علماء الأصول فى مختلف المذاهب شروطا للإجماع كل منها وقع الخلاف فيه بينهم: هل يشترط أو لا يشترط؟ وهذه هى:
انقراض العصر
والمراد به: انقراض المجمعين فى عصر ما، فذهب فريق من العلماء إلى أن اتفاق الأمة لا يعتبر إجماعا تقوم به الحجة إلا إذا انقرض المجمعون وماتوا كلهم، لأن رجوعهم أو رجوع بعضهم قبل الموت محتمل، ومع هذا الاحتمال لا يثبت الاستقرار (205).
وهذا القول هو قول الإمام أحمد بن حنبل وأبى بكر بن فورك (206) ، وبعض الظاهرية (207) 0
واحتجوا على قولهم بأن أبا بكر سوى بين الصحابة فى العطاء، وخالفه عمر فى التفضيل بعد إجماعهم على رأى أبى بكر فلو كان الإجماع الذى انعقد فى عهد أبى بكر علي التسوية حجة منذ انعقد، لما جاز لعمر مخالفته فاقتضى ذلك كون انقراض العصر شرطا أى أن لكل من المجمعين أن يرجع عن رأيه إذا رأى ذلك فهو اتفاق موقوف لا يتبين أنه صار إجماعا إلا بانقراض المجمعين كلهم ويتبع ذلك أنه لا يجوز لأحد بعد انقراض العصر أن يجتهد فيما تبين أنه إجماع، ومثلوا لذلك أيضا: باتفاق على وعمر وغيرهما من الصحابة على تحريم بيع أم الولد، ثم إن عليا خالفهم بعد ذلك ورأى جواز بيعها، وما ذلك إلا لأنه اعتبر الإجماع غير قائم، لأن العصر لم ينقرض (208).
وذهب فريق آخر إلى أن انقراض العصر ليس شرطا بل إذا اتفقت الأمة ولو فى لحظة - أى اتفق المجتهدون فيها- انعقد الإجماع وتقررت عصمتهم عن الخطأ ووجب اتباعهم، ولا يجوز لأحد منهم ولا ممن يأتى بعدهم أن يخرج على هذا الإجماع، وذلك لأن الحجة فى اتفاقهم وقد حصل.
وليس فى الأدلة المثبتة للإجماع اشتراط ذلك، ولم يعتبروا أن الإجماع قام على رأى أبى بكر فى التسوية، بل رأوا أن عمر كان مخالفا فيه من أول الأمر، وإنما كان سكوته لكون رأى الخليفة هو المقدم، وكذلك لم يصح فى نظرهم أن الصحابة جزموا جميعا بتحريم بيع أم الولد قبل أن يخالفهم على (209).
وعلى هذا أكثر أصحاب الشافعى وأكثر أصحاب أبى حنيفة والأشاعرة والمعتزلة (210) ، والمالكية
(211)، والزيدية (212)، وابن حزم الظاهرى (213) ، وهو الصحيح عند الإباضية (214).
ومن الناس من فصل فقال: إن كانوا قد اتفقوا بأقوالهم أو أفعالهم أو بهما لا يكون انقراض العصر شرطا، وإن كان الإجماع بذهاب واحد من أهل الحل والعقد إلى حكم، وسكت الباقون عن الإنكار مع اشتهاره فيما بينهم فهو شرط.
وهذا هو ما اختاره الآمدى، وروى عن أبى على الجبائى (215).
ويتبين مما سبق أن ثمرة الخلاف تظهر فى جواز رجوع أحد المجمعين عن رأيه أو عدم جواز ذلك له، وفى جواز اجتهاد من بعد المجمعين فى الحادثة مع وجود أحد من أهل ذلك الإجماع على قيد الحياة أو عدم جواز ذلك (216).
بلوغ المجمعين حد التواتر
التواتر هو تتابع الخبر عن جماعة بحيث يفيد العلم، والكلام فى تحقيق معناه وما به يكون، موضعه مصطلح تواتر.
ونكتفى هنا بما يتصل باشتراطه أو عدم اشتراطه فى الإجماع.
فمن استدل على كون الإجماع حجة بدلالة العقل- وهى ما سبق ذكره من أن الجمع الكثير إذا اتفقوا علي شىء اتفاقا جازما فلا يتصور تواطؤهم على الخطأ- فلابد من اشتراط ذلك عنده لتصور الخطأ على من دون حد التواتر، وذلك هو رأى إمام الحرمين وبعض العلماء.
وأما من احتج على كون الإجماع حجة بالأدلة السمعية التى هى الآيات والأحاديث السابق ذكرها فقد اختلفوا: فمنهم من شرطه، ومنهم من لم يشترطه.
وجمهور أهل المذاهب على عدم اشتراطه، أنه متى اتفق المجتهدون فى عصر ما على حكم فذلك إجماع مهما كان عدد المجمعين، بلغوا حد التواتر أم لا، لأن لفظ "الأمة" و "المؤمنين " صادق عليهم موجب لعصمتهم و لاتباعهم (217).
مستند الإجماع
جمهور أهل المذاهب على أن الإجماع لابد له من مستند لأن أهل الإجماع ليس لهم الاستقلال بإثبات الأحكام فوجب أن يكون عن مستند، ولأنه لو انعقد عن غير مستند لاقتضى إثبات نوع، أى إحداث دليل، بعد النبى صلى الله عليه وآله وسلم وهو باطل (218).
وفى بيان ذلك يقول صاحب " طلعة الشمس " الإباضى: من شروط الإجماع أن يكون للمجمعين مستند يستندون إليه من كتاب أو سنة أو اجتهاد سواء أكان ذلك المستند قطعيا أم ظنيا، فإن علمنا مستندهم كان ذلك زيادة لنا فى الاطمئنانية وتوسعا فى العلم ، وإن جهلناه مع حصول الإجماع منهم وجب علينا أن نحسن الظن بهم، وأنهم لم يجمعوا إلا وعندهم مستند من قبل الشارع (219).
وحكى عبد الجبار عن قوم أنه يجوز أن يكون عن غير مستند، وذلك بأن يوفقهم الله لاختيار الصواب من دون مستند، وهذا الرأى قرر العلماء ضعفه (220). واعتبره الآمدى شذوذا.
وفى طلعة الشمس: أنه قول لبعض أهل الأهواء (221).
والقائلون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند قد اتفقوا على صحة الإجماع وثبوت حجيته إذا كان المستند دليلا قاطعا (222) إلا ما روى عن بعض العلماء من أنه إذا كان الدليل متواترا مفيدا للمعنى المجمع عليه فإن الحكم يكون ثابتا به، ولا يحتاج إلى إثباته بالإجماع (223).
أما المستند الظنى فقد اختلف العلماء فى صحة جعله مستندا للإجماع.
قال الحنفية: قد يكون سبب الإجماع من أخبار الأحاد كإجماعهم على عدم جواز بيع الطعام قبل القبض استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا الطعام قبل القبض ".
وقد يكون سبب الإجماع قياسا، كإجماعهم على حرمة الربا فى الأرز استنادا إلى القياس على الأشياء الستة التى هى البر والشعير.. إلخ.
ثم أجمعوا على هذا القياس، فصار القياس بمعاضدة الإجماع قطعيا (224) ، وإلى هذا ذهب أيضا: الشافعية (225)، والمالكية (226)، والحنابلة (227) ، والزيدية (228)، والإباضية (229)، وذهب الظاهرية إلى أنه لا يصح اعتبار القياس مستندا للإجماع وذلك بناء على أصلهم فى إنكار القياس، ووافقهم محمد ابن جرير الطبرى فى جانب فقال: إن القياس حجة، ولكن الإجماع إذا صدر عنه لم يكن مقطوعا بصحته، وليس القياس فى رأيه كخبر الواحد، لأن الصحابة أجمعوا. على خبر الواحد بخلاف القياس (230).
وفصل بعضهم بين أن يكون القياس جليا فيصلح مستندا، أو خفيا فلا يصلح، ونقل هذا عن بعض الشافعية (231).
ثم اختلفوا: هل يجب على المجتهد ان يبحث عن مستند الإجماع أو لا يجب عليه ذلك؟
والأكثرون على أنه لا يجب عليه ذلك وأنه إذا وقع الإجماع وجب المصير إليه لأنهم لا يجمعون إلا عن مستند (232).
عدم مخالفة الإجماع لنص
فى الكتاب أو السنة
إذا عارض الإجماع نص من الكتاب أو السنة فعلماء الأصول يختلفون: فمنهم من يقول: أن من شرط الإجماع ألا يكون على خلاف نص فى الكتاب أو فى السنة ، ومن ثم لا يعتبرون مثل هذا الإجماع معتدا به لو فرض أنه وقع، وهؤلاء هم الإباضية والظاهرية.
يقول صاحب طلعة الشمس: الشرط الثانى: ألا يكون هناك نص من كتاب أو سنة يخالف ما أجمعوا عليه، فإن الإجماع على خلاف نص الكتاب أو السنة ضلال، ولا تجتمع الأمة على ضلال (233).
ويفهم من هذا أن المسألة افتراضية على معنى أنه لو فرض وقوع إجماع على خلاف نص من الكتاب أو السنة لما كان هذا الإجماع معتدا به، بل يكون باطلا وضلالا، وذلك لا يتصور أن يكون فإن الأمة لا تجتمع على الضلال.
وكلام ابن حزم الظاهرى واضح فى إفادة هذا المعنى إذ يقول: إن الإجماع لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها بضرورة العقل: إما أن يجمع الناس على ما لا نص فيه، وهو باطل- أى لأنه لابد للإجماع من مستند كما سبق- وإما أن يكون إجماع الناس على خلاف النص الوارد من غير نسخ أو تخصيص له وردا قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا كفر مجرد، أو يكون إجماع الناس على شىء منصوص، فهذا هو قولنا وهذه قسمة ضرورية لا نحيد عنها أصلا وهو كما ذكرنا، فاتباع النص فرض سواء أجمع الناس عليه، أو اختلفوا فيه، لا يزيد النص مرتبة فى وجوب الاتباع أن يجمع الناس عليه ولا يوهن وجوب اتباعه مخالفة الناس فيه لم بل الحق حق وإن اختلف فيه والباطل باطل وإن كثر القائلون به، ولولا صحة النص عن النبى صلى الله عليه وسلم بأن أمته لا يزال منهم من يقوم بالحق ويقول به فبطل بذلك أن يجمعوا على باطل، أى على خلاف نص لقلنا: والباطل باطل وإن أجمع عليه ومن لا سبيل إلى الإجماع على باطل (234).
وكون الإجماع لا يقع على خلاف النص، هو قدر مسلم به عند الجمهور، لا عند الإباضية والظاهرية فقط، نعم إنه ورد فى كتبهم ما قد يفهم منه أن الإجماع قد يعارض النص فيقضى بالإجماع على النص، كقولهم: إن الإجماع دليل قاطع يحكم به على الكتاب والسنة (235) ، وقولهم: وهو، أى الإجماع، مقدم على الكتاب والسنة والقياس (236).
وقولهم: يجب على المجتهد أن ينظر أول شىء إلى الإجماع، فإن وجده لم يحتج إلى النظر فى سواه ولو خالفه كتاب أو سنة علم أن ذلك منسوخ أو متأول لكون الإجماع دليلا قاطعا لا يقبل نسخا ولا تأويلا (237) لكن هذا محمول عند العلماء على أحد معنيين: إما أن يراد به أن الإجماع محكم فى تفسير المراد من النص كالإجماع على أن الأم تحجب عن الثلث إلى السدس بأخوين مع قوله تعالى: " فإن كان له أخوة فلأمه السدس " فهذا ظاهره أنه إجماع على خلاف النص لأن الأخوين ليسا بأخوة، ولكن هذا لا يكون مصادما للنص إلا إذا ثبت أن لفظ الأخوة لا ينطلق على الأخوين، وهذا لم يثبت ثبوتا قاطعا، فالإجماع هنا مفسر لأحد الأمرين الجائز إرادة كل منهما لغة أو استعمالا (238).
وإما أن يراد به أن الإجماع له مستند آخر غير هذا الدليل المعارض له لأنهم لا يجمعون إلا عن مستند فربما كان الدليل المخالف خبرا ضعيفا أو منسوخا حكمه، ولذلك يقول المقدسى فى روضة الناظر: الإجماع لا ينعقد على خلاف النص لكونه معصوما عن الخطأ وهذا يفضى إلى إجماعهم على الخطأ، فإن قيل: فيجوز أن يكونوا قد ظفروا بنص كان خفيا هو أقوى من النص الأول أو ناسخ له، قلنا: فيضاف النسخ إلى النص الذى أجمعوا عليه لا إلى الإجماع (239).
ومن الناس من يرى أن الإجماع يرفع حكم الكتاب والسنة، ونسبه عبد العزيز البخارى إلى بعض مشايخ الحنفية وبعض المعتزلة، ويستدلون على هذا بمسألة الإجماع على حجب الأم بالأخوين مع قوله تعالى: " فإن كان له أخوة فلأمه السدس " قالوا: إن ابن عباس راجع فيها عثمان فقال له: كيف تحجبها بأخوين وقد قال الله تعالى: "فإن كان له أخوة فلأمه السدس " والأخوان ليسا بأخوة؟
فقال عثمان: حجبها قومك يا غلام 0
فدل ذلك على جواز نسخ الحكم المنصوص عليه بالإجماع، واستدلوا كذلك بأن المؤلفة قلوبهم سقط نصيبهم فى الصدقات بالإجماع المنعقد فى زمان أبى بكر رضى الله عنه، وبأن الإجماع حجة من حجج الشرع موجبة للعلم كالكتاب والسنة فيجوز أن يثبت النسخ به كالنصوص، وقد تقدم ما ردوا به فى مسألة توريث الأم السدس إذا كان معها أخوان، أما الأدلة الأخرى التى استدلوا بها فقد فندها عبد العزيز البخارى بعد ذلك (240). وبعض العلماء يرسم الطريق للتخلص من التعارض بين الإجماع والنص، فيقول الزيدية: أن القطعى لا يعارض، لأن مخالفه إما قطعى أو ظنى والكل ممتنع: وإلا لزم فى القطعيين أن يثبت مقتضاهما وهما نقيضان والظن ينتفى حين نقطع باليقين.
وأما الإجماع الظني فإذا عارضه نص ظنى من الكتاب أو السنة فالجمع واجب بين الدليلين إن أمكن، وذلك بالتأويل حيث كان أحدهما قابلا له بوجه ما، فيؤول القابل له من الإجماع أو النص، أو بالتخصيص حيث كان أحدهما قابلا له، ثم إن لم يمكن الجمع بأحد الأمرين وجب الترجيح بأى وجوهه ( انظر: ترجيح ).
فإذا لم يمكن الترجيح لأحدهما على الآخر وجب إهمالهما لأن العمل بهما غير ممكن والعمل بأحدهما من دون الآخر ترجيح بلا مرجح (241) ، ومثل هذا فى المنهاج للبيضاوى وشرحه للإسنوى(242).
عدم سبق إجماع مخالف
اشترط بعض العلماء فى الإجماع ألا يكون مسبوقا بإجماع مخالف له، وبعضهم لم يشترط هذا الشرط، وبعضهم يشترطه فى حال دون حال، وتفصيل القول فى ذلك أنه: إذا أجمع أهل عصر على حكم ثم ظهر لهم هم أنفسهم ما يوجب الرجوع عنه وأجمعوا على ذلك الذى ظهر لهم ففى جواز الرجوع والاعتداد بالإجماع الجديد خلاف مبنى على الخلاف المتقدم فى اشتراط انقراض عصر أهل الإجماع فمن رأى أن الإجماع لا يكون قائما إلا إذا انقرض المجمعون جوز لهم الرجوع وأن يتفقوا على رأى جديد، ومن لم يشترط انقراض العصر وقرر أن الإجماع ينعقد منذ اللحظة الأولى للاتفاق، لم يجوز الرجوع للمجمعين ولم يعتد بإجماعهم الجديد، هذا إذا كان أهل الإجماع الثانى هم أصحاب الإجماع الأول.
أما إذا كان الإجماع الثانى من غير الذين أجمعوا أولا، ففى ذلك خلاف أيضا بين الجمهور وبعض
العلماء (243).
فالجمهور يرون أنه لا يجوز أن يأتى إجماع قوم على خلاف إجماع من سبقهم، لأن الإجماع الأول قد ثبت وصار حجة فلا يجوز الخروج عليه بل يكون ضلالا، وهذا هو المعبر عنه فى بعض كتب الأصول بنسخ الإجماع بالإجماع، وفى ذلك يقول المقدسى الحنبلى: فأما الإجماع فلا ينسخ ولا ينسخ به، لأنه لا يكون إلا بعد انقراض زمن النص ، أى لا يكون إلا بعد عهد النبوة ، والنسخ لا يكون بعدها ، والنسخ لا يكون إلا بنص، ولا ينسخ بالإجماع لأن النسخ إنما يكون لنص (244) ، وحاصله: أنه لا يمكن أن ينسخ الإجماع بإجماع آخر، لأن الإجماع الثانى وإن كان لا عن دليل فهو خطأ وإن كان عن دليل فذلك يستلزم أن يكون الإجماع الأول خطأ، والإجماع لا يكون خطأ (245).
ويقول الزيدية: والمختار أنه لا يصح إجماع على حكم بعد الإجماع على خلافه.
وإلا لزم بطلان الإجماع الأول ، أو تعارض الإجماعين وكلاهما باطل (246)، ومثل ذلك عند الإباضية (247)، ويرى أبو عبد الله البصرى والإمام الرازى أنه يجوز الإجماع على خلاف إجماع سبق، لأنه يتصور أن يكون الإجماع الأول حجة إلى غاية هى حصول إجماع آخر (248).
ولما كان الإجماع عند الحنفية على مراتب قرر بعضهم أن النسخ فيه جائز بمثله، وبذلك يقول الشيخ فخر الإسلام البزدوى دون تفريق بين ما إذا كان المجمعون على الرأى الثانى هم نفس المجمعين على الرأى الأول المخالف أو غيرهم وهذا نص كلامه، والنسخ فى ذلك جائز بمثله، أى فى الإجماع، حتى إذا ثبت حكم بإجماع عصر يجوز أن يجتمع أولئك على خلافه فينسخ به الأول ويستوى فى ذلك أن يكون فى عصرين أو عصر واحد (249).
وقال شارحه عبد العزيز البخارى فى هذ الموضع مفسرا له ومعقبا عليه: والنسخ فى ذلك أى فى الإجماع جائز بمثله حتى جاز نسخ الإجماع القطعى بالقطعى، ولا يجوز بالظنى.
وجاز نسخ الظنى بالظنى والقطعى جميعا، فلو أجمعت الصحابة على حكم ثم أجمعوا على خلافه بعد مدة يجوز ويكون الثانى ناسخا للأول لكونه مثله، ولو أجمع القرن الثانى على خلافهم لا يجوز لأنه لا يصلح ناسخا للأول لكونه دونه، ولو أجمع القرن الثانى على حكم ثم أجمعوا بأنفسهم أو من بعدهم على خلافه جاز، لأنه مثل الأول فيصلح ناسخا له.
وإنما جاز نسخ الإجماع بمثله، لأنه يجوز أن تنتهى مدة حكم ثبت بالإجماع، ويظهر ذلك بتوفيق الله تعالى أهل الاجتهاد على إجماعهم على خلاف الإجماع الأول، كما إذا ورد نص بخلاف النص الأول ظهر به أن مدة ذلك الحكم قد انتهت، هذا مختار الشيخ.
فأما جمهور الأصوليين فقد أنكروا جواز كون الإجماع ناسخا أو منسوخا (250) ، وحكى أبو الحسن السهيلى فى آداب الجدل له فى هذه المسألة: أنه إذا أجمعت الصحابة على قول ثم أجمع التابعون على قول آخر فعن الشافعى جوابان:
أحدهما، وهو الأصح: أنه لا يجوز وقوع مثله، أى لا يمكن، لأن النبى صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمته لا تجتمع على ضلالة.
والثانى: لو صح وقوعه فإنه يجب على التابعين الرجوع إلى قول الصحابة (251).
وعلى كلا الجوابين يكون الشافعى رحمه الله تعالى ممن يقولون بعدم الاعتداد بإجماع أهل عصر على خلاف إجماع أهل عصر سبقه.
عدم تقدم الخلاف فى عصر سابق
قال الآمدى: إذا اختلف أهل عصر من الأعصار فى مسألة من المسائل على قولين، واستقر خلافهم فى ذلك، ولم يوجد له نكير ، فهل يتصور انعقاد إجماع من بعدهم على أحد القولين بحيث يمتنع على المجتهد المصير إلى القول الآخر أم لا ؟
ذهب أبو بكر الصيرفى من أصحاب الشافعى وأحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعرى وإمام الحرمين والغزالى وجماعة من الأصوليين إلى امتناعه.
وذهب المعتزلة وكثير من أصحاب الشافعى وأبى حنيفة إلى جوازه، والأول هو المختار (252).
وقد فهم من كلامه: أن أكثر الحنفية يقولون بجوازه، وهذا هو ما ذكر فى مسلم الثبوت وشرحه وقررا أنه حجة بدليل إجماع التابعين على متعة الحج بعد خلاف الصحابة فيها، وغير ذلك (253).
وأن كثيرا من أصحاب الشافعى كذلك، وهذا ما ذكره الإسنوى فى شرحه على المنهاج وأيده بمثل ما أيده به القائلون بذلك من الحنفية وغيرهم، وأن بعض الشافعية يقول بالامتناع وقد بين الإسنوى ذلك أيضا (254).
ونضيف إلى ذلك أن المالكية أيضا لهم قولان كذلك، والصحيح منهما أنه لا يمتنع(255)، وكذلك الحنابلة(256).
وكذلك للزيدية قولان: أصحهما أنه جائز وأنه، أى الإجماع الثانى، إجماعهم يجب اتباعه (257).
والإباضية يقولون بالامتناع (258)
كما يرى ذلك أيضا ابن حزم الظاهرى (259) وحجة القائلين بالامتناع: أن الأمة إذا اختلفت على القولين واستقر الخلاف فى ذلك بعد تمام النظر والاجتهاد، فقد انعقد إجماعهم على تسويغ الأخذ بكل واحد من القولين، وهم معصومون من الخطأ فيما أجمعوا عليه، فلو أجمع من بعدهم على أحد القولين على وجه يمتنع معه على المجتهد المصير إلى القول الآخر، مع أن الأمة مجمعة فى العصر الأول على جواز الأخذ به، ففيه تخطئة أهل العصر الأول فيما ذهبوا إليه، ولا يمكن أن يكون الحق فى جواز الأخذ بذلك القول والمنع من الأخذ به معا، فلابد وأن يكون أحد الأمرين خطأ، أو يلزمه تخطئة أحد الإجماعين القاطعين وهو محال، فثبت أن إجماع التابعين على أحد قولى أهل العصر الأول يفضى إلى أمر ممتنع فكان ممتنعا لكن ليس هذا الامتناع عقليا، بل سمعيا (260)، أما حجة القائلين بالجواز فهى وقوع ذلك فعلا إذا اختلف الصحابة فى أشياء ذكروها ثم أجمع التابعون على أحد القولين المختلف فيهما ولا أدل على جواز الأمر وإمكانه من وقوعه فعلا.
فقد اتفق الصحابة على قتال مانع الزكاة بعد اختلافهم فى ذلك إلى غير ذلك من الأمثلة وهناك مناقشة فى الأمثلة التى ذكرت لا نطيل بإيرادها (261).
عدم سبق الخلاف المستقر من المجمعين
موضوع هذه المسألة هو: هل يجوز اتفاق أهل العصر على الحكم بعد اختلافهم فيه وهى قريبة من المسألة السابقة، والفرق بينهما أن أهل الإجماع فى هذه المسألة هم الراجعون بأعيانهم عما أجمعوا عليه، والمخالفون لأنفسهم، فإن المخالفين هم أهل العصر الثانى إذا أجمعوا على خلاف إجماع من سبقهم.
وحاصل الكلام فى هذه المسالة: أن الخلاف السابق إما أن يكون قد استقر بينهم بأن مضت مدة النظر والتأمل واستقر كل على ما رآه، وإما أن يكون غير مستقر بل هم فى فترة النظر وتقييد الرأى ، فإذا استقر الخلاف بينهم على ما ذكرنا ثم بدا لهم أن يتفقوا على رأى واحد ويمنعوا من المصير إلى غيره ففى ذلك خلاف مبنى على مسألة انقراض العصر، أى موت المجمعين، فمن رأى اشتراطه فلا إشكال فى جواز اتفاقهم بعد اختلافهم، لأنه لم يتم الإجماع الأول فى نظره حتى تمتنع مخالفته، ومن لم يعتبر انقراض العصر شرطا، بل رأى أن الإجماع يتم منذ حصول الاتفاق ولا يحتاج تمامه إلى انقراض المجمعين، فإن هؤلاء اختلفوا فيما بينهم، فمنهم من جوزه واعتبره إجماعا بعد الخلاف وقال إنه يحسن، أن يكون وذلك هو رأى جمهور أهل المذاهب (262) وعليه أكثر الحنفية، والشافعية (263)، والمالكية (264)، والحنابلة (265)، والزيدية (266)، وابن حزم الظاهرى (267)، ومنهم من منعه كالصيرفى (268)، والإمام يحيى بن حمزة من الزيدية (269)، وهو رأى
الإباضية (270).
وإذا لم يكن الخلاف مستقرا فهو، أى الإجماع، جائز من باب أولى عند من يقول بالجواز بعد الاستقرار.
وقد اختار إمام الحرمين التفصيل، فإنه قال بعد حكاية الخلاف: والرأى الحق عندنا: أنه إذا لم يستقر الخلاف جاز وإلا فلا (271).
مسائل خلافية تتعلق بالإجماع
فرض الأصوليون عدة مسائل تتعلق بالإجماع يدور فيها خلاف ينبنى على ما سبق ذكره من أحكام الإجماع وشروطه ونحن نعرض هذه المسائل مع الإيجاز فى أدلة المختلفين اكتفاء بالإشارة إلى ما ترجع إليه هذه الأدلة مما سبق:
إذا اختلفوا على قولين أو كثر
فهل لمن بعدهم إحداث قول زائد-؟
قد يتكلم المجتهدون جميعهم فى عصر ما فى مسألة ثم ينتهى أمرهم إلى الاختلاف فيها على قولين مثلا فهل لمن يأتى بعدهم من المجتهدين إحداث قول ثالث فى تلك المسألة؟
وقبل أن نذكر الآراء فى الإجابة عن هذا السؤال ننبه إلى أمرين:
أحدهما: أن المسألة مفروضة فيما إذا تكلم جميع المجتهدين فى عصر من العصور، لا فيما إذا تكلم بعضهم دون بعض.
الثانى: أن العلماء يفرضون فى هذه المسألة اختلاف الناظرين إلى قولين وهم لا يريدون خصوص القولين بل لو اختلفوا على ثلاثة أقوال أو أكثر فإن الكلام يأتى فى القول الزائد على ثلاثة كما يأتى فى القول الزائد على قولين سابقين، ولهذا جعلنا عنوان هذه المسألة " إذا اختلفوا على قولين أو أكثر.. إلخ ".
بعد هذا نذكر أن العلماء فى الإجابة عن هذا السؤال لهم ثلاثة مذاهب: فمنهم من منعه مطلقا وهم الأكثرون كما قال الإمام الرازى وعليه أكثر الحنفية كما فى المنار وفى التيسير أنه قد نص عليه الإمام محمد والشافعى فى رسالته (272).
وجزم به القفال والقاضى أبوالطيب الطبرى والرويانى والصيرفى وقال به بعض الزيدية منهم أبو طالب والمؤيد بالله فى أحد قوليه (273).
وممن يقول به الحنابلة (274) ، ودليلهم على ذلك يتلخص فىأن الأمة، أى المجتهدين كلهم فى عصر سابق، إذا اختلفوا على قولين فقد أجمعوا من جهة المعنى على المنع من أحداث قول ثالث ، لأن كل طائفة توجب الأخذ بقولها أو بقول مخالفها (275).
ويحرم الأخذ بغير ذلك على اعتبار أنه يكون خرقا للإجماع، وفى ذلك مناقشة.
ومنهم من جوزه مطلقا وعليه بعض الشيعة وبعض الحنفية وبعض أهل الظاهر وبعض الزيدية وهو الصحيح عند الإباضية ونسبه جماعة منهم القاضى عياض إلى داود ، وأنكر ابن حزم على من نسبه إلى داود(276)، وحجتهم فى ذلك أن الذين تكلموا فى المسألة من قبل إنما هم مجتهدون يبحثون بحث المجتهدين ولم يصرحوا بتحريم القول الثالث، فليس أحداثه خرقا لإجماع سابق (277).
وفى هذا مناقشة أيضا، ومنهم من فصل فقال: إن كان القول الثالث المحدث لم يرفع شيئا مما استقر عليه القولان الأولان جاز إحداثه لأنه لا محظور فيه، أى لأنه لم يخرق الإجماع المعنوى على القولين السابقين، وإن رفعه فلا يجوز لامتناع مخالفة الإجماع.
مثال الأول: اختلافهم فى جواز أكل المذبوح بلا تسمية، فقال بعضهم: يحل مطلقا سواء كان الترك عمدا أو سهوا.
وقال بعضهم: لا يحل مطلقا، فالتفصيل بين العمد والسهو ليس رافعا لشىء أجمع عليه القائلان الأولان بل هو موافق فى كل قسم منه لقائل.
ومثال الثانى: الجد مع الإخوة، فقد قال بعضهم: المال كله للجد فى التركة، وقال بعضهم: الجد يقاسم الإخوة فقد اتفق القولان على أن للجد شيئا من المال فالقول بحرمانه وإعطاء المال كله للإخوة قول ثالث رافع لما أجمع عليه الأولان فلا يجوز.
وبهذا التفصيل قال الإمام الرازى وأتباعه، واختاره الآمدى وابن الحاجب وروى عن الشافعى واختاره المتأخرون من أصحابه وهو المختار عند الزيدية وعليه المنصور بالله القاسم بن محمد والحسين ابنه صاحب هداية الطالبين فى أصول الزيدية وعليه أيضا الإمام مالك (278).
إذا لم يفصلوا بين مسألتين
فهل لمن بعدهم التفصيل
إذا أجمع المجتهدون فى عصر ما بين مسألتين فى حكم واحد إما بالتحليل أو بالتحريم أو حكم بعض المجتهدين فيهما بالتحليل والبعض الآخر بالتحريم فهل يجوز لمن يأتى بعدهم أن يفرقوا بين هاتين المسألتين فى الحكم أو يعد ذلك خرقا لإجماع سبق؟
وهذه المسألة قريبة فى المعنى من التى قبلها فإن التفصيل بينهما بعد جمع السابقين لهما فى الحكم إحداث لقول ثالث فيهما ولأجل ذلك لم يفردها الآمدى ولا ابن الحاجب بل جعلاهما مسألة واحدة وحكما عليها بالحكم السابق، ولكن هناك فرقا بينهما وهو أن هذه المسألة مفروضة فيما إذا كان محل الحكم متعددا، وأما السابقة ففيما إذا كان متحدا (279).
وحاصل القول فيها: أن السابقين إن صرحوا بعدم الفرق بين المسألتين فلا يجوز الفصل بينهما فى الحكم، وصرحوا بأن هذا القسم لا نزاع فيه، وإن ظن بعضهم أن فيه خلافا، أما اذا لم ينص السابقون على عدم الفرق بينهما فى الحكم فهناك ثلاثة مذاهب كالمسألة السابقة (280):
1- قول بالجواز مطلقا.
2- وقول بالمنع مطلقا.
3- وقول بالتفصيل خلاصته:
أنه إن اتحد الجامع بين المسألتين فلا يجوز كتوريث العمة والخالة، فإن علة توريثهما عند من ورثهما أو عدم توريثهما عند من لم يورثهما هو كونهما من ذوى الأرحام، وكل من ورث واحدة أو منعها، قال فى الأخرى كذلك، فصار ذلك بمثابة قولهم: لا تفصلوا بينهما، وإن لم يتحد الجامع بينهما فيجوز، كما إذا قال بعضهم: لا زكاة فى مال الصبى ولا فى الحلى المباح.
وقال بعضهم بالوجوب فيهما فيجوز الفصل، وسبب هذا التفصيل أن اتحاد الجامع فى المسألتين شبيه بما لو صرحوا بعدم الفرق فيكون التفصيل معه فرقا للإجماع.
أما إذا لم يتحد الجامع فلا يظهر أن جمع الأولين بين المسألتين يدل على عدم الفرق ويكون بمثابة نص عليه ومن ثم جازت التفرقة لأنه لا خرق فيها لإجماع، وبهذا يتبين أن أصل القاعدة وهى أن أحداث قول ثالث فى المسألة الأولى أو تفصيل بين مسألتين فى الثانية أن استلزما خرقا للإجماع منعا، وإن لم يستلزما ذلك جازا، وأن الخلاف إنما هو فى تطبيق هذه القاعدة على جزئيات
المسائل (281).
إذا اختلفوا ثم ماتت إحدى الطائفتين
فهل يصير قول الباقين إجماعا وحجة
اختلف العلماء فى ذلك: فمنهم من قال: يصير قول الباقين إجماعا وحجة لأنه أصبح قول كل الأمة وهذا هو الذى جزم به الإمام الرازى وأتباعه (282).
والأكثرون على أن قول الباقين لا يصير إجماعا لأن قول الذين ماتوا قائم بدليله ، وإن مات أصحابه والمذاهب لا تموت بموت أصحابها ، وإنما اعتبر خلاف المخالف لدليله لا لعينه (283).
ويقول الغزالى: إن الباقين ليسوا كل الأمة بالإضافة إلى تلك المسألة التى أفتى فيها الميت فإن فتواه لا ينقطع حكمها بموته (284).
هل يعتبر عدم العلم بالخلاف
حكاية للإجماع
قال الصيرفى: لا يكون إجماعا لجواز الاختلاف (285) ، وكذا قال ابن حزم فى الأحكام (286).
وقال بعض الشافعية: إذا قال لا أعرف بينهم خلافا فإن لم يكن من أهل الاجتهاد وممن أحاط بالإجماع والاختلاف لم يثبت الإجماع بقوله ، وإن كان من أهل الاجتهاد ، فاختلف أصحابنا فى إثبات الإجماع بقوله: والصحيح أنه لا يؤخذ الإجماع بقوله ولو كان مجتهدا ، فإن الشافعى قال فى زكاة البقر: لا أعلم خلافا فى أنه ليس فى أقل من ثلاثين منها تبيع.
والخلاف فى ذلك مشهور ، فإن قوما يرون الزكاة على خمس كزكاة الإبل ، وقال مالك فى موطئه وقد ذكر الحكم برد اليمين وهذا مما لا خلاف فيه بين أحد من الناس ولا بلد من البلدان والخلاف فيه شهير ،وكان عثمان رضى الله عنه لا يرى رد اليمين ويقضى بالنكول وكذلك ابن عباس ، ومن التابعين الحكم وغيره وابن أبى ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وهم كانوا القضاة فى ذلك الوقت ، فإذا كان مثل الشافعى ومالك يخفى عليهما الخلاف ، فما ظنك بمن هو أقل من منزلتهما علما واجتهادا " وفوق كل ذى علم عليم " (287).
هل الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة ؟
اختلف العلماء فى ذلك ، فقال بعضهم: إنه حجة ، لأن الإجماع دليل يجب العمل به فلا يشترط التواتر فى نقله كالسنة (288).
وإلى هذا ذهب الإمام الرازى والآمدى وابن الحاجب وهو المختار عند الحنفية (289).
وبه أيضا يقول المالكية (290)، والحنابلة (291) والإباضية (292) ، وهو المختار عند الزيدية (293)،
وأنكره بعضهم ، لأن ما يجمع عليه يجب أن يشيع نقله ويتواتر من جهة العادة ، وممن قال بذلك أبو عبد الله البصرى وبعض الحنفية والغزالى من الشافعية (294).
والقائلون بحجيته يعتبرونه ظنيا لا قطعيا ويوجبون العمل به لا العلم (295)
ما يكون الإجماع حجة فيه
وما لا يكون
قال الآمدى: إن المجمع عليه لا يخلوا أما أن تكون صحة الإجماع متوقفة عليه ، أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فالاحتجاج بالإجماع على ذلك الشىء يكون ممتنعا لتوقف صحة كل واحد منهما على الآخر ، وهو دور،وذلك كالاستدلال على وجود الرب تعالى وصحة رسالة النبى عليه الصلاة والسلام بالإجماع من حيث أن صحة الإجماع متوقفة على النصوص الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ.
وصحة النصوص متوقفة على وجود الإله المرسل ، وكون محمد رسولا ، فإذا توقف معرفة وجود الله ورسالة رسوله محمد على صحة الإجماع كان دورا.
وإن كان من القسم الثانى فالمجمع عليه إما أن يكون من أمور الدين أم من أمور الدنيا فإن كان من أمور الدين فهو حجة مانعة من المخالفة إن كان قطعيا من غير خلاف عند القائلين بالإجماع وسواء أكان ذلك المتفق عليه عقليا كرؤية الله لا فى جهة ونفى الشريك لله تعالى ، أو شرعيا كوجوب الصلاة والزكاة ونحوها ، وأما إن كان المجمع عليه من أمور الدنيا كالإجماع على ما يكون من الآراء فى الحروب ، وترتيب الجيوش ، وتدبير أمور الرعية فقد اختلف فيه قول القاضى عبد الجبار بالنفى والإثبات، فقال تارة بامتناع مخالفته، وتارة بالجواز، وتابعه على كل واحد من القولين جماعة.
والمختار إنما هو المنع من المخالفة، وأنه حجة لازمة لأن العمومات الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ، ووجوب اتباعهم فيما أجمعوا عليه: عامة فى كل ما أجمعوا عليه (296).
ويتفق الحنفية فى ذلك مع الآمدى.
وزادوا: أن بعضهم يرى أن الأمور المستقبلة كأشراط الساعة، وأمور الآخرة لا تحتاج إلى إجماع، أى لا يحتاج إلى الاحتجاج فيها بالإجماع، لأن الغيب لا مدخل فيه للاجتهاد والرأى، إذ لا يكفى فيه الظن فلا بد من دليل قطعى عليه، أى فإن جاء نص قطعى ثبت فيغنى عن الإجماع
وعلق شارح مسلم الثبوت على هذا بقوله: والحق أنه يصح الاحتجاج فيها أيضا لتعاضد الدلائل،
إلخ (297).
ويوافق المالكية أيضا على التفصيل الذى ذكره الآمدى (298) وكذلك الزيدية وأضافوا التمسك به أيضا فى الأمور اللغوية (299).
ولم نجد ما يخالف ذلك فى المذاهب الأخرى، إلا حين يعرفون الإجماع فيذكرون أنه على أمر دينى وقد استوفينا هذا فى التعريف.

__________

(169 ) سورة الأحزاب: 33.
(170) راجع هداية العقول ج 1 ابتداء من ص 509 وما بعدها.
(171 ) سورة الأحزاب: 28.
(172) سورة الأحزاب: 32.
(173 ) السورة نفسها: 33.
(174) السورة نفسها:34.
(175) راجع هداية العقول ابتداء من ص 509 ج 1 فما بعدها ، ص 228 ج 2 من شرح مسلم الثبوت فما بعدها.
(176 ) انظر ص349 ج 1 من الأحكام.
(177 ) إرشاد الفحول للشوكانى ص78.
(178 ) ص 35 من شرح العضد على مختصر ابن الحاجب ج 2.
(179) ص187 ج 1 من المستصفى مع يسير جدا من التصرف.
(180 ) ص80 ج 2 من طلعة الشمس 0
(181) ص78 من إرشاد الفحول.
(182) المصدر السابق فى الموضع نفسه.
(183 ) ص 80 ج 2 من طلعة الشمس فى أصول الإباضية مع قليل من التصرف، ومثله فى كتاب هداية العقول فى أصول الزيدية ص 538 وما بعدها ج 1 وفى غير ذلك من كتب الأصول.
(184) انظر حواشى هداية العقول ص 541 ج 1 للزيدية.
(185) الأحكام للآمدى ص357 ج 1 وشرح الإسنوى ص 881.
(186 ) ص 81 ج 2 من طلعة الشمس.
(187) روضة الناظر ص366 ج 1 انظر الحاشية
(188) الأحكام للآمدى ج 1 ص357 0
(189) طلعة الشمس الموضع السابق.
(190) ص 541 ج 2 من هداية العقول من أصول الزيدية، انظر الحاشية.
(191) روضة الناظر فى أصول الحنابلة ص 366 ج 1.
(192) المستصفى للغزالى ص187 ج 1.
(193 ) هداية العقول فى أصول الزيدية ص 539 ج 1.
(194) إرشاد الفحول للشوكانى ص 78.
(195 ) الأحكام للآمدى ملخصا من المسألة الثامنة التى تبدأ من ص 336 ج 1.
(196) اقرأ فى ذلك المستصفى للغزالى ص186 ج 1 للشافعية، وحاشية عبد العزيز البخارى على كشف الأسرار ص 966 ج3 للحنفية، والآمدى فى الموضع الذى ذكرناه للشافعية، وروضة الناظر ص 358 ج ا للحنابلة، وهداية العقول ص 588 ج 1 للزيدية ، وطلعة الشمس للإباضية ص 78 ج 2.
(197 ) الأحكام للآمدى فى الموضع السابق وهداية العقول للزيدية فى الموضع السابق أيضا.
(198) اقرأ المراجع السابقة فى كتب الأصول.
(199 ) المراجع نفسها.
(200) المراجع نفسها.
(201) ج 2 ص 34 من مختصر ابن الحاجب وشرحه للعضد.
(202 ) المراجع السابقة.
(203) الأحكام للآمدى ج 1 ص 344 ومسلم الثبوت وشرحه ج 2 ص 221، 222 والذخيرة ج 1 ص 110 للمالكية. وشفاء العليل على الكافل للزيدية ج 1 ص63، وطلعة الشمس للإباضية ج 2 ص 81.
(204 ) انظر فى هذا كله الأحكام للآمدى ج 1 ص 345 وما بعدها وغيرها من المراجع السابق ذكرها.
(205 ) شرح ملاجيون على المنار ج 2 ص107.
(206 ) الأحكام للآمدى ج 1 ص366.
(207) طلعةالشمس ج 2 ص 86.
(208) طلعة الشمس فى الموضع السابق ذكره وما بعده.
(209) طلعة الشمس فى الموضع السابق ذكره.
(210)الأحكام للآمدى ج1 ص 366 والمنار ج 2 ص7 0 1
(211 ) الذخيرة ج1 ص 109 ومختصر ابن الحاجب ج2 ص 38.
(212 )هداية العقول ج1 ص567.
(213 )الأحكام لابن حزم ج 4 ص153.
(214 ) طلعة الشمس ج 2 ص 68.
(215 ) الأحكام للآمدى فى الموضع السابق وإرشاد الفحول ص79.
(216 )المراجع السابقة.
(217 ) الأحكام للآمدى ج1 ص 358 وحاشية عبد العزيز البخارى على الكشف ج 3 ص966 والذخيرة ج1 ص 111 وهداية العقول ج1 ص 566 وطلعة الشمس ج 2 ص87 وروضة الناظرج1 ص346.
(218) إرشاد الفحول ص 75.
(219 ) طلعة الشمس ج 2 ص 83، 84.
(220 )إرشاد الفحول ص75.
(221 ) طلعة الشمس ج2 ص 84.
(222 ) المرجع السابق.
(223 ) شرح النسفى على المنار ج2 ص 110 وكذلك شرح ملاجيون فى الموضع نفسه.
(224 ) المصدر السابق.
(225) شرح الإسنوى ج 3 ص923.
(226 ) الذخيرة ج 1 ص 110.
(227 ) روضة الناظر ج 1 ص385.
(228) هداية العقول ج1 ص 574.
(229) طلعة الشمس ج 2 ص 84.
(230) إرشاد الفحول ص 75 وغيره من مراجع الأصول.
(231) المصدر السابق.
(232 ) المصدر السابق.
(233) طلعة الشمس ص 85.
(234 ) الأحكام لابن حزم ج 4 ص 141 مع قليل جدا من التصرف.
(235) المستصفى للغزالى ج 1 ص 215. وحاشية كشف الأسرار لعبد العزيز البخارى ج 3 ص 985.
(236 ) الذخيرة 110.
(237 ) روضة الناظر ج 2 ص 456.
(238) حاشية عبد العزيز البخارى على كشف الأسرار ج3 ص595، 596.
(239 ) روضة الناظر ج 1 ص 229، 330.
(240 ) حاشية عبد العزيز البخارى فى الموضع السابق.
(241) هداية العقول ج 1 ص595، 596.
(242 ) شرح الإسنوى على المنهاج ج 3 ص 934.
(243) إرشاد الفحول ص 81.
(244) روضة الناظر ج 1 ص 229.
(245) المصدر السابق انظر الشرح.
(246 ) شرح الكافل لابن لقمان الزيدى ص75.
(247 ) طلعة الشمس ج 2 ص85.
(248) إرشاد الفحول ص 81.
(249 ) كشف الأسرار للبزدوى ج 3 ص 982.
(250) شرح الكشف لعبد العزيز البخارى فى الموضع السابق ذكره.
(251 ) إرشاد الفحول ص 1 8.
(252 ) الأحكام للآمدى ج1 ص394.
(253) مسلم الثبوت وشرحه ج2 ص 6 22، 227.
(254 ) شرح الإسنوى ج 3 ص900، 901.
(255 ) الذخيرة ج1 ص109 0
(256 ) روضة الناظر ج1 ص 376.
(257 ) هداية العقول ج1 ص6 58، 587.
(258) طلعة الشمس ص 83.
(259 ) الأحكام لابن حزم ج 4 ص 55 1، 56 1.
(260) الأحكام للآمدى ج1 ص395.
(261 ) المرجع السابق.
(262 ) إرشاد الفحول ص 1 8.
(263 ) حاشية الإسنوى نقلا عن مسلم الثبوت- انظر الحاشية المذكورة ج 3 ص 899.
(264 ) الذخيرة ج1 ص 109.
(265 ) روضة الناظر ج1 ص 376.
(266 ) هداية العقول ج1 ص590.
(267) الأحكام لابن حزم ج4 ص 155.
(268 ) شرح الإسنوى ج 3 ص898.
(269 ) هداية العقول فى الموضع السابق.
(270) طلعة الشمس ج 2 ص83.
(271) شرح الإسنوى ج 3 ص 899.
(272 ) شرح مسلم الثبوت ج2 ص 235.
(273 ) الأحكام للآمدى ج 1ص 384 وحاشية الشيخ بخيت على شرح الإسنوى والشرح المذكور ج 3 ص 883 وإرشاد الفحول ص 82 وهداية العقول للزيدية ج ا ص 1 58. والمنار ج2 ص 112.
(274) روضة الناظر ج1 ص 77 3.
(275 ) الاحكام للآمدى ج 1 الموضع السابق.
(276) الاحكام للآمدى وهداية العقول وإرشاد الفحول فى المواضع السابقة. وطلعة الشمس ج2 ص 89.
(277 ) الاحكام للآمدى وغيره فى الموضع نفسه.
(278 ) انظر المراجع السابقة والذخيرة ج 1 ص 108 ومختصر ابن الحاجب وشرحه ج2 ص 39 ،40.
(279 ) شرح الإسنوى على المنهاج ج 3 ص 980.
(280) هداية العقول ج 1 ص 1 59.
(281 ) شرح الإسنوى على المنهاج وحاشيته ج3 ص889 إلى 93.
(282 ) شرح الإسنوى ج 3 ص908.
(283) عبد العزيز البخارى على الكشف ج 3 ص 969.
(284) المستصفى ج1 ص 195.
(285) إرشاد الفحول ص 85.
(286) ج 4 ص 175.
(287) إرشاد الفحول ص 86.
(288) شرح الإسنوى ج 3ص 932.
(289) مسلم الثبوت وشرحه ج 2 ص 242.
(290) الذخيرة ج 1 ص 109.
(291 ) روضة الناظر ج 1 ص 387.
(292 ) طلعة الشمس ج 2 ص 88.
(293) هداية العقول ج1 ص 595.
(294) هداية العقول فى الموضع نفسه وكذلك شرح مسلم الثبوت فى الموضع السابق ذكره.
(295)المراجع السابقة.
(296 ) الأحكام للآمدى ج1 ص 406.
(297 ) شرح مسلم الثبوت ج 2 ص 246.
(298) الذخيرة ج1 ص 111.
(299) هداية العقول ج 1 ص 594.
(1/78)
إجمال

1- تعريف المجمل:
ا ) الإجمال فى اللغة: المجمل لغة هو المبهم من أجمل الأمر إذا أبهم، وقيل: هو المجموع، من أجمل الحساب إذا جمعه وجعله جملة واحدة، وقيل: هو المتحصل من أجمل الشىء إذا حصله، والجملة جماعة كل شىء بكماله (1).
ب ) تعريف الإجمال فى اصطلاح الأصوليين:
يعرف من تعريفهم للمجمل على اختلافهم فى ذلك.
ج ) تعريف المجمل عند الحنفية:
المجمل عند الأحناف أحد أقسام أربعة للمبهم: وهى الخفى، والمشكل، و المجمل، والمتشابه.
ولهم فيه تعريفات منها:
المجمل، هو ما ازدحمت فيه المعانى واشتبه المراد منه اشتباها لا يدرك بنفس العبارة بل بالرجوع إلى الاستفسار، ثم الطلب ثم التأمل (2).
ومنها المجمل " لفظ لا يفهم المراد منه إلا باستفسار من المجمل وبيان من جهته، وذلك إما لتوحش فى معنى الاستعارة، أو فى صيغة عربية مما يسميه أهل الأدب لغة غريبة (3).
ومنها المجمل " اللفظ الذى خفى المراد منه فلا يدرك إلا بالنقل " (4).
د ) تعريف المجمل عند المتكلمين:
عرف المجمل عند علماء الأصول الذين جروا على طريقة المتكلمين بتعريفات عدة:
فعرفه أبو إسحاق الشيرازى بقوله:
" المجمل: هو ما لا يعقل معناه من لفظه ويفتقر فى معرفة المراد إلى غيره " (5).
ويعرفه الجوينى فى البرهان فيقول: " المجمل فى اصطلاح الأصوليين: هو المبهم، والمبهم هو الذى لا يعقل معناه، ولا يدرك منه مقصود اللافظ ومبتغاه " (6).
وعرفه الآمدى فقال: " الحق أن يقال بأن المجمل هو ما له دلالة على أحد أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه"(7).
وعرفه ابن الحاحب بقوله: " المجمل هو ما لم تتضح دلالته " (8).
وقال القفال الشاشى وابن فورك: " المجمل ما لا يستقل بنفسه فى المراد منه حتى يأتى تفسيره " (9).
الهاء ) تعريف المجمل عند الظاهرية يعرف ابن حزم الظاهرى المجمل بقوله: " لفظ يقتضى تفسيرا يؤخذ من لفظ آخر" (10 ).
أقسام المجمل
المجمل أقسام ثلاثة: مجمل بين حقائقه، ومجمل بين أفراد الحقيقة الواحدة ومجمل بين مجازاته. وفى بيان ذلك يقول البيضاوى: " اللفظ إما أن يكون مجملا بين حقائقه، كقوله تعالى: " ثلاثة قروء " أو أفراد حقيقة واحدة مثل: " أن تذبحوا بقرة "، أو مجازاته إذا انتفت الحقيقة وتكافأت المجازات (11).
ويقول الإسنوى شرحا لذلك: المجمل على أقسام:
أحدها: أن يكون مجملا بين حقائقه، أى بين معان وضع اللفظ لكل منها، كقوله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء "، فإن القرء موضوع بإزاء حقيقتين وهما: الحيض والطهر.
والثانى: أن يكون مجملا بين أفراد حقيقة واحدة، كقوله تعالى: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة "، فإن لفظ البقرة موضوع لحقيقة واحدة معلومة ولها أفراد، والمراد واحد معين منها.
والثالث: أن يكون مجملا بين مجازاته وذلك إذا انتفت الحقيقة، وتكافأت المجازات، فلم يترجح بعضها على بعض ".
أسباب الإجمال
الذى يؤخذ من تعريفات الحنفية للمجمل، أن أسباب الإجمال ثلاثة (12).
أولا: ازدحام معانى اللفظ واشتباه المراد منها اشتباها لا يدرك بنفس العبارة، " بل بالرجوع إلى الاستفسار ثم الطلب، ثم التأمل وذلك كالألفاظ المشتركة، مثل المولى، والقرء.
ثانيا: التوحش فى معنى الاستعارة، وذلك إذا نقل اللفظ من معناه فى اللغة إلى معنى غير معلوم يقصده الشارع منه، وذلك كالصلاة. والصوم والحج وغير ذلك من الألفاظ التى نقلت من معناها لغة إلى معنى شرعى غير معلوم لنا قبل بيانه من الشارع نفسه.
ثالثا: غرابة الصيغة أو اللغة الغريبة ومثلوا له باستعمال كلمة. "هلوعا" فى قولة تعالى " إن الإنسان خلق هلوعا " التى بينها الشارع بقوله " إذا مسه الشر جزوعا. وإذا مسه الخير منوعا".
مواضع الإجمال
بيَّن الغزالى مواضع الإجمال فقال:
" اعلم أن الإجمال تارة يكون فى لفظ مفرد، وتارة يكون فى لفظ مركب، وتارة فى نظم الكلام والتصريف وحروف النسق ومواضع الوقف والابتداء. أما اللفظ المفرد فقد يصلح لمعان مختلفة كالعين للشمس والذهب والعضو الباصر والميزان، وقد يصلح لمتضادين كالقرء، للطهر والحيض، والناهل للعطشان والريان، وقد يصلح لمتشابهين بوجه ما ، كالنور للعقل ونور الشمس، وقد يصلح لمتماثلين كالجسم للسماء والأرض، وقد يكون موضوعا لهما من غير تقديم وتأخير 0 وقد يكون مستعارا لأحدهما من الآخر كقولك: الأرض أم البشر فإن الأم وضع اسما للوالدة أولا، وكذلك اسم المنافق والكافر والفاسق والصوم والصلاة فإنه نقل فى الشرع إلى معان ولم يترك المعنى الوضعى أيضا.
أما الاشتراك مع التركيب فكقوله تعالى: " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح ". فإن جميع هذه الألفاظ مرددة بين الزوج والولى 0
وأما الذى بحسب التصريف فكالمختار للفاعل والمفعول، وقد يكون بحسب الوقف والابتداء مثل قوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم " من غير وقف يخالف الوقف على قوله " إلا الله "، وذلك لتردد الواو بين العطفة والابتداء " (13).
ولا يختلف الشيرازى والآمدى فى بيانهما لمواضع الجنس والقدر فيحتاج إلى بيان.
الإجمال فى الأفعال
يقرر الأصوليون أن الإجمال كما يكون فى الأقوال يكون فى الأفعال، ومثال ذلك أن يفعل الرسول - عليه الصلاة والسلام - فعلا يحتمل وجهين احتمالا متساويا، مثل ما روى من جمعه فى السفر، فإنه مجمل لأنه يجوز أن يكون فى سفر طويل أو فى سفر قصير، فلا يجوز حمله على أحدهما دون الآخر إلا بدليل.
ومثله أيضا أن يروى أن رجلا أفطر فأمره النبى صلى الله عليه وسلم بالكفارة، فهو مجمل لاحتمال أن يكون الإفطار بالجماع أو بتناول الطعام، فلا يحمل على أحدهما دون الآخر إلا بدليل (14).
ويقرر الإسنوى ذلك فيقول (15):
" المجمل قد يكون فعلا أيضا، كما إذا قام النبى صلى الله عليه وسلم من الركعة الثانية فإنه يحتمل أن يكون عن تعمد فيدل على جواز ترك التشهد الأول، ويحتمل أن يكون عن سهو فلا يدل عليه ".
حكم المجمل
يبين شمس الأئمة السرخسى حكم المجمل فيقول: " وحكمه اعتقاد الحقية فيما هو المراد، والتوقف فيه إلى أن يتبين المراد به من المجمل " (16).
ويبين أبو إسحاق الشيرازى حكم المجمل فيقول: " وحكم المجمل التوقف فيه إلى أن يفسر، ولا يصح الاحتجاج بظاهره فى شىء يقع فيه النزاع " (17).
وقوع الإجمال فى الكتاب والسنة
يرى جمهور الأصوليين أن الإجمال واقع فى الكتاب والسنة وأنكر ذلك داود الظاهرى.
يقول الشوكانى فى إرشاد الفحول: " اعلم أن الإجمال واقع فى الكتاب والسنة، قال أبو بكر الصيرفى: ولا أعلم أحدا أبى هذا غير داود الظاهرى " (18).
ويقول صاحب جمع الجوامع:
" والأصح وقوعه- أى المجمل- فى الكتاب والسنة، ومنه قوله تعالى " أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح "، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: " لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة فى جداره ".
ونفاه داود الظاهرى ويمكن أن ينفصل عنها بأن الأول ظاهر فى الزوج لأنه المالك للنكاح، والثانى ظاهر فى عوده إلى الأحد، لأنه محط الكلام " (19).
التعبد بالمجمل قبل البيان
قال الماوردى والرويانى: " يجوز التعبد بالخطاب المجمل قبل البيان، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن وقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة فى أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم، وتعبدهم بالتزام الزكاة قبل بيانها. قالا: وإنما جاز الخطاب بالمجمل وإن كانوا لا يفهمونه لأحد أمرين:
الأول: أن يكون إجماله توطئة للنفس على قبول ما يعقبه من البيان، فإنه لو بدأ فى تكليف الصلاة بها لجاز أن تنفر النفوس منها، ولا تنفر من إجمالها.
" والثانى: أن الله تعالى جعل من الأحكام جليا وجعل منها خفيا يتفاضل الناس فى العمل بها ويثابوا على الاستنباط لها، فلذلك جعل منها مفسرا جليا وجعل منها مجملا خفيا " (20).
ويقرر الغزالى ذلك أيضا فيقول:
" يجوز الخطاب بمجمل يفيد فائدة ما لأن قو له تعالى " وآتوا حقه يوم حصاده " يعرف منه وجوب الإيتاء، ووقته، وأنه حق فى المال فيمكن العزم فيه على الامتثال والاستعداد له، ولو عزم على تركه عصى. وكذلك مطلق الأمر إذا ورد ولم يتبين أنه للإيجاب أو الندب أو أنه على الفور أو التراخى أو أنه للتكرار أو للمرة الواحدة أفاد علم اعتقاد الأصل ومعرفة التردد بين الجهتين.
وكذلك " أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح " يعرف إن كان سقوط المهر بين الزوج والولى فلا يخلو عن أصل الفائدة وإنما يخلو عن كمالها، وذلك غير مستنكر، بل واقع فى الشريعة والعادة، بخلاف قول المخالف (21).
بقاء المجمل فى القرآن
بعد وفاة الرسول - عليه الصلاة والسلام -
اختلف الأصوليون فى بقاء المجمل فى القرآن بعد وفاة الرسول.
يقول الشوكانى (22 ): " وقيل: أنه لم يبق مجمل فى كتاب الله تعالى بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم ، وقال إمام الحرمين المختار: أن ما ثبت التكليف به لا إجمال فيه، لأن التكليف بالمجمل تكليف بالمحال، وما لا يتعلق به تكليف فلا يبعد استمرار الإجمال فيه بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ".
ويقول الإسنوى (23): "واختلفوا فى جواز بقاء الإجمال بعد وفاة الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال فى البرهان بعد حكاية هذا الخلاف المختار أنه إن تعلق به حكم تكليفى فلا يجوز وذلك كالأسماء الشرعية مثل الصلاة فإنا نعلم قطعا أن معناها اللغوى وهو الدعاء غير مراد فلا بد من معنى آخر شرعى، وهو غير مدرك بالعقل إلا ببيان من الشارع وقد بينه قولا وفعلا، وكالربا فإنه لغة مطلق الزيادة، ولا شك أنه ليس كل زيادة محرمة، فهى زيادة مخصوصة فى الشرع وهى غير معلومة إلا بالبيان وقد بينها وأما ما لا يتعلق به التكليف كالمتشابه الذى لا يدرك لا بالعقل ولا بغيره فيجوز (24).
ويقول ابن السبكى ( 25): "وفى بقاء المجمل فى الكتاب والسنة غير مبين إلى وفاته - صلى الله عليه وسلم- أقوال:
أحدها: لا، لأن الله تعالى أكمل الدين قبل وفاته بقوله: " اليوم أكملت لكم دينكم ".
ثانيها: نعم، قال الله تعالى فى متشابه الكتاب: " وما يعلم تأويله إلا الله " إذ الوقف هنا كما عليه جمهور العلماء، وإذا ثبت فى الكتاب ثبت فى السنة لعدم القائل بالفرق بينهما.
ثالثها: الأصح: لا يبقى المجمل المطلق بمعرفته غير مبين للحاجة إلى بيانه حذرا من التكليف بما لا يطاق بخلاف غير المكلف به ".
علاقة المجمل بغيره من الألفاظ
العلاقة بين المجمل والمبهم
مسلك الأحناف:
يقسم الأحناف المبهم أو خفى الدلالة إلى أقسام أربعة: الخفى، والمشكل، والمجمل، والمتشابه 0
وعلى هذا يعد المجمل عندهم قسما من أقسام المبهم، فكل مجمل عندهم مبهم دون العكس.
يقول صاحب التلويح: " اللفظ إذا ظهر منه المراد، وإذا خفى فخفاؤه إما لنفس اللفظ أو لعارض الثانى يسمى خفيا، والأول إما أن يدرك المراد بالنقل أو لا، الأول يسمى مشكلا، والثانى إما أن يدرك المراد بالنقل أو لا يدرك أصلا، الأول يسمى مجملا، والثانى متشابها، فهذه الأقسام متباينة بلا خلاف " (26).
مسلك المتكلمين:
يرى جمهور من كتب من الأصوليين على طريقة المتكلمين أن المجمل هو المبهم، يقول الغزالى فى المستصفى (27): " اللفظ المفيد بالإضافة إلى مدلوله إما ألا يتطرق إليه احتمال فيسمى نصا، أو يتعارض فيه الاحتمالات من غير ترجيح فيسمى مجملا ومبهما".
ويقول الجوينى: " ولكن المجمل فى اصطلاح الأصوليين: هو المبهم، والمبهم هو الذى لا يعقل معناه، ولا يدرك منه مقصود اللافظ ومبتغاه " (28).
وعلى هذا لا يكون المجمل قسما من أقسام المبهم كما يقول الأحناف، بل هو نفسه، ويكون كل مجمل عند الأحناف مجمل عند المتكلمين ولا عكس (انظر أيضا: مبهم ).
العلاقة بين المجمل والمتشابه
مسلك الأحناف:
يظهر مما تقدم أن كلا من المجمل والمتشابه قسم من أقسام المبهم أى الخفى بالمعنى الأعم، والفرق بينهما أن المجمل يدرك المراد منه بالنقل، وأما المتشابه فلا يدرك المراد منه أصلا. فالعلاقة بينهما إذن هى التباين (29).
مسلك المتكلمين:
يرى أكثر المتكلمين أن المتشابه هو المجمل يقول الغزالى (30): " والمتشابه ما تعارض فيه الاحتمال، وأما المتشابه فيجوز أن يعبر به عن الأسماء المشتركة كالقرء، والذى فى قوله تعالى: " أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح "، فإنه مردد بين الزوج والولى، وكاللمس المردد بين المس والوطء، وقد يطلق على ما ورد فى صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه ويحتاج إلى تأويله، فهذا تعريف للمتشابه بما يجعله والمجمل شيئا واحدا، وذلك فى الإطلاق المشهور.
ويقول إمام الحرمين فى البرهان: "المختار عندنا أن المحكم كل ما علم معناه وأدرك فحواه والمتشابه هو المجمل " (31).
ويقول أبو إسحاق الشيرازى (32): " وأما المتشابه فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: هو والمجمل واحد. ومنهم من قال: المتشابه ما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه والصحيح الأول، لأن حقيقة المتشابه ما أشتبه معناه، وأما ما ذكروه فلا يوصفه بذلك ".
أما الآمدى فقد جعل المجمل قسما من أقسام المتشابه، حيث جعل المتشابه ما تعارض فيه الاحتمال وذلك على جهتين: إما بجهة التساوى كالألفاظ المجملة، كما فى قوله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " لاحتمال القرء زمن الحيض والطهر على السوية، وإما لا على جهة التساوى كالأسماء المجازية، وإما ظاهره موهم للتشبيه، وهو مفتقر إلى تأويل، كقوله تعالى: " ويبقى وجه ربك "، " ونفخت فيه من روحى "، " مما عملت أيدينا " (33).
وعلى هذا يكون المجمل منوط من أنواع المتشابه عند الآمدى، فكل مجمل متشابه ولا عكس.
أما الإسنوى فقد جعل المتشابه جنسا لنوعين هما المجمل والمؤول، قال (34): " ثم أن المجمل والمؤول مشتركان فى أن كلا منهما يفيد معناه إفادة غير راجحة، إلا أن المؤول مرجوح أيضا، والمجمل ليس مرجوحا بل مساويا، فالقدر المشترك بينه من عدم الرجحان يسمى بالمتشابه، فهو جنس لنوعين: المجمل والمؤول " 0
مسلك أهل الظاهر:
أما ابن حزم الظاهرى فبعد أن عرف المجمل بأنه: " لفظ يقتضى تفسيرا يؤخذ من لفظ آخر " ذكر أن المتشابه لا يوجد فى شىء من الشرائع، ثم قرر بعد أن حصر مواضع المتشابه فى القرآن، أننا نهينا عن اتباع تأويله وعن طلبه، وأمرنا بالإيمان به جملة، وعلي هذا تكون العلاقة بين المجمل والمتشابه عنده التباين، إذ المجمل يؤخذ تفسيره من لفظ آخر، بينما المتشابه لا يمكن تفسيره " (35) (انظر أيضا: متشابه ).
العلاقة بين المجمل والعام
يرى جمهور الأصوليين أن العام من قبيل الظاهر أو واضح الدلالة بينما يرى البعض أنه قسم من أقسام المجمل (36).
ويقول صاحب التلويح: " حكم العام التوقف عند البعض حتى يقوم الدليل لأنه مجمل لاختلاف أعداد الجمع، وأنه يؤكد بكل وأجمع، ولو كان مستغرقا لما احتيج إلى ذلك، ولأنه يذكر الجمع ويراد به الواحد كقوله تعالى " الذين قال لهم الناس إن الناس "، وعند البعض يثبت الأدنى، وهو الثلاثة فى الجمع والواحد فى غيره، وعندنا وعند الشافعى رحمه الله يوجب الحكم فى الكل، لأن العموم معنى مقصود فلابد أن يكون لفظ يدل عليه " (37).
ويقول عبد العزيز البخارى: " وقد تحزبوا فرقا، فمنهم من قال: ليس فى اللغة صيغة مبينة للعموم خاصة لا تكون مشتركة بينه وبين غيره، والألفاظ التى ادعاها أرباب العموم لأنها عامة لا تفيد عموما ولا خصوصا، بل هى مشتركة بينهما أو هى مجملة، فيتوقف فى حق العمل والاعتقاد جميعا إلا أن يقوم الدليل على المراد، كما يتوقف فى المشترك أو كما يتوقف فى المجمل والخبر والأمر والنهى فى ذلك سواء، وهو مذهب عامة الأشعرية وعامة المرجئة، وإليه مال أبو سعيد البردعى من أصحابنا فعند هؤلاء لا يصح التمسك بعام أصلا " (38). (انظر أيضا: عام ).
العلاقة بين المجمل والمشترك
المشترك إن تجرد عن القرائن فهو مجمل وخالف فى ذلك الشافعى وبعض الأصوليين فقالوا: بوجوب حمله على الجميع.
يقول الإسنوى: " اللفظ المشترك قد يقترن به قرينة مبينة للمراد وقد يتجرد عنها فإن تجرد عن القرائن فهو مجمل إلا عند الشافعى والقاضى فإنه يحمله على الجميع " (39).
ويقول صاحب جمع الجوامع (40): والمشترك يصح إطلاقه على معنييه معا مجازا وعن الشافعى والقاضى والمعتزلة حقيقة، زاد الشافعى وظاهر فيهما عند التجرد عن القرائن المعينة لأحدهما ".
ويقول الشوكانى (41) فى إرشاد الفحول:
" اختلف فى جواز استعمال اللفظ المشترك فى معنييه أو معانيه، فذهب الشافعى والقاضى أبو بكر، وأبو على الجبائى، والقاضى عبد الجبار بن أحمد، والقاضى جعفر، وبه قال الجمهور وكثير من أئمة أهل البيت على جوازه، وذهب أبو هاشم وأبو الحسن البصرى والكرخى إلى امتناعه " (42).
وعلى هذا يكون المشترك من قبيل الظاهر عند الشافعى إذ إنه ظاهر فى إرادة جميع معانيه، مجملا عند غيره يجب التوقف فيه عند عدم القرينة حتى يرد البيان "( انظر: اشتراك ).
العلاقة بين المجمل والمتواطىء
عرف المتواطىء بأنه اللفظ الذى يتناول الكثير تناولا على السوية (43).
وتعريف المتواطىء بهذا يجعله من قبيل المجمل، وقد صرح بذلك بعض الأصوليين.
يقول صاحب جمع الجوامع: " وتأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الفعل جائز وواقع عند الجمهور، وسواء كان للمبين ظاهر وهو غير المجمل كعام يبين تخصيصه، ومطلق يبين تقييده، ودال على حكم يبين نسخه، أم لا، وهو المجمل كمشترك يبين أحد معنييه مثلا ومتواطىء يبين أحد ما صدقاته مثلا " (44) فقد جعل المتواطىء داخلا فى المجمل.
بيان الإجمال
بيان الإجمال نوع من أنواع البيان، ( انظر: بيان )0

__________

(1) انظر لسان العرب ج 11 ص 128، والقاموس المحيط ج 3 ص 531.
(2) أصول البزدوى وشرحه كشف الأسرار ج 1 ص 45 ، والمنار وشرحه ج 1 ص 0365
(3 ) انظر أصول السرخسى ج ا ص 168.
(4 ) انظرالتلويح على التوضيح ج 2 ص 126.
(5) انظر اللمع للشيرازى ص27.
(6) البرهان لوحة 110، 111 نقله صاحب تفسير النصوص.
(7 ) راجع الإحكام فى أصول الأحكام ج3 ص 9.
(8) انظر مختصر المنتهى لابن الحاجب مع شرح العضد، وإرشاد الفحول للشوكانى ص167.
(9 ) راجع إرشاد الفحول للشوكانى ص167.
(10) انظر الإحكام فى أصول الأحكام لابن حزم ج 1 ص 41.
(11 ) نهاية السول شرح منهاج الأصول ج 2 ص 508.
(12) انظر أصول البزدوى مع شرحه كشف الأسرار ج1 ص 54، والمنار للنسفى مع شرحه ج1 ص 365، وأصول السرخسى ج1 ص 168.
(13 ) انظر المستصفى للغزالى ج 1 ص 360 وما بعدها. وللإجمال مراجع أخرى يرجع فيها إلى كتب الأصول.
(14 ) راجع اللمع للشيرازى ص27، والإحكام للأمدى ج 3 ص 14.
(15 ) انظر نهاية السول شرح منهاج الأصول ج 2ص 512.
(16 ) راجع أصول السرخسى ج 1 ص 168.
(17 ) إرشاد الفحول للشوكانى ص 0168
(18 ) إرشاد الفحول ص168.
(19) راجع جمع الجوامع وحاشية البنانى عليه ج 2 ص 42، 43.
(20) راجع إرشاد الفحول للشوكانى ص 168.
(21 ) انظر المستصفى ج1 ص 376.
(22) إرشاد الفحول ص 168.
(23) نهاية السول شرح منهاج الأصول ج2 ص513.
(24 ) راجع نهاية السول شرح منهاج الأصول وحاشية الشيخ بخيت عليه ج 2 ص513.
(25) جمع الجوامع ج 1 ص 125.
(26) انظر التلوبح على التوضيح ج 1 ص 125.
(27) ج 1 ص 336.
(28 ) راجع البرهان لوحة 110، 0111
(29 ) راجع التلويح على التوضيح ج1 ص 126.
(30) المستصفى ج 1 ص 106.
(31) البرهان لإمام الحرمين لوحة 112.
(32 ) راجع اللمع لللشيرازى 29.
(33 ) راجع الإحكام للأمدى.
(34 ) نهاية السول ج2 ص 61.
(35) انظر الإحكام لابن حزم ج1 ص 48، ج4 ص 123.
(36) راجع المستصفى ج1 ص 378.
(37 ) راجع التلويح على التوضيح ج1 ص 38 ومرقاة الوصول شرح مرآة الأصول مع حاشية الأزميرى ج1 ص 35 وأصول البزدوى ج1 ص 291.
(38) انطر كشف الأسرار لعبد العزيز البخارى ج 1 2ص 299 وما بعدها.
(39 ) نهاية السول فى شرح منهاج الأصول مع حاشية الشيخ بخيت ج 2 ص 142.
(40) ج 1 ص 164.
(41) ج 1 ص 20.
(42) راجع الإحكام للآمدى ج 2 ص 352 وما بعدها، ومختصر المنتهى لابن الحاجب مع شرحه للعضد وحاشية السعد ج 2 ص 111، وكشف الأسرار لعبد العزيز البخارى ج 1 ص 40.
(43) إرشاد الفحول للشوكانى ص17، وجمع الجوامع ج 1 ص 150 ونهاية السول شرح منهاج الأصول ج 2 ص 44.
(44) جمع الجوامع مع حاشية البنانى ج 1 ص47.
(1/52)
إجهاض

التعريف به:
جاء فى المصباح: " أجهضت الناقة والمرأة ولدها إجهاضا أسقطته ناقص الخلق فهى جهيض و مجهضة بالهاء الأخيرة، وقد تحذف، و الجهاض اسم منه".
وفى القاموس: الجهيض و الجهض: الولد السقط أو ما تم خلقه ونفخ فيه الروح من غير أن يعيش.
ولم يخرج الفقهاء به عن هذا الاستعمال فيما رجعنا إليه من كتب المذاهب، وإنما يغلب فى عباراتهم إيراد لفظ. إسقاط بدل إجهاض: وإن كان الشافعية يكثر استعمالهم للفظ إجهاض.
فقد أورد الرملى (1) عبارة الاستجهاض فيما نقله عن الغزالى ، إذ بين أن العزل خلاف الاستجهاض و الوأد ، لأنه جناية على موجود حاصل.
وكذلك عبر الرملى نفسه إذ يقول (2):
" لو ضرب ميتة فأجهضت ميتا..، وكذا عبر الرشيدى بالإجهاض عن استعمال الدواء بقصد الإسقاط ، فقال (3)": " إن ما ذكر من الإجهاض " أن تستعمل دواء فإذا حملت أجهضت..".
وقال البجرمى: فى حاشيته على "الخطيب" (4): تفسيرا لكلمة الإجهاض الواردة فى عبارة الخطيب: إنه الرمى ، ونقل عبارة المصباح على أنها تقصر الإجهاض على الناقة فقط، ثم نقل عن الأزهرى وغيره أنه لا يقال أجهضت إلا فى الناقة خاصة، ويقال فى المرأة أسقطت. و قال: إن إطلاق الإجهاض على إسقاط المرأة مجاز.
لكن ما نقلناه عن المصباح صريح فى التسوية بين المرأة والناقة فى استعمال لفظ إجهاض.
كما عبر. الشيعة الجعفرية عن الإسقاط بلفظ الإجهاض أيضا إذ يقول صاحب الروضة البهية (5).
" وتعتبر قيمة الأم عند الجناية لا وقت الإجهاض الذى هو الإسقاط ".
حكم الإجهاض الأخروى
مذهب الحنفية:
قال الحصكفى فى كتابه الدرر (6):
" قالوا يباح إسقاط الولد قبل أربعة أشهر ولو بلا إذن الزوج".
وعلق على ذلك ابن عابدين بما نقله عن الطحطاوى عن النهر، قال فى النهر:
هل يباح الإسقاط بعد الحمل؟ نعم يباح ما لم يتخلق منه شىء، ولن يكون ذلك إلا بعد مائة وعشرين يوما.
وهذا يقتضى أنهم أرادوا بالتخلق نفخ الروح وإلا فهو غلط، لأن التخلق يتحقق بالمشاهدة قبل هذه المدة، كذا فى الفتح (7).
و إطلاقهم يفيد عدم توقف جواز إسقاطها قبل المدة المذكورة على إذن الزوج.
وفى كراهة الخانية (أى باب الكراهة فى كتاب الخانية) ولا أقول بالحل إذ المحرم لو كسر بيض الصيد ضمنه لأنه أصل الصيد، فلما كان يؤاخذ بالجزاء فلا أقل من أن يلحقها إثم هنا إذا أسقطت بغير عذراه.
قال ابن وهبان: ومن الأعذار أن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل وليس لأبى الصبى ما يستأجر به الظئر ويخاف هلاكه ونقل عن الذخيرة: لو أرادت الإلقاء قبل مضى زمن ينفخ فيه الروح هل يباح لها ذلك؟
اختلفوا فيه، وكان الفقيه على بن موسى يقول إنه يكره فإن الماء بعد ما وقع فى الرحم مآله الحياة فيكون له حكم الحياة كما فى بيضة صيد الحرم، ونحوه فى "الظهيرية ".
قال ابن وهبان: فإباحة الإسقاط محمولة على حالة العذر أو أنها لا تأثم إثم القتل انتهى.
قال: وبما فى الذخيرة يتبين أنهم ما أرادوا بالتخليق إلا نفخ الروح انتهى.
مذهب المالكية:
جاء فى شرح الدردير على متن خليل بحاشية الدسوقى(8): " لا يجوز إخراج المنى المتكون فى الرحم ولو قبل الأربعين يوما، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعا ".
وعلق الدسوقى على قول الدردير " ولو قبل الأربعين بأن هذا هو المعتمد، وقيل يكره إخراجه قبل الأربعين.
ونص ابن رشد (9): على أن مالكا استحسن فى إسقاط الجنين الكفارة ولم يوجبها لتردده بين العمد والخطأ. واستحسان الكفارة يرتبط بتحقق الإثم.
مذهب الشافعية:
نقل البجرمى: فى حاشيته على الإقناع (10) فرعا عن ابن حجر يقول له: اختلفوا فى التسبب لإسقاط ما لم يصل لحد نفخ الروح فيه، وهو مائة وعشرون يوما.
و الذى يتجه وفاقا لابن العماد وغيره الحرمة، ولا يشكل عليه جواز العزل لوضوح الفرق بينهما بأن المنى حال نزوله محض جماد لم يتهيأ للحياة بوجه بخلافه بعد استقراره فى الرحم، وأخذه فى مبادىء التخلق، يحرف ذللا بالإمارات.
وفى حديث مسلم أنه يكون بحد اثنين وأربعين ليلة، أى ابتداؤها.
ثم قال البجرمى: وقول ابن حجر:
" و الذى يتجه.. الخ، فى بعض الكتب. خلافه، وقوله: " وأخذه فى مبادىء التخلق " يفيد؟ نه لا يحرم قبل ذلك.
وفى حاشية الشبراملسى على نهاية المحتاج (11): اختلفوا فى جواز التسبب فى إلقاء النطفة بعد استقرارها فى الرحم.
فقال أبو إسحاق المروزى: يجوز إلقاء النطفة و العلقة ، ونقل ذلك عن أبى حنيفة.
وفى الإحياء فى بحث العزل ما يدل على تحريمه وهو الأوجه لأنها بعد الاستقرار آيلة إلى التخلق المهيأ لنفخ الروح.
وحكى الرملى فى شرحه، خلافا فى كتاب أمهات الأولاد.
وقد رجعنا إلى كتاب أمهات الأولاد فى المرجع المذكور (12) فإذا فيه ما يأتى: قال المحب الطبرى: اختلف فى النطفة قبل تمام الأربعين على قولين: قيل لا يثبت حكم السقط و الوأد ، وقيل لها حرمة ولا يباح إفسادها ولا التسبب فى إخراجها بعد الاستقرار فى الرحم بخلاف العزل.
قال الزركشى: وفى تحليق بعض الفقهاء قال الكرابيسى سألت أبا بكر بن أبى سعيد الفراتى عن رجل سقى جاريته شرابا لتسقط ولدها فقال: مادامت نطفة- أو علقة فواسع له ذلك إن شاء الله انتهى.
وقد أشار الإمام أبو حامد الغزالى الى هذه المسألة فى الإحياء فقال بعد أن قرر أن العزل خلاف الأولى ما حاصله: وليس هذا كالاستجهاض و الوأد لأنه جناية على وجود حاصل فأول مراتب الوجود: دفع النطفة فى الرحم فيختلط بماء المرأه فإفسادها جناية فإن صارت علقة أو مضغة فالجناية أفحش فان نفخت الروح و استقرت الخلقة زادت الجناية تفاحشا ثم قال: ويبعد الحكم بعدم تحرمه وقد يقال: إما حالة نفخ الروح فيما بعده الى الوضع فلا شك فى التحريم، وأما قبله فلا يقال انه خلاف الأولى بل يحتمل للتنزيه والتحريم ويقوى التحريم فيما قرب من زمن النفخ لأنه جريمة.
ثم أن تشكل فى صورة آدمى وجبت الغرة نعم لو كانت النطفة من زنا فقد يتخيل الجواز فلو تركت حتى نفخ فيها فلا شك فى التحريم 0
مذهب الحنابلة:
ونص الحنابلة (13) فيما يرويه أبن قدامة أن من ضرب بطن إمرأة فألقت جنينا فعليه كفارة وغرة، وإذا شربت الحامل دواء فألقى به جنيناً فعليها غرة وكفارة.
ومقتضى هذا النص وقوع الإثم فى إلقاء الجنين، لأن الكفارة إنما تترتب عليه كما هو مقتضى تسميتها كفارة.
وجاء فى الروض المربع بشرح زاد المقنع مختصر المقنع ( فى باب العدد " ويباح للمرأة إلقاء النطفة قبل أربعين يوما بدواء مباح ".
ومن هذا النص الفقهى ينتج أن الإجهاض بشرب الدواء المباح فى هذه الفترة حكمه الإباحة. وأما بعد صيرورته جنينا ففيه الإثم لوجوب الكفارة.
مذهب الظاهرية:
يصور ابن حز م مذهب الظاهرية (14):
" صح أن من ضرب حاملا فأسقطت جنينا فإن كان قبل الأربعة الأشهر قبل تمامها فلا كفارة فى ذلك لكن الغرة واجبة فقط لأن رسول الله حكم بذلك، لأنه لم يقتل أحدا لكنه أسقطها جنيا فقط، وإذا لم يقتل أحدا فلا كفارة فى ذلك إذ لا كفارة إلا فى القتل الخطأ ولا يقتل إلا ذو روح.
وهذا لم ينفخ فيه الروح بعد.
وإن كان بعد تمام الأربعة الأشهر، وتيقنت حركته بلا شك وشهد بذلك أربع قوابل عدول فإن فيه غرة فقط لأنه جنين قتل فهذه هى ديته.
والكفارة واجبة بعتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لأنه قتل مؤمنا خطأ.
ومقتضى ذلك حدوث الإثم على مذهبهم فى الإجهاض بعد تمام الأربعة الأشهر إذ أوجبوا الكفارة التى لا تكون ألا مع تحقق الإثم ولم يوجبوها فى الإجهاض قبل ذلك.
مذهب الزيدية:
جاء فى البحر الزخار (16) الذى يحكى المذهب الزيدى ، أنه يجوز تغيير النطفة
والعلقه والمضغة، لأنه لا حرمة للجماد. وجاء فى باب الجنايات (17): لا شىء فيما لم يتبين فيه التخلق والتخطيط كالمضغة و الدم.
ثم قال (18): أنه لا كفارة فى جنين، لأن النبى عليه الصلاة والسلام قضى بالغرة ولم يذكر كفارة، ثم إن ما خرج ميتا لم يوصف بالإيمان 0. ثم بين إنه إذا خرج حيا ثم مات ففيه الكفارة ، ومقتضاه وجود الإثم فى هذه ا لجزئية.
مذهب الإمامية:
نص صاحب الروضة البنية (19) على أنه تجب الكفارة بقتل الجنين حين تلجه الروح كالمولود، وقيل مطلقا سواء لم تلج فيه الروح، مع المباشرة لقتله لا مع التسبب.
مذهب الإباضية:
جاء فى شرح النيل (20): " ليس للحامل أن تعمل ما يضر بحملها من أكل أو شرب كبارد وحار- أو غيرهما كحجامة ورفع ثقيل ونزع ضرس، فإن تعمدت مع علمها بالحمل لزمها الضمان و الإثم ، وإلا فلا ألم ، وكذا غيرها إذا فعل مضرا يحملها فهو مثلها إذا تعمده فى حالى العلم بالحمل والجهل به، وأن أمرت من يرفع عليها ثقيلا ففعل فأسقطت فلا إثم إن كان على غير علم ولزمه الضمان وإلا لزمه الإثم والضمان، وقيل بسقوطهما فى حال الجهل، وإن علمت الحامل دون من يرفع الثقيل عليها لزمها وحدها الضمان، وأطال شارح النيل فى التفريعات.
حكم الإجهاض الدنيوى
يشمل حكم الإجهاض الدنيوى على ما يلزم فيه من جزاء كالغرة، وعلى أثره فى انقضاء العدة، وما يتعلق بالسقط من طهارة أو نجاسة وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه وارثه واستحقاقه فى الوقف والوصية وغير ذلك، و الذى يعنينا هنا هو الأول فقط لأنه الذى يختص من جهة كونه إجهاضا ، وأما الباقى فأحكامه- مشتركة مع كل جنين وسقط دون اعتداء.) أنظر: ( جنين، عدة، طهارة، جنا زة).
مذهب الحنفية:
نص فقهاء الأحناف (21) على أن من ضرب بطن إمرأة أو ظهرها أو جنينها أو رأسها أو عضوا من أعضائها ولو كانت المرأة كتابية أو مجوسية أو زوجته فألقت جنينا ميتا وحب على العاقلة غرة وهى نصف عشر دية الرجل لو كان الجنين ذكرا وعشر دية " المرأة لو كان أنثى..
وقالوا: أن وجوب الغرة وأن- كان مخالفا للقياس إلا أنه ثابت بالسنة.
فقد روى عن محمد بن الحسن أنه قال: بلغنا أن رسول الله صلوات الله عليه قضى بالغرة على العاقلة، وقالوا: إن ألقت الجنين حيا فمات ففيه دية كاملة وكفارة، وإن ألقته ميتا فماتت الأم فدية فى الأم، وغرة فى الجنين لما تقرر إن الفعل يتعدد بتعدد أثره..
وقد ذكر الميرغينانى فى "الهداية" (22) أنه صح عن النبى عليه الصلاة والسلام القضاء بالدية والغرة فى هذه الجزئية، كما قالوا بتعدد الغرة لو جنينين فأكثر وإن ماتت فألقته ميتا فدية فقط ولا شىء فى الجنين لأن موت الأم سبب لموته ظاهرا إذ حياته بحياتها وتنفه بتنفسها، فيتحقق مونه بموتها، وإن ألقته حيا بعد ما ماتت فمات بعد ذلك فعليه دية الأم ودية الجنين كما إذا ألقته حيا ومات.
ثم نصوا على أن ما يجب فيه يورث عنه وترث منه أمه ولا يرث ضاربه منها ولا من غيرها لأنه قاتل مباشرة (أنظر: غرة، جنين ).
وقالوا: إن فى جنين الأمة الرقيق الذكر نصف عشر قيمته لو حيا فى مجال الضارب حالا، وعشر قيمته لو أنثى كذلك، كما قالوا: أنه لا يجب فى الجنين الذى نزل ميتا بجناية كفارة بل هى مندوبة، وأما إن نزل حيا ثم مات ففيه الكفارة.
وقالوا: إن ما استبان بعض خلقه بمنزلة الجنين التام فى جميع الأحكام.
وإذا أسقطت المرأة جنينا عمدا بدواء أو فعل كضربها بطنها ومعالجة فرجها حتى أسقطت أو حملت حملا ثقيلا بقصد الإسقاط ولم يأذن لها زوجها فإن عاقلتها تضمن الغرة بذلك، وأما إن أذن الزوج أو لم تتعمد الزوجة فلا غرة لعدمه التعدى ، وعلق على ذلك ابن عابدين فى حاشيته على الدر (23): بأنه يتمشى على الرواية الضعيفة والصحيح قياسا على ما فى الكافى: أنه لا تسقط الغرة عن عاقلة المرأة بإذن زوجها بإتلاف الجنين لأن أمره لها ليس بأقل من فعله، وهو إذا ضرب إمرأته فألقت جنينا لزم عاقلته الغرة ولا يرث منها.
وقال "صاحب الدر": لو أمرت الحامل امرأة بالاعتداء عليها ففعلت لا تضمن المأمورة، وعلق على ذلك ابن عابدين لما نقله عن عزمى من أن نفى الضمان عن المأمورة لا يلزم منه ففيه عن الآمرة إذا أمرت بغير إذن زوجها.
ونقل صاحب الدر عن كتاب الواقعات: إن من شربت دواء لتسقط الجنين عمدا فإن ألقته حيا فمات عليها الدية والكفارة وان ألقته ميتا فالغرة، ولا ترث فى الحالين. وعلق ابن عابدين وعلى وجوب الدية والكفارة فى الصورة الأولى بأن ذلك الحكم ثابت ولو كان الفعل بإذن الزوج لتحقق الجناية على نفس حية فلا تجرى فيها الإباحة.
وقال: إن هذا بخلاف ما إذا ألقته ميتا فإنه لو كان بإذن الزوج فلا غرة عليها.
وابن عابدين يتمشى فى هذا مع ما ذكره صاحب التنوير والدر وقال: أنه رواية ضعيفة.
مذهب المالكية:
يقول المالكية فيما يروية كل من الدردير و الدسوقى (24): أن فى إلقاء الجنين وإن علقة عشر ما فى أمه ولو كانت أمة، وما يجب فى أمة إن كانت حرة. الدية ، وإن كانت أمة القيمة، وسواء كانت الجناية عمدا أو خطأ من أجنبى أو أب أو أم كما لو شربت ما يسقط به الحمل فأسقطته ، وهذا الغرم يدفع نقدا أى معجلا، ويكون فى مال الجانى إلا أن تبلغ ثلث ديته فعلى العاقلة، وله أن يدفع بدل عشر الدية الغر، وهذا التخيير فى جنيين الحرة، أما جنين الأمة فيتعين فيه النقد( أى العين ) ولا غرة فيه والغرة عبد أو وليدة تساويه) (أنظر:غرة )
ثم قالوا إن هذا الحكم إن أنفصل كله ميتا وأمه حية فان انفصل كله بعد موتها أو بعضه وهى حية وباقيه بعد موتها فلا شىء فيه، وان انفصل عنها وهو حى حياة مستقرة بأن استهل صارخا أو رضع كثيرا سواء كانت هى حية أو ميتة ثم مات فالدية واجبة أن أقسم أولياؤه أنه مات من فعل الجانى ولو مات بعد تحقق حياته عاجلا، فان لم يقسموا فلا غرة، لأن الجنين إذا استهل صار من جملة الأحياء والديه تتوقف على القسامة وقد امتنع الأولياء عنها ( أنظر: دية، قسامة) وإن تعمد الجانى الجنين بضرب بطن أو رأس أو ظهر لأمه فنزل مستهلا ثم مات ففى القصاص بقسامة أو الدية بقسامة فى مال الجانى لتعمده، خلاف.
والراجح فى تعمد البطن أو الظهر القصاص وفى تعمد الرأس الدية فى ماله كتعمد ضرب يد أو رجل.
ويتعدد الواجب عندهم من عشر أو غرة إن لم يستهل أو دية أن استهل بعدد الجنين، كما نصوا على أنه يورث على نظام الفرائض، وقالوا: انه إذا كان الإجهاض بفعل أحد الأبوين أو الأخوة اعتبر كالقاتل فلا يرث شيئا.
ويقول ابن رشد (25): اتفقوا على أن الواجب فى جنين الحرة وجنين الأمة"من سيدها هو غرة لما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم من حديث أبى هريرة وغيره أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها، فقضى فيه الرسول بغرة: عبد أو وليدة.
واتفقوا على أن قيمة الغرة الواجبة فى ذلك عند من رأى أن الغرة فى ذلك محدودة بالقيمة، وهو مذهب الجمهور هى نصفه عشر دية أمه (أنظر: غرة ).
كما ذكر أن مذهب مالك أن فى جنين الأمة عشر قيمة أمه ذكرا كان أو أنثى يوم يجنى عليه، وفى جنين الذمية عشر دية أمه وهى على أن الغرة لا تجب إلا إذا خرج الجنين ميتا، ولا تموت أمه من الضرب، فإن ماتت وسقط الجنين ميتا فلا شىء فيه. وقال أشهب: فيه الغرة، وقال أن مالكا وأصحابه يرون أن علامة الحياة الاستهلال بالصياح أو البكاء وأن مالكا يقول كل ما طرحته من نطفة أو علقة مما يعلم أنه ولد ففيه الغرة.
ورجح ابن رشد اعتبار نفخ الروح فيه قال: إن الغرة عند مالك فى مال الجانى تشبيها لها بدية العمد. وقال: إنها تجب عند مالك لورثة الجنين وحكمها حكم الدية فى أنها موروثة.
مذهب الشافعية:
يقول أبو شجاع وشارحه الخطيب (26): أن دية الجنين الحر المسلم غرة: عبد أو أمة لأن النبى عليه الصلاة والسلام قضى بذلك كما فى الصحيحين.
وعلق البجرمى على قيد " مسلم " بقوله ليس ذلك بقيد، لأن الجنين الكافر فيه غرة أيضا لكنها كثلث غرة المسلم فى الكتابى وثلث خمس غرة المسلم فى المجوسى ، و أما المرتد و الحربى فمهدران.
فالمعتبر كونه معصوما لا مسلما.
كما علق على قوله عبد أو أمة بأن الخيار لا للمستحق.
وقال الخطيب: إنما تجب الغرة فى الجنين إذا أنفصل ميتا بجناية على أمه الحية مؤثرة فيه سواء أكانت الجناية بالقول كالتهديد والتخويف المفضى إلى سقوط الجنين أم بالفعل كأن يضربها أو يوجرها دواء فتلقى جنينا أم بالترك كأن يمنعها الطعام أو الشراب حتى تلقى الجنين، ولو دعتها ضرورة إلى شرب دواء فينبغى قال الزركشى إنها لا تضمن بسببه وليس من الضرورة الصوم ولو فى رمضان إذا خشيت منه الإجهاض فإذا فعلته (أى الصوم ) وأجهضت ضمنته كما قال ا لما وردى.
ولا ترث منه لأنها قاتلة، وسواء كان الجنين ذكرا أم غيره لاطلاق الخبر لأن ديتهما لو اختلفت لكثر الاختلاف فى كونه ذكرا أو أنثى فسوى الشارع بينهما، وسواء كان الجنين تام الأعضاء ناقصها ثابت النسب أم لا. وسواء انفصل فى حياتها يجنابة أو انفصل بعد موتها بجناية.
فى حياتها، ولو ظهر بعض الجنين بلا انفصال من أمه كخروج رأسه ميتا وجبت فيه الغرة.
ثم قال: ولو كانت أمه ميتة وقد انفصل ميتا فلا شىء لظهور موته بموتها ولو انفصل حيا وبقى بعد انفصاله زمنا بلا ألم ثم مات فلا ضمان، وإن مات حين خرج بعد انفصاله أو دام ألمه ومات منه فدية نفس كاملة على الجانى ولو ألقت امرأة بجناية عليها جنينين ميتين وجبت غرتان أو ثلاثا فثلاثا وهكذا ولو ألقت لحما قال أهل الخبرة فيه صورة آدمى خفيه وجبت فيه الغرة بخلاف ما لو قالوا لو بقى لتصور أى تخلق.
ثم قال: والخيرة فى الغرة إلى الغارم، ويجبر المستحق علي قبولها بشرط أن يكون العبد أو الأمة مميزا، واشترطوا بلوغ الغرة فى القيمة نصفه عشر الدية من الابن المسلم (أنظر: غرة ).
والغرة تستحق لورثة الجنين على فرائض الله، وهى واجبة على عاقلة الجانى، وتكون مؤجلة( ا نظر: عاقلة).
ودية الجنين المملوك ذكرا كان أو غيره عشر قيمة أمه، ولو كانت الأم هى الجانية لا يجب فى جنينها المملوك للسيد شىء، إذ لا يجب للسيد على رقيقه شىء.
ونص البجرمى (27) على أن الجنين لو أنفصل لدون ستة أشهر فمات حين خرج
بعد انفصاله أو دوام ألمه ومات منه ففيه الدية الكاملة.
مذهب الحنابلة:
جاء فى المغنى لابن قدامة فى باب الديات (28) أن فى جنين الحرة المسلمة غرة فى قول أكثر أهل العلم، وقد روى عن عمر أنه استشار الناس فى إملاص المرأة ( أى إلقاء جنينها ) فقال المغيرة بن شعبة:: شهدت النبى صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة.
وقال ابن قدامة: إن كانت المرأة كتابية أو أمة والجنين الحر مسلم فإن الجنين يحكم بإسلامه وحريته، وفيه الغرة، ولو كان الجنين محكوما برقه لم تجب فيه الغرة.
وقال (29): إن الغرة- تجب إذا سقط الجنين من الضربة ويعلم ذلك بأن يسقط عقب الضرب أو ببقائها متألمة إلى أن يسقط، ولو قتل حاملا لم يسقط جنينها، أو ضرب من فى جوفها حركة أو انتفاخ فسكن الحركة لم يضمن الجنين. وقال إنه مذهب مالك و قتادة و الشافعى.
وحكى عن الزهرى أن عليه. الغرة لأن الظاهر أنه قتل الجنين.
واستدل ابن قدامة لمذهبه بأنه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه، ولذلك لا تصح له وصية ولا ميراث، ولأن الحركة يصح أن تكون لريح فى البطن سكنت ولا يجب الضمان بالشك.
ثم قال: إن وجوب الضمان سواء ألقته فى حياتها أو بعد مماتها لأنه جنين تلف بجنايته وعلم ذلك بخروجه فوجب ضمانه 0
فأما إن ظهر بعضه من يطن أمه ولم يخرج باقيه ففيه الغرة.
وقال: إنه رأى الشافعى أيضا.
ونقل عن مالك وابن المنذر أنه لا تجب الغرة حتى تلقيه. ثم قال (30): إن ألقت مضغة فشهد ثقات من القوابل بأن فيه صورة خفية ففيه غرة، وإن شهدت أنه مبتدأ خلق آدمى لو بقى تصور، ففيه وجهان أصحهما لا شىء فيه لأنه لم يتصور فلم يجب فيه كالعلقة.
والثانى: فيه غرة لأنه مبتدأ خلق آدمى أشبه ما لو تصور، وهذا يبطل بالنطفة والعلقة.
ثم بين ابن قدامة الحنبلى الغرة الواجبة وأورد ما فيها من خلاف: أهى عبد أو أمة أو تصح بغير ذلك، وبين أن قيمتها نصفه عشر الدية، كما ذكر أن غرة جنين الكتابيين
نصف الغرة الواجبة فى المسلم، وإن جنين المجوسية تجب فيه غرة قيمتها أربعون درهما، وإلا فالدراهم نفسها.
وفى موضع آخر (31): يقول ابن قدامة:
إن الجنين المملوك فيه عشر قيمة أمه ذكرا كان أو أنثى.
وقال (32): إن وطئ أمة بشبهة أو غر بأمة فتزوجها وأحبلها فضربها ضارب فألقت جنينا فهو حر وفيه غرة موروثة.. و إذا سقط جنين ذمية وقد وطئا مسلم و ذمى فى طهر واحد وجب فيه اليقين وهو ما فى جنين الذمى، فإن الحق بالمسلم فعليه تمام الغرة. وأطال فى ذلك وتفصيله فى مصطلح (جنين، غرة ).
كما قال ابن قدامة (33): إن الغرة موروثة عن الجنين كأنه سقط حياكما لو قتل بعد الولادة، وقال إنه قول مالك و الشافعى وأصحاب الرأى.
ونقل عن الليث إنها لا تورث بل تكون بدله لأنه كعضو من أعضائها ، وأطال فى الاستدلال والمناقشة وذكر الصور.
ثم قال (34): وتحمل الطاقة دية الجنين إذا مات مع أمه إذا كانت الجناية عليها خطأ أو شبه عمد، وإن كان قتل الأم عمدا أو مات الجنين وحده لم تحمله العاقلة ويكون الجميع على الجانى، ونقل خلاف الشافعى فى ذلك.
ثم قال: وإذا ضرب بطن امرأة فألقت أجنة ففى كل واحد غرة لأنه ضمان آدمى فتتعدد بتعدده، وإن ألقتهم أحياء فى وقت.
يعيشون فى مثله ثم ماتوا ففى كل واحدة دية كاملة، وإن كان بعضهم حيا فمات وبعضهم ميتا ففى الحى دية وفى و فى الميت غرة. وقال فى موضع آخر (35): وعلى كل من ضرب ممن ذكرت عتق رقبة مؤمنة سواء كان الجنين حيا أو ميتا.
وقال " إنه قول أكثر أهل العلم ومنهم الحسن وعطاء والزهري والحكم ومالك و الشافعى
وإسحاق.
ونقل عن ابن المنذر أنه قال: كل من نحفظ عنه من أهل العلم أوجب على ضارب بطن المرأة فتلقى جنينا الرقبة مع الغرة.
ثم قال (36): وإن ألقت المضربة أجنة ففى كل جنين كفارة كما أن فى كل جنين غرة أو دية، وإن أشترك جماعة فى ضرب إمرأة فألقت جنينا فديته أو الغرة عليهم بالحصص وعلى كل واحد منهم كفارة، وإن- ألقت أجنة فدياتهم عليهم بالحصص، وعلى كل واحد فى كل جنين كفارة.
وقال ابن قدامة إذا شربت الحامل دواء فألقت به جنينا فعليها غرة لا ترث منها شيئا وتعتق رقبة، وليس فى هذا اختلاف بين أهل العلم نعلمه إلا ما كان من قول من لم يوجب عتق الرقبة.
وذلك لأنها أسقطت الجنين بفعلها وجنايتها فلزمها ضمانه بالغرة، ولو كان الجانى المسقط للجنين
أباه أو غيره من ورثته فعليه غرة لا يرث منها شيئا ويعتق رقبة.
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: فى كتابه المحلى (37) إن الحامل إذا قتلت وهى بينة الحمل فسواء طرحت جنينها ميتا أو لم تطرحه فيه غرة، ولابد لأنه جنين أهلك، وقد اختلف الناس فيه، وروى بسنده عن الزهرى: أنه كان يقول: إذا قتلت المرأة وهى حامل ليس فى جنينها شىء حتى تقذفه.
قال على( يعنى ابن حزم نفسه ): لم يشترط رسول الله فى الجنين إلقاءه، ولكنه قال: فى الجنين غرة عبد أو أمة كيف ما أصيب ألقى أو لم يلق ففيه الغرة، وإذا قتلت الحامل فقد تلف جنينها بلا شك، وبين بعد ذلك أنهم يفرقون فى حكم الإجهاض الدنيوى بين ما إذا كان إسقاط الجنين نتيجة ضرب الحامل قبل تمام الأربعة الأشهر أو بعدها فان كان قبل ذلك ففيه الغرة دون الكفارة وإن كان بعد ذلك ففيه الغرة والكفارة معا (أنظر على وجه التفصيل فيمن يستحق الغرة: "غرة" )
ثم قال(38): بين لنا صلى الله عليه وسلم أن دية من خرج إلى الدنيا فقتل مائة من الإبل، وبين لنا أن دية الجنين بنص لفظة غرة من العبيد أو الإماء وسماه دية فكانت الدية مختلفة لبيان الرسول لنا، وكانت الكفارة واحدة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفرق فيها ( أنظر دية، كفارة ).
وقال بعد ذلك (39): فيمن تعمدت قتل جنينها وقد تجاوزت مائة ليلة وعشرين ليلة بيقين فقتلته، أو تعمد أجنبى قتله فى بطنها فقتله، فإن القود واجب فى ذلك ولابد، ولا غرة فى ذلك حينئذ إلا أن يعفى عنه فتجب الغرة فقط ولا كفارة فى ذلك لأنه عمد.
قال: وإنما وجب القود لأنه قاتل نفس مؤمنة عمدا فهو نفس بنفس وأهله بين خيرتين: إما القود وإما الدية كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قتل مؤمنا.
وقال أبن حزم فى المرأة تتعمد إسقاط ولدها: إن النخعى يقول عليها عتق رقبة ولزوجها عليها غرة عبد أو أمة.
وذكر عنه رواية أخرى أنه قال: فى امرأة شربت دواء فأسقطت تعتق رقبة وتعطى أباه غرة قال: وهذا أثر فى غاية الصحة.
ثم قال: وإن كان لم ينفخ فيه الروح فالغرة عليها وإن كان نفخ فيه الروح ولم تتعمد قتله فالغرة على عاقلتها والكفارة عليها، وإن كانت تعمدت قتله فالقود عليها أو المفاداة فى مالها، فإن ماتت هى فى كل ذلك قبل إلقاء الجنين ثم ألقت فالغرة واجبة فى كل ذلك على عاقلة الجانى هى كانت أو غيرها، وكذلك فى العمد قبل أن ينفخ فيه الروح وأما أن كان نفخ فيه الروح فالقود على الجانى إن كان غيرها وأما إن كانت هى فلا قود ولا غرة ولا شىء لأنه لا حكم على ميت وماله قد صار لغيره.
وقال ابن حزم (40) فيمن ألقى جنينين فصاعدا وطرح الجنين ميتا ففى كل غرة وكفارة لأن. رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دية جنينها عبد أو أمة "، وكل جنين ولو أنهم عشرة فهو جنين لها، ففى كل جنين غرة عبد أو أمة، أما لو قتلوا بعد الحياة ففى كل واحد دية وكفارة ( أنظر جنين ).
ثم قال فى موضع آخر (41): فى جنين الأمة من سيدها إنه كجنين الحرة فى أن ديته عبد أو أمة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بذلك فى الجنين ولم يقصره على جنين الحرة فلم يصح لأحد إن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل.
وقال فى جنين الذمية كذلك غرة عبد أو أمة يقضى به على عاقلة الضارب فيطلبون غلاما أو أمة كافرين فيدفعانه أو يدفعانها إلى من تجب ، فإن لم يوجدا فبقيمة أحدهما لو وجد.
وقال: لو أن ذميا ضرب امرأة مسلمة خطأ فأسقطت جنينا يكلف إن تبتاع عاقلته عبدا كافرا أو أمة كافرة ولابد.
مذهب الزيدية:
ويتمثل مذهب الزيديه فيما أورده صار، البحر الزخار (42) من أن الغرة واجبة فى الجنين إن خرج ميتا لقضائه صلى الله عليه وسلم على من قتلت ضرتها وجنينها، وقال: إن مذهب العترة أنه لا شىء فيمن مات بضرب أمه إن لم ينفصل.. ومن ضربت فخرج جنينها بعد موتها ففيه القود أو الدية إجماعا ، فإن خرج رأسه فمات ولم يخرج الباقى ففيه الغرة أيضا، وما خرج وفيه أمارة حياة صوت أو حكة أو تنفس ففيه الدية ولو لدون ستة أشهر فإن خرج وفيه حياة مستقرة ثم قتله آخر فالقود عليه إذ هو المباشر وعلى الأخر أرش ضرب الأم و التعزير.
فإن ضرب حاملا فخرج منها جنينها بعد جنين أو رجله ثم خرج ناقصا بعد ذلك قبل برئها من الضرب ففيه الغرة وتدخل اليد فيها إذ الظاهر سقوطها بالضرب، فإن خرج ميتا فالدية كاملة وتدخل اليد فيها، وإن خرج بعد البرء من الضرب ضمن اليد لا الجنين، فان خرج ميتا فنصف الغرة لأجل اليد، وأن خرج حيا ثم مات فنصف الدية.
وإن ضرب حاملا فألقت يدا ثم ماتت ولم يخرج الباقى ففيها القود أو الدية، وفى الجنين الغرة، إذ الظاهر موته بابانة يده، وقد تحققناه آدميا بخروج يده، ولا شىء فيما لم يتبين فيه التخلق والتخطيط كالمضغة والدم إذ لم يقض النبى صلى الله عليه وسلم بالغرة إلا فى متخلق.
ونقل عن الإمام على والباقر والناصر والصادق أن فى إلقاء النطفة عشرين دينارا وفى العلقة أربعون وفى المضغة ستون وفى العظام ثمانون وفى الجنين مائة دينار إذ لزمت الغرة فى الميت ولا حياة فيه فلزمت هذه المقادير فيه ناقصا.
ثم روى عن العترة وجماعة أن الغرة فى الجنين مطلقا عبد أو أمة لقضاء النبى عليه الصلاة والسلام بذلك، وأن الباقر والصادق جعل الغرة عشر الدية، كما ذكر أن الغرة والدية يتعددان بتعدد الجنين ، و وحكى فى ذلك الإجماع.
وقال: إنه لا غرة فى المملوكة، كما قال إنها موروثة كالدية، ونقل عن العترة والإمام يحيى (43) أن من ضرب أمة حاملا ثم أعتق ما فى بطها فخرج حيا ثم مات لزمت القيمة اعتبارا بوقت الجناية.
مذهب الإمامية:
جاء فى الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية فى فقه الشيعة الجعفرية (44) أن دية الجنين وهو الحمل فى بطن أمه فى النطفة إذا استقرت فى الرحم واستعدت للنشوء عشرون دينارا، ويكفى مجرد الإلقاء فى الرحم مع تحقق الاستقرار ، وفى العلقة أربعون دينارا، وفى المضغة ستون دينارا ، وفى العظم ثمانون 0
وفى التام الخلقة قبل ولوج الروح مائة دينار هى عشر دية أبيه ذكرا كان أو أنثى وقيل متى لم تتم خلقته ففيه غرة عبد أو أمة، ولو كان الجنين ذميا فثمانون درهما عشر دية أبيه، ولو كان مملوكا فعشر قيمة الأم المملوكة ذكرا كان أو أنثى، مسلما كان أو كافرا، ولو تعدد ففى كل واحدة عشر قيمتها كما تتعدد ديته لو كان حراً، ولا كفارة هنا ولو ولجته الروح فدية كاملة للذكر ونصفها للأنثى، ومع الاشتباه فنصفا الديتين.
وجاء فى موضع آخر (45) أن دية الجنين فى مال الجانى أن كان القتل عمدا أو شبيها بالعمد وإلا ففى مال العاقلة كالمولود وحكها فى التقسيط والتأجيل كغيره (أ نظر: دية، غرة ).
مذهب الإباضية:
يصور مذهب الإباضية ما ذكره صاحب متن النيل وشارحه (46) إن الحامل إذا تعمدت ما يضر بالحمل فأسقطت لزمها الضمان علمت بالحمل أم لم تعلم، وكذلك غيرها لو تعمد الاعتداء عليها، وإذا علم الزوج بالحمل وعمل ما يضر بها فأسقطت لزمه الضمان، وان فعل جائزا له ووقع الضرر بامتناعها أو تعرضها ضمنت وسلم وإن لم يعلما به أو علم به أحدهما فوقع الضرر منهما أو من أحدهما بخطأ لزمهما الضمان لا الإثم، وأن راودها غير زوجها فامتنعت فأسقطت ضمن، وإن اعتدت فدافعها المعتدى عليه فأسقطت فهى ضامنة، وإن خوفها أحد فأسقطت ضمن، وإن صامت وأسقطت بجوع أو عطش ضمن، وإن حملت ثقيلا ضمنت، وإن مشت فى الحر حتى أسقطت فعليها دية السقط.
وقالوا: إذا وجب على حامل حق من قتل أو غيره فأخرج على علم بالحمل فإنه يلزم المخرج الضمان و الهلاك ، و قيل: لا هلاك عليه ولكن عليه الإثم وضمان الحمل وإن وجب على أمة ضرب فضربت فأسقطت لزم الإثم فقد، وقيل يلزم ضمان الحمل أيضا.
وجاء فى موضع آخر أن سقط الأمة يقدر بنظر العدول وليس على الجانى غير ذلك، وأنه إن سقط حيا فمات أعطى السيد نقصان الأمة وقيمة السقط، وسقط الحرة إن كان نطفة فعلى الجانى عشرة دنانير أو مضغة تهزجا فأربعة عشر أو علقة فأربعة وعشرون أو مضغة فأربعون أو ممتدا فستون أو مصور ا فثمانون أو نابت الشعر فمائة دينار أو منفوخا فيه الروح فديه كاملة. وقيل: إن كان حرا فمات بإسقاطه فالغرة لصاحب الحمل وهل هى عبد أو أمة أو فرس أو جواد أو أربعون دينارا الخ( انفر: غرة ).
وقالوا: إن غرة حمل المشرك عشر قيمة ديته من أى ملة كانت بحسب دية ملته، وقيل النظر.

__________

(1)نهاية المحتاج ج8 ص416 طبعة الحلبى بمصر سنة 7 ه 13 هجرية .
(2) نهاية المحتاج ج7 ص360 طبعة الحلبى بمصر سنة 7 ه 13 هجرية .
(3) نهاية المحتاج ج 8 ص416 طبعة الحلبى بمصر سنة 7 ه 13 هجرية .
(4) تحفة الحبيب على شرح الخطيب ج4 ص ا 13.
ا لمطبعة الميمنية لأحمد البابى الحلبى بمصر سنة1310
(5) الروضة البهية ج2 ص 445.
(6) مطبوع بهامش حاشية ابن عابدين ج2 ص 411 الطبعة الميمنية بمصر سنة1310 هجرية .
(7) الفتح القديرة ج2 ص 495، مطبعة مصطفى محمد بمصر.
(8) ج2 ص366 المطبعة الأزهرية بمصر سنة 1345
(9) بداية المجتهد ج2 ص348.
(10)ج4ص40.
(11) ج 6 ص179.
(12) نهاية المحتاج ج8 ص416.
(13) المغنى ج8 ص815
(14) ج2 ص316 المطبعة السلفية ، الطبعة السادسة سنة 1380 هجرية .
(15)المحلى ج11 ص36.
(16) البحر الزخار ج3 ص81.
(17) المرجع السابق ج5 ص457.
(18) البحر الزخار ج5 ص260.
(19) ج2 ص445.
(20) ج8 ص119 ، 121
(21) حاشية ابن عابدين ج5 ص410 ، 413 ، والهداية ج4 ص153.
(22) ج4 ص153.
(23)ج5 ص410 ، 412.
(24) حاشية الدسوقى وشرح الدردير على متن خليل ج ص268، 270.
(25) بداية المجتهد ج2 ص347 طبعة دار الخلافة سنة 1333
(26) ج4 ص130 ، 133 وأنظر أيضا نهاية المحتاج ج7 ص 360 ، 346.
(27) ج4 ص133.
(28)المغنى ج7 ص799.
(29)المغنى ج7 ص801.
(30) المغنى ج7 ص802.
(31) المغنى ج7 ص806.
(32) المغنى ج7 ص808.
(33)المغنى ج7 ص 805.
(34)المغنى ج7 ص806.
(35)المغنى ج7 ص815.
(36)المغنى ج7 ص816.
(37)ج11 ص35 مطبعة الإمام بالقاهرة.
(38) المحلى ج11 ص37.
(39) المحلى ج11 ص38.
(40) المحلى ج11 ص39.
(41) المحلى ج11 ص42، 46.
(42) ج5 ص356.
(43)البحر الزخار ج5 ص257.
(44)الروضة البهية ج2 ص444.
(45) الروضة البهية ج2 ص445.
(46) متن النيل وشرحه ج8 ص119 ،
121

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بث مباشر للمسجد الحرام بمكة المكرمة