الاثنين، 28 نوفمبر 2011

موسوعة الفقه الإسلامي 5

موسوعة الفقه الإسلامي 

من موقع وزارة الأوقاف المصرية

الأب و القصاص منه للولد والعكس

مذهب الشافعية (1):
لا يجب القصاص على الأب بقتل ولده، ولا على الأم بقتل ولدها، لما روى عمر ين الخطاب - رضى الله عنه- أن النبى - صلى الله عليه وسلم- قال: " لا يقاد الأب من ابنه " فإذا ثبت هذا فى الأب ثبت فى الأم لأنها كالأب فى الولادة. ولا يجب على الجد وإن علا، ولا على الجدة وإن علت بقتل ولد الولد وإن سفل، لمشاركتهم الأب والأم فى الولادة و أحكامها.
وإن ادعى رجلان نسب لقيط ثم قتلاه قبل أن يلحق نسبه بأحدهما لم يجب القصاص، لأن كل واحد منهما يجوز ان يكون هو الأب. وإن رجعا فى الدعوى لم يقبل رجوعهما، لأن النسب حق وجب عليهما فلا يقبل رجوعهما فيه بعد الإقرار. ويقتل الابن بالأب، لأنه إذا قتل بمن يساويه فلأن يقتل بمن هو أفضل منه أولى.
وإن جنى المكاتب على أبيه والأب فى ملكه ففيه قولان:
أحدهما: لا يقتص منه، لأن المولى لا يقتص منه لعبده.
والثانى: يقتص منه، وإليه أومأ الشافعى- رحمه الله - فى بعض كتبه، لأن المكاتب ثبت له حق الحرية بالكتابة، وأبوه ثبت له حق الحرية بالابن، ولهذا لا يملك بيعه فصار كالابن الحر إذا جنى على أبيه الحر.
مذهب الظاهرية (2):
ويبطل القود إذا قتل الأب ابنه.
مذهب المالكية (3):
إذا قتل أحد ولدين أباه ثم مات غير القاتل ولا وارث له سوى القاتل فقد ورث القاتل دم نفسه كله فصار معصوما.
ولو أكره شخص أبا على قتل ابنه فقتله فلا قصاص على الأب للشبهة (4).
مذهب الإمامية (5):
ولا يقتل الوالد وإن علا بابنه وإن نزل، لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يقاد لابن من أبيه " والبنت كالابن إجماعا أو بطريق أولى. وفى بعض الأخبار عن الصادق: لا يقتل والد بولده ويقتل الولد بوالده، وهو شامل للأنثى. ويعزر الوالد بقتل الولد ويكفر وتجب الدية لغيره من الورثة.
مذهب الإباضية (6):
ولا يقتل الأب بابنه ولا الأم ويقتل الولد بهما.
مذهب الأحناف (7):
لا يقتل الرجل بابنه، لقوله - عليه الصلاة والسلام-: " لا يقاد الوالد بولده " ولأنه سبب أحيائه، فمن المحال أن يستحق له افناؤه، ولهذا لا يجوز له قتله وإن وجده فى صف الأعداء مقاتلا أو زانيا وهو محصن، فالقصاص يستحقه المقتول ثم يخلفه وارثه. والجد من قبل الرجال أو النساء وإن علا بمنزلة الأب، وكذا الوالدة والجدة من قبل الأب أو الأم قربت أم بعدت لما بينا. ويقتل الولد بالوالد لعدم المسقط.
مذهب الحنابلة (8):
فى شروط القصاص: الشرط الرابع: ألا يكون المقتول من ذرية القاتل، فلا يقتل والده أبا كان أو أما وإن علا بولده. وقال -عليه الصلاة والسلام- " أنت ومالك لأبيك " فمقتضى هذه الإضافة تمكينه إياه، فإذا لم تثبت حقيقة الملكية تثبت بالإضافة بشبهة فى إسقاط القصاص ولأنه كان سببا فى إيجاده فلا يكون سببا فى إعدامه، ولا تأثير لاختلاف الدين واختلاف الحرية، فلو كان أحدهما مسلما والأخر كافرا أو أحدهما رقيقا والآخر حرا فلا قصاص كاتفاقهما فى الدين والحرية. فلو قتل الكافر ولده المسلم أو العبد ولده الحر لم يجب القصاص لشرف الحرية إلا أن يكون ولده من رضاع أو زنا فيقتل الوالد به، لأنه ليس بولده حقيقة.
ولو تداعى شخصان نسب صغير مجهول النسب ثم قتلاه قبل إلحاقه بواحد منهما فلا قصاص عليهما لأنه يجوز. أن يكون ابن كل واحد منهما أو ابنهما وإن ألحقته القافة بواحد منهما، ثم قتلاه لم يقتل أبوه وقتل الآخر لأنه ليس بأب وإن رجعا عن الدعوى لم يقبل رجوعهما عن إقرارهما كما لو ادعاه واحد فالحق به ثم جحده فإنه لا يقبل جحوده لأن النسب حق للولد فرجوعه عنه رجوع إقرار بحق لأدمى وإن رجع أحدهما صح رجوعه وثبت نسبه من الآخر ويسقط القصاص عن الذى لم يرجع ويجب على الراجع لأنه أجنبى وإن عفا عنه ولى المقتول فعليه نصف الدية، ولو اشترك رجلان فى وطء امرأة فى طهر واحد وأتت بولد يمكن أن يكون منهما فقتلاه قبل إلحاقه بأحدهما لم يجب القصاص على واحد منهما وإن نفيا نسبه لم ينتف إلا باللعان بشروطه التى منها أن يكون بين زوجين وأن يتقدمه قذف وأن نفاه أحدهما لم ينتف لقوله لأنه لحقه بالفراش فلا ينتفى إلا باللعان ويقتل الولد بالوالد لأنه يحد بقذفه فيقتل به.
مذهب الزيدية(9):
لا يجب القصاص يفرع من النسب فلا يقتص من أصل له، فلا يقتل أب ولا جد وإن علا ولا أم ولا جدة وإن علت لفرع لهم وإن سفل.
القصاص فيما دون النفس
من لا يقاد بغيره فى النفس لا يقاد به فيما دون النفس ، ومن اقتيد بغيره فى النفس اقتيد به فيما دون النفس، لأنه لما كان ما دون النفس كالنفس فى وجوب القصاص كان كالنفس (10).
الأب واستيفاء القصاص أو العفو
مذهب الأحناف (11):
إذا قتل ولى المعتوه فلأبيه أن يقتل لأنه من الولاية على النفس شرع لأمر راجع إليها وهو تشفى الصدور فيليه كالانكاح، وله أن يصالح لأنه أنظر فى حق المعتوه، وليس له أن يعفو لأن فيه إبطال حقه وكذلك إن قطعت يد المعتوه عمدا لما ذكرنا.
مذهب الحنابلة (12):
لولى المجروح بعد السراية العفو عن القصاص، وله حينئذ كمال الدية. وإن عفا الولى مطلقا أو عفا عن القود مطلقا فله الدية، لأن الواجب أحد الشيئين فإذا سقط القود تعنيت الدية.
ثم قال (13) " ومن لا يجرى القصاص بينهما فى النفس لا يجرى فى الطرف، كالأب وأبنه والحر مع العبد والمسلم مع الكافر، فلا تقطع يد الأب بيد ابنه ولا يد الحر بيد العبد ولا يد المسلم بيد الكافر.
مذهب المالكية (14):
الاستيفاء فى النفس للعاصب الذكر على ترتيب الولاية فى النكاح إلا الجد والإخوة فسيان. ولو كان (15) للصغير ولى من أب أو وصى واستحق الصغير قصاصا بلا مشارك له فعلى وليه النظر بالمصلحة فى القتل وأخذ الدية كاملة. ويخير إن استوت، ولا يجوز له أخذ بعض الدية مع يسر الجانى، والحكم كذلك لو قطع أحد يد الصغير مثلا فله الصلح بأقل، أما لو قتل الصغير فلا كلام لوليه لانقطاع نظره بالموت والكلام للعاصب.
ولولى الصغير النظر فى القتل أو الدية كاملة، قال فى المدونة: من وجب لابنه الصغير دم عمدا أو خطأ، لم يجز له العفو إلا على الدية لا أقل منها.
وإن قتل شخص عبد الصبى أو جرحه فالأولى للولى أخذ القيمة أو الأرش دون القصاص، إذ لا نفع للصبى فيه. ويقتل أب أمر صبيا بقتل إنسان فقتله، ولا يقتل الصغير لعدم تكليفه.
مذهب الظاهرية (16):
عفو الأب عن جرح ابنه الصغير أو المجنون أو استقادته له غير جائز بل هما على حقهما فى القود حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون.
مذهب الزيدية (17):
ليس للأب أن يتولى القصاص عن الصبى وكذا سائر الأولياء، بل ينتظر بلوغه وللأب أن يعفو عن القاتل لمصلحة. ولو قتل رجل أباه وله أخ وأم فإن عليه القتل للأخ والأم، فإذا قتل الأخ الأم أو ماتت سقط عن قاتل الأب القود، لأنه قد ورث نصيب الأم أو بعضه، ويقتل قاتل الأم.
مذهب الإمامية (18):
ولو كان الولى صغيرا وله أب. أو جد لم يكن له أى وليه من الأب لاستيفاء إلى بلوغه، لأن الحق له ولا يعلم ما يريده حينئذ، ولأن الغرض التشفى ولا يتحقق تعجيله قبله وحينئذ فيحبس القاتل حتى يبلغ.
وقال أكثر المتأخرين: يراعى المصلحة، فإن اقتضت تعجيله جاز، لأن مصالح الطفل منوطة بنظر الولى، ولأن التأخير ربما استلزم تفويت القصاص وهو أجود.
مذهب الإباضية (19):
ويقتص طفل بواسطة أبيه لا غيره، أى يقتص له أبوه من بالغ إن كان له أب وإلا اقتص أبو أبيه.
الأب والأذن لولده فى الجهاد و الحج وغيره
مذهب الشافعية (20):
إن كان أحد أبويه مسلما لم يجز له أن يجاهد بغير إذنه، لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص - رضى الله عنهما - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يستأذنه فى الجهاد فقال: "أحى والداك؟ " قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد. وروى عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه- قال: سألت النبى - صلى الله عليه وسلم-: أى الأعمال أفضل؟ فقال- عليه الصلاة والسلام-: " الصلاة لميقاتها " قلت: ثم ماذا؟ قال: " بر الوالدين ". قلت: ثم ماذا؟ قال:" الجهاد فى سبيل الله". فدل على أن بر الوالدين مقدم على الجهاد، ولأن الجهاد فرض على الكفاية ينوب عنه فيه غيره، وبر الوالدين فرض يتعين عليه لأنه لا ينوب عنه فيه غيره، ولهذا قال رجل لابن عباس -رضى الله عنهما-: إنى نذرت أن أغزو الروم وان أبوى منعانى، فقال: " أطع أبويك فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك ". وإن كان الأبوان كافرين جاز أن يجاهد من غير إذنهما، لأنهما متهمان فى الدين. وإن كانا مملوكين فقد قال بعض أصحابنا: إنه يجاهد من غير إذنهما، لأنه لا أذن لهما فى أنفسهما فلم يعتبر أذنهما لغيرهما، وقيل: إنه لا يجوز أن يجاهد إلا بإذنهما لأن المملوك كالحر فى البر والشفقة فكان كالحر فى اعتبار الأذن.
وإن أراد الولد أن يسافر فى تجارة أو طلب علم جاز من غير إذن الأبوين لأن الغالب فى سفره السلامة.
وإن (21) أذن الوالد لولده ثم رجع أو كان كافرا فأسلم فإن كان ذلك قبل التقاء الزحفين لم يجز الخروج أى للجهاد إلا بالأذن، وإن كان بعد التقاء الزحفين ففيه قولان:
أحدهما: أنه لا يجوز أن يجاهد إلا بالأذن لأنه عذر يمنع وجوب الجهاد، فإذا طرأ منع من الوجوب كالعمى والمرض.
والثانى: أنه يجاهد من غير أذن لأنه اجتمع حقان متعينان، وتعين الجهاد سابق فقدم. وإن أحاط العدو بهم تعين فرض الجهاد وجاز من غير إذن الأبوين ،لأن ترك الجهاد فى هذه الحالة يؤدى إلى الهلاك فقدم على حق الأبوين.
مذهب الحنابلة (22):
لا يجاهد متطوعا من أبواه حران مسلمان عاقلان إلا بإذنهما وإن كان أحدهما حرا مسلما عاقلا لم يجاهد تطوعا إلا بإذنه، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء رجل إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أجاهد. فقال: " لك أبوان؟ " قال: نعم. قال: " ففيهما فجاهد ". وروى البخارى معناه من حديث ابن عمرو. روى أبو داود عن أبى سعيد أن رجلا هاجر إلى النبى صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال: " هل لك أحد باليمن؟ ". فقال: أبواى. فقال: " أذنا لك؟ " قال: لا. قال: " فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما.
ولأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية والأول مقدم إلا أن يتعين عليه الجهاد لحضور الصف أو حصر العدو أو استنفار الإمام له أو نحوه، فيسقط إذنهما، لأنه يصير فرض عين وتركه معصية، ولا طاعة للوالدين فى ترك فريضة، كتعلم علم واجب قوم به دينه من طهارة وصلاة وصيام ونحو ذلك، وإن لم يحصل فله السفر لطلبه بلا أذنهما، لأنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق. ولا إذن لجد ولا لجدة، فإن خرج فى جهاد تطوع بإذن والديه ثم منعاه منه بعد سيره وقبل تعينه عليه فعليه الرجوع، إلا أن يخاف على نفسه فى الرجوع، أو يحدث له عذر من مرض ونحوه، فإن أمكنه الإقامة فى الطريق أقام حتى يقدر على الرجوع فيرجع وإلا مضى مع الجيش، وإذا حضر الصف تعين عليه لحضوره، وسقط إذنهما. وإن كانا كافرين فأسلما ثم منعاه كان كمنعهما بعد إذنهما على ما تقدم تفصيله.
مذهب الظاهرية (23):
لا يجوز الجهاد إلا بإذن الأبوين، إلا أن ينزل العدو بقوم من المسلمين ففرض على كل من يمكنه إغاثتهم أن يقصدهم مغيثا لهم، أذن الأبوان أم لم يأذنا، إلا أن يضيعا أو أحدهما بعده، فلا يصل له ترك من يضيع منهما. وروى البخارى: حدثنا آدم وحدثنا شعبة وحدثنا حبيب بن أبى ثابت قال: سمعت أبا العباس الشاعر وكان لا يتهم فى الحديث قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فى الجهاد، فقال له عليه الصلاة والسلام: "أحى والداك؟ " قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد ". ثم ذكر عن ابن عمر - رضى الله عنهما- عن النبى - صلى الله عليه وسلم- قال: " السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".
مذهب الزيدية (24):
حيث يكون الواجب آكد كالجهاد والنفقة الواجبة أو نحوهما أو أفضل نحو أن يكون فى غير وطنه أقرب إلى الطاعات وأبعد عن الشبهات، فإنه يجب عليه الخروج للواجب، وينب للمندوب. فإن كره الوالدان أو أحدهما خروجه فلا يصده كراهتهما عن الخروج ما لم يتضررا أو أحدهما بخروجه، سواء كان التضرر من جهة الإنفاق أو البدن لحدوث علة أو زيادتها أو بطء برئها فلا يجوز خروجه، إذ طاعتهما آكد، وتضررهما محظور ولو كافرين غير حربيين. وترك الواجب- وهو الخروج- أهون من فعل المحظور، وهو تضررهما. قال تعالى: " ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون " (25) ولا يمتنع الخروج لتضرر الوالدين الحربيين كما لا يجب الإنفاق عليهما.
مذهب الأحناف (26):
إذا تعين الجهاد بهجوم العدو فلا يحتاج الابن لإذن أبويه فى الخروج للجهاد فان لم يتعين فلابد من إذنهما.
مذهب المالكية (27):
للوالدين منع الولد من الجهاد إذا كان فرض كفاية، أما إذا كان الجهاد فرض عين فلا يحتاج لإذنهما ولو لم يكونا فى كفاية، وهو مذهب المدونة.
مذهب الأمامية (28):
وللأبوين منع الولد من الجهاد إذا كان المقصود جهاد المشركين ابتداء لدعائهم للإسلام، إلا أن يتعين عليه الجهاد بأمر الإمام له أو بضعف المسلمين عن المقاومة بدونه، إذ يجب عليه حينئذ الجهاد عينا، فلا يتوقف على أذن الأبوين. أما جهاد من يدهم على المسلمين من الكفار بحيث يخافون استيلاءهم على بلادهم وأخذ مالهم وما أشبهه وإن قل فإنه لا يحتاج إلى أذن الأبوين.
مذهب الإباضية (29):
أن تعين الجهاد على الابن واحتيج إليه ككونه إماما عادلا احتيج لحضوره، أو كان قائما بأمر من أمور الحرب لا يقوم به غيره - فإنه يخرج بدون إذن الأبوين. فإن كان له أبوان فقيران أو كبيران أو مريضان ولم يكن لهما غنى عن الابن- فالإقامة معهما أفضل من الجهاد وذلك حيث لم يتعين الجهاد. فإن كان لهما غنى عنه فإنه يخرج إلى الجهاد استحسانا ولو كرها لأنهما لا يمنعانه مما لم يمنعه الله منه.
هل للأب منع ولده من الحج وغيره؟
مذهب الحنابلة (30):
وليس للوالدين منع ولدهما من حج الفرض والنذر ولا تحليله منه، ولا يجوز للولد طاعتهما فيه، أى: فى ترك الحج، أو فى التحليل. وكذا كل ما وجب كصلاة الجماعة والجمع والسفر للعلم الواجب لأنها فرض عين، فلم يعتبروا فيه إذن الوالدين. ولهما منعه من حج التطوع ومن كل سفر مستحب كالجهاد، وكما أن لهما منعه من الجهاد مع أنه فرض كفاية لأن بر الوالدين فرض عين، ولكن ليس لهما تحليله من حج التطوع إذا شرع فيه، ويلزم طاعتهما فى غير معصية.
قتل الابن أباه الكافر فى الحرب
مذهب الشافعية (31):
ويكره أن يقصد قتل ذى رحم محرم، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منع أبا بكر من قتل ابنه. فإن قاتله لم يكره أن يقصد قتله، كما لا يكره إذا قصد قتله وهو مسلم. وإن سمعه يذكر اسم الله عز وجل أو رسوله - صلى الله عليه وسلم- بسوء لم يكره أن يقتله، لأن أبا عبيدة بن الجراح - رضى الله عنه- قتل أباه وقال لرسول الله- صلى الله عليه و سلم-: سمعته يسبك، ولم ينكر عليه.
مذهب الأحناف (32):
يكره أن يبتدئ الرجل أباه من المشركين فيقتله، لقوله تعالى: " وصاحبهما فى الدنيا معروفا " ولأنه يجب عليه إحياؤه بالإنفاق فيناقضه الإطلاق فى إفنائه، فان أدركه امتنع عليه حتى يقتله غيره، لأن المقصود يحصل بغيره من غير اقتحام المأثم. وان قصد الأب قتله بحيث لا يمكنه دفعه إلا بقتله فلا بأس به، لأن مقصوده الدفع، ألا ترى أنه لو شهر الأب المسلم سيفه على ابنه ولا يمكنه دفعه ألا بقتله يقتله لما بينا فهذا أولى.
مذهب الحنابلة (33):
يقتل المسلم أباه وابنه ونحوهما من ذوى قرابته فى المعترك لأن أبا عبيده قتل أباه فى الجهاد فأنزل الله " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون(34).
وإن سبى (35) غير البالغ مع أبويه فهو على دينهما لبقاء التبعية، وإن أسلم أبو حمل أو طفل أو مميز فالابن مسلم. لا إن أسلم جد وجدة فلا يحكم بإسلامه بذلك، أو أسلم أحدهما فمسلم أو مات أحدهما فى دارنا أو عدما أو عدم أحدهما بلا موت فمسلم فى الجميع للخبر السابق وانقطاع التبعية. وإذا بلغ من حكم بإسلامه تبعا لأبويه أو موته بدارنا عاقلا ممسكا عن الإسلام والكفر قتل قاتله لأنه مسلم معصوم الدم.
ومن أسلم (36) منهم قبل القدرة عليه أحرز ماله ودمه أو أسلم حربى فى دار الحرب أحرز دمه وماله ولو منفعة أجارة لقوله - عليه الصلاة والسلام- " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم " وأولاده الصغار والمجانين ولو حملا، فى السبى كانوا أو فى دار الحرب، للحكم بإسلامهم تبعا له، وإن دخل كافر دار الإسلام فأسلم وله أولاد صغار فى دار الحرب أو حمل صاروا مسلمين تبعا له ولم يجز سبيهم لعصمتهم بالإسلام.
مذهب الزيدية (37):
لا يجوز أن يقتل مسلم ذو رحم رحمه من الكفار سواء كان يحرم عليه نكاحه لو كان أنثى أم لا، وذلك كالأب وان علا والابن وإن سفل والإخوة والأعمام وبنيهم ونحو ذلك، لأن فى ذلك قطيعة رحم، إلا فى أحد وجهين فإنه يجوز قتله:
الأول: أن يقتله مدافعة عن نفسه أو عن غيره أو ماله أو مال غيره حيث لم يندفع إلا بالقتل. أو يقتل رحمه بنفسه فإنه يجوز لئلا يحقد على من قتله من المسلمين لو قتله غيره فيؤدى إلى التباغض والشحناء بينه وبين غيره من سائر المسلمين. وهذا هو الوجه الثانى من وجهى جواز قتل الرحم.
مذهب الإباضية (38):
ولا يمنع الأبوان ولدهما عن طاعة ربه، ولا طاعة لهما فى ترك طاعته، ويأمرهما بالمعروف وينهاهما عن المنكر. وإذا وجب عليهما حد أو أدب أو حبس فالأولى أن يلى ذلك غيره، وكذا فى القتال إن تعرض له أبوه فالأولى إلا بقتله، وإن فعل ذلك فلا بأس عليه.
مذهب المالكية(39):
وكره للرجل قتل أبيه أى دنية حالة كون ذلك الأب من البغاة، سواء كان مسلما أو لا، بارز ولده بالقتال أم لا. ولا يكره قتل أخيه أو جده أو ابنه.
مذهب الظاهرية (40):
إذا رأى العادل أباه الباغى أو جده يقصد إلى مسلم يريد قتله أو ظلمه ففرض على الابن حينئذ إلا يشتغل بغيره عنه، وفرض عليه دفعه عن المسلم بأى وجه أمكنه، وإن كان فى ذلك قتل الأب والجد والأم.

__________

(1) المهذب ج2 ص 186.
(2) المحلى ج 11 ص 361.
(3) الدردير ج 2 365.
(4) شرح الحطاب ج6 ص 242.(178)
(5) الروضة البهية ج 2 ص 407.
(6) شرح النيل ج 8 ص 75.
(7) الهداية ج4 ص 130.
(8) كشاف القناع ج3 ص 351.
(9) التاج المذهب ج 4 ص 265.
(10) المهذب ج2 ص 190.
(11) الهداية ج4 ص 131.
(12) كشاف القناع ج3 ص 369.
(13) المرجع السابق ص 371، 373.
(14) الشرح الصغير ج1 ص 355. و الحطاب ج6 ص 252.
(15) المرجع السابق ص 357.
(16) المحلى ج10 ص 485.
(17) التاج المذهب ج 4 ص 280 ، 284.
(18) الروضة البهية ج 2 ص 415،416.
(19) شرح النيل ج 8 ص 208.
(20) المهذب ج 2 ص 245.
(21) المرجع السابق ص 246.
(22) كشاف القناع ج 1 ص 657.
(23) المحلى ج7 ص 292.
(24) التاج المذهب ج 4 ص 416.
(25) سورة العنكبوت: 8.
(26) ابن عابدين ج3 ص 304، 306.
(27) الحطاب ج 3 ص350.
(28) الروضة البهية ج1 ص 216-218.
(29) شرح النيل ج2 ص 586.
(30) كشاف القناع ج1 ص 552.
(31) المهذب ج 2 ص 249.
(32) ج 2 ص 117.
(33) كشاف القناع ج 1 ص ا66.
(34) المجادلة: 22.
(35) كشاف القناع ج 1 ص664.
(36) المرجع السابق ج1 665.
(37) التاج المذهب ج4 ص 431.
(38) شرح النيل ج 2 ص 594.
(39) الشرح الكبير على الدسوقى ج4 ص 300.
(40) المحلى ب 11 ص 109.
(1/25)
الأب وعصمة إسلام ولده الصغير

مذهب المالكية (1):
الحربى الذى أسلم وفر إلينا، أو بقى حتى غزا المسلمون بلده، ولده فىء إن حملت به أمه قبل إسلام أبيه.
مذهب الشافعية (2):
إن بلغ صبى من أولاد أهل الذمة فهو فى أمان، لأنه كان فى الأمان بأمان أبيه، فلا يخرج منه من غير عناد.
فإن اختار أن يكون فى الذمة ففيه وجهان:-
أحدهما: أن يستأنف له عقد الذمة، لأن العقد الأول كان للأب دونه فعلى هذا جزيته على ما يقع عليه التراضى.
والثانى: لا يحتاج إلى استئناف عقد، لأنه تبع الأب فى الأمان فتبعه فى الذمة. وإن أسلم رجل وله ولد صغير تبعه الولد فى الإسلام، لقوله تعالى " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم (3) وإن أسلم أحدهما - أى الأبوين - والولد حمل، تبعه فى الإسلام، لأنه لا يصح إسلامه بنفسه، فتبع المسلم منهما كالولد. وإن أسلم أحد الأبوين دون الأخر تبع الولد المسلم منهما، لأن الإسلام أعلى، فكان إلحاقه بالمسلم منهما أولى. وإن لم يسلم واحد منهما فالولد كافر، لما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ". فإن بلغ وهو مجنون فأسلم أحد أبويه تبعه فى الإسلام، لأنه لا يصح إسلامه بنفسه، فتبع الأبوين فى الإسلام كالطفل. وإن بلغ عاقلا ثم جن ثم أسلم أحد أبويه ففيه وجهان، أحدهما: أنه لا يتبعه لأنه زال حكم الاتباع ببلوغه عاقلا فلا يعود إليه. والثانى: أنه يتبعه، وهو المذهب، لأنه لا يصح إسلامه بنفسه، فتبع أبويه فى الإسلام كالطفل. وإن سبى المسلم صبيا فإن كان أحد أبويه معه كان كافراً (4).
مذهب الأحناف (5):
من أسلم منهم فى دار الحرب أحرز بإسلامه نفسه وأولاده الصغار لأنهم مسلمون بإسلامه تبعا. وإذا دخل الحربى (6) دارنا بأمان فأسلم هاهنا وله أولاد صغار- فإنهم يكونون مسلمين تبعا لإسلام أبيهم إذا كانوا فى يده وتحت ولايته، ومع تباين الدارين لا يتحقق ذلك. وإن أسلم فى دار الحرب ثم جاء فظهر على الدار فأولاده الصغار أحرار مسلمون تبعا لأبيهم، لأنهم كانوا تحت ولايته حين أسلم، إذ الدار واحدة. وما كان من مال أودعه مسلما أو ذميا فهو له، لأنه فى يد محترمة، ويده كيده، وما سوى ذلك فئ.
مذهب الظاهرية (7):
إذا أسلم الحربى فأولاده الصغار مسلمون أحرار، وكذلك الذى فى بطن امراته إن كان الجنين لم ينفخ فيه الروح بعد فامرأته حرة لا تسترق، لأن الجنين حينئذ بعضها، ولا يسترق لأنه جنين مسلم، ومن كان بعضها حرا فهى كلها حرة، بخلاف حكمها إذا نفخ فيه الروح قبل إسلام أبيه ، لأنه حينئذ غيرها، وهو ربما كان ذكرا وهى أنثى. وأى الأبوين الكافرين أسلم فكل من لم يبلغ من أولادهما مسلم بإسلام من أسلم منهما، الأم أسلمت أو الأب.
مذهب الزيدية (8):
من أسلم من الحربيين أو دخل فى الذمة وهو حال إسلامه فى دارنا لم يحصن فى دارهم إلا طفله الموجود وولده المجنون حال الإسلام ولو بالغا، فلا يجوز للمسلمين إذا استولوا على دار الحرب أن يسبوا طفله أو ولده المجنون ولا مال طفله المنقول، لأنه قد صار مسلما بإسلام والده.
مذهب الإمامية (9):
حكم الطفل حكم أبويه، فإن أسلما أو أسلم أحدها لحق بحكمه ولو أسلم حربى فى دار الحرب حقن دمه.
مذهب الحنابلة (10):
وإذا أسلم أبوا الطفل الكافران أو أحدهما أو سبى الطفل منفردا عنهما حكم بإسلامه. وإن سبى مع أحدهما فى دار بإسلامه. وأن سبى مع أحدهما وهما على دينهما أو ماتا أو أحدهما فى دار الإسلام. فهل يحكم بإسلامه؟ على روايتين.
والمميز كالطفل فيما ذكرنا نص عليه، وقيل: لا يحكم بإسلامه حتى يسلم بنفسه كالبالغ. ولا يتبع الصغير جده ولا جدته فى الإسلام.
الأب لا يحد بقذف ولده
مذهب الشافعية (11):
إن قذف الوالد ولده أو قذف الجد ولد ولده لم يجب عليه الحد، وقال أبو ثور: يجب عليه الحد لعموم الآية: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون (12) ". والمذهب الأول، لأنه عقوبة تجب لحق الآدمى، فلم تجب للولد على الوالد كالقصاص. وإن قذف زوجته فماتت وله منها ولد سقط الحد، لأنه لما لم يثبت له عليه الحد بقذفه لم يثبت له. وإن كان لها ابن آخر من غيره وجب له لأن حد القذف يثبت لكل واحد من الورثة على الانفراد. وإن مات من له الحد أو التعزير وهو ممن يورث انتقل ذلك إلى الوارث (13).
مذهب الأحناف (14):
إذا كان المقذوف محصنا جاز لابنه الكافر والعبد أن يطالب بالحد خلافا لزفر.
مذهب المالكية (15):
ليس لمن قذفه أبوه أو أمه تصريحا حد والديه على الراجح وهو مذهب المدونة. ومقابله يقول: له حدهما ويحكم بفسقه، وأما فى التعريض فلا يحد الأبوان اتفاقا.
مذهب الحنابلة (16):
لا يحد الأبوان لولدهما وإن نزل فى قذف ولا غيره ، فلا يرث الولد حد القذف على أبويه، كما لا يرث القود عليهما. فإن قذف أم أبنه وهى أجنبية منة أى غير زوجة له فماتت المقذوفة قبل استيفائه لم يكن لابنه المطالبة به عليه، لأنه إذا لم يملك طلبه بقذفه لنفسه فلغيره أولى، وكالقود فإن كان لها ابن آخر من غيره كان له، استيفاؤه فله إذا ماتت بعد المطالبة لتبعضه: أى لقبوله التجزئة بخلاف القود، ويحد الابن بقذف كل واحد من آبائه وأمهاته وإن علوا.
وإذا تشاتم (17) والد وولده لم يعزر الوالد لحق ولده، كما لا يحد بقذفه ولا يقاد به، ويعزر الولد لحق الوالد كما يحد لقذفه ويقاد به. ولا يجوز تعزيره إلا بمطالبة الوالد بتعزيره لأن للوالد تعزيره بنفسه، ولا يحتاج التعزير إلى مطالبة إلا فى هذه الصورة لأنه مشروع للتأديب فيقيمه الإمام إذا رآه.
مذهب الزيدية (18):
لو كان القاذف والدا للمقذوف فإنه يلزمه الحد لقذف ابنه ولا يسقط لحق الأبوة، قال فى الغيث: فإن قيل لم حد للقذف ولم يقتص منه مع أنه لا شبهة له فى بدنه ؟ قلنا: القذف مشوب بحق الله تعالى والقصاص له محض.
مذهب الإمامية (19):
لا يحد الأب لقذف ولده وإنما يعزر.
مذهب الظاهرية (20):
الحدود والقود واجبان على الأب للولد فى القذف والسرقة وقتله إياه وجرحه إياه فى أعضائه.
الأب والقطع بالسرقة من مال ولده والعكس
مذهب الشافعية (21):
من سرق من ولده أو ولد ولده وإن سفل أو من أبيه أو من جده وإن علا لم يقطع، وقال أبو ثور: يقطع لقوله عز وجل " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" (22) " نعم ولم يخص. وهذا خطأ لقوله- عليه الصلاة والسلام - " ادرءوا الحدود بالشبهات "، وللأب شبهة فى مال الابن، وللابن شبهة فى مال الأب، لأنه جعل ماله كماله فى استحقاق النفقة ورد الشهادة فيه، والآية نخصها بما ذكرناه.
مذهب الحنابلة (23):
يشترط انتفاء الشبهة لقوله - عليه الصلاة والسلام- " ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" فلا يقطع بسرقة مال ولده وإن سفل، فلا قطع لسرقة ولد مال والده وإن علا، لأن النفقة تجب للولد على الوالد فى مال والده حفظا له فلا يجوز إتلافه لحفظ ماله.
مذهب الأحناف (24):
من سرق من أبويه أو ولده أو ذى رحم محرم منه لم يقطع.
مذهب المالكية (25):
لا قطع إن قويت الشبهة كوالد سرق نصابا من ملك ولده فلا قطع بخلاف العكس. وجاء فى حاشية الصاوى: إنما لم يقطع الأب لقوله فى الحديث " أنت ومالك لأبيك ".
مذهب الظاهرية (26):
قال ابن حزم: قال أصحابنا: القطع واجب على من سرق من ولده أو من والديه.
مذهب الزيدية (27):
ولا يقطع والد من النسب لولده إذا سرقه وكان الولد حراً وأن سفل الولد كابن الابن ومن تحته، ويقطع الوالد إذا سرق ولده العبد لأنه لا شبهة له فى ملك الغير، وكذا يقطع إذا سرق من مال ولده من الزنا، فأما الولد إذا سرق من مال أبويه فإنه يقطع عندنا كسائر المحارم.
مذهب الإمامية (28):
يشترط فى قطع يد السارق ألا يكون والدا لمن سرق منه.
مذهب الإباضية (29):
لا قطع على ولد إن سرق من بيت والده إن كان تحته ولم يحزه ولو لم يكونا فى منزل واحد ولو لم يسرق من منزل هما فيه، وإن أحازه قطع، ولا قطع على أبويه: أبيه أو أمه مطلقا، ولو من منزل لم يسكنوا فيه.
الأب والقضاء لولده أو عليه وبالعكس
مذهب الشافعية (30):
لا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا ولا لولده وإن سفل، وقال أبو ثور: يجوز، وهذا خطأ، لأنه متهم فى الحكم لهما كما يتهم فى الحكم لنفسه. وإن تحاكم والد القاضى مع ولد القاضى إليه فقد قال بعض أصحابنا أنه يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه لا يجوز كما لا يجوز إذا حكم له مع أجنبى.
والثانى: أنه يجوز لأنهما استويا فى التعصيب فارتفعت عنه تهمة الميل. وإن أراد أن يستخلف فى أعماله والده أو ولده جاز، لأنهما يجريان مجرى نفسه ثم يجوز أن يحكم فى أعماله، فجاز أن يستخلفهما للحكم فى أعماله. وأما إذا فوض الإمام إلى رجل أن يختار قاضيا لم يجز أن يختار والده أو ولده، لأنه لا يجوز أن يختار نفسه فلا يجوز أن يختار والده أو ولده.
مذهب الأحناف (31):
حكم الحاكم لأبوية وزوجته وولده باطل، والمولى والمحكم فيه سواء، وهذا لأنه لا تقبل شهادته لهؤلاء لمكان التهمة، فكذلك لا يصح القضاء له، بخلاف ما إذا حكم عليه، لأنه تقبل شهادته عليه لانتفاء التهمة، فكذا القضاء.
مذهب المالكية (32):
لا يحكم الحاكم لمن لا يشهد له كأبيه وابنه، وجاز أن يحكم عليه.
مذهب الحنابلة (33):
ليس لمن ولاه الإمام تولية القضاة أن يولى نفسه ولا والده ولا ولده.
الأب وشهادته لولده وعليه والعكس
مذهب الشافعية (34):
ولا تقبل شهادة الوالدين للأولاد وإن سفلوا، ولا شهادة الأولاد للوالدين وإن علوا. وقال المزنى وأبو ثور: تقبل، ووجهه قوله تعالى: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم (35) " فعم ولم يخص، ولأنهم كغيرهم فى العدالة فكانوا كغيرهم فى الشهادة، وهذا خطأ لما روى ابن عمر- رضى الله عنهما - أن النبى - صلى الله عليه وسلم- قال: " لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذى أحنة ".
والظنين: المتهم، وهذا متهم لأنه يميل إليه ميل الطبع، ولأن الولد بضعة من الوالد، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام-: " يا عائشة إن فاطمة بضعة منى، يريبنى ما يريبها ". ولأن نفسه كنفسه، وماله كماله، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام- لأبى معشر الدارمى: " أنت ومالك لأبيك" وقال - عليه الصلاة والسلام- " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه " ولهذا يعتق عليه إذا ملكه، ويستحق عليه النفقة إذا احتاج، والآية نخصها بها ذكرناه. والاستدلال بأنهم كغيرهم فى العدالة يبطل بنفسه، فإنه كغيره فى العدالة، ثم لا تقبل شهادته لنفسه، وتقبل شهادة أحدهما على الآخر فى جميع الحقوق. ومن أصحابنا من قال: لا تقبل شهادة الولد على الوالد فى إيجاب القصاص وحد القذف، لأنه لا يلزمه القصاص بقتله ولا حد القذف بقذفه، فلا يلزمه ذلك بقوله. والمذهب الأول، لأنه إنما ردت شهادته له للتهمة، ولا تهمة فى شهادته عليه.
مذهب الأحناف (36):
لا تقبل شهادة الوالد لولده وولد ولده، ولا شهادة الولد لأبويه وأجداده ، والأصل فيه قوله - عليه الصلاة والسلام- " لا تقبل شهادة الولد لوالده، ولا الوالد لولده، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته، ولا العبد لسيده، ولا المولى لعبده، ولا الأجير لمن استأجره " ولأن المنافع بين الأولاد والأباء متصلة، ولهذا لا يجوز آداء الزكاة إليهم، فتكون شهادة لنفسه من وجه أو تتمكن فيه التهمة.
مذهب الحنابلة (37):
موانع الشهادة ستة أشياء: أحدها قرابة الولادة، فلا تقبل شهادة عمودى النسب بعضهم لبعض من والد وان علا، ولو من جهة الأم كأب الأم وابنه وجده ومن ولد وإن سفل من ولد البنين والبنات، لأن كلا من الوالدين والأولاد متهم فى حق صاحبه، لأنه يميل إليه بطبعه، بدليل قوله - عليه الصلاة والسلام-: " فاطمة بضعة منى يريبنى ما أرأبها " وسواء اتفق دينهم أو اختلف، وسواء جر بها نفعا للمشهود له أو لا كقذف وعقد نكاح إلا الولد من زنا أو رضاع ، فتقبل شهادة الولد لأبيه من زنا أو رضاع وعكسه، لعدم وجوب الإنفاق والصلة وعتق أحدهما على صاحبه. وتقبل شهادة بعضهم على بعض، لقوله تعالى " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين (38) " ولأن شهادته عليه لا تهمة فيها وهى أبلغ فى الصدق كشهادته على نفسه.
مذهب المالكية (39):
لا تصح شهادة لمتأكد القرب لاتهامه بجر النفع لقريبه كوالد لولده، وإن علا كالجد وأبيه، وولد لوالده وإن سفل كابن الابن أو البنت وزوجها، فلا يشهد الوالد لزوجة ابنه ولا لزوج ابنته ولا
الولد لزوجة أبيه وزوج أمه.
مذهب الزيدية (40):
تجوز شهادة الابن لأبيه والأب لابنه الكبير لا الصغير.

__________

(1) الشرح الصغير ج1 ص 334.
(2) المهذب ج 2 ص 266.
(3) سورة الطور: 21.
(4) المهذب ج2 ص 255، 256.
(5) الهداية ج 2 ص 123.
(6) الهداية ج 2 ص 132.
(7) المحلى ج 7 ص 311.
(8) التاج المذهب ج 4 ص443.
(9) المختصر النافع ص114.
(10) المحرر ج 2 ص 169.
(11) المهذب ج 2 ص290.
(12) سورة النور: 4.
(13) المهذب ج 2 ص 292.
(14) الهداية ج 2 ص 86، 96.
(15) الشرح الصغير ج 2 ص 389.
(16) كشاف القناع ج 2 ص 62.
(17) كشاف القناع ج 4 ص 73.
(18) التاج المذهب ج4 ص 227.
(19) المختصر النافع ص299.
(20) المحلى ج11 ص 296.
(21) المهذب ج 2ص 299.
(22) سورة المائدة: 38.
(23) كشاف القناع ج4 ص 84.
(24) الهداية ج 2 ص 105.
(25) الشرح الصغير ج 2 ص392.
(26) المحلى ج11 ص 313.
(27) التاج المذهب ج 4 ص 251.
(28) المختصر النافع ص 223.
(29) شرح النيل ج 8 ص 75.
(30) المهذب ج 2 ص309.
(31) الهداية ج 3 ص 87.
(32) الشرح الصغير ج 2 ص 311.
(33) كشاف القناع ج 4 ص 172.
(34) المهذب ج 2 ص 347.
(35) صورة البقرة: 282.
(36) الهداية ج 3 ص98.
(37) كشاف القناع ج4 ص 261.
(38) سورة النساء: 135.
(39) الشرح الصغير 319.
(40) التاج المذهب ج 4 ص 76.
(1/26)
الأب ومسائل الإقرار بالنسب أو الإرث

مذهب الأحناف (1):
ومن أقر بغلام يولد مثله لمثله وليس له نسب معروف أنه ابنه وصدقه الغلام ثبت نسبه منه وإن كان مريضا، لأن النسب مما يلزمه خاصة، فيصح إقراره به، وشرط أن يولد مثله لمثله، كى لا يكون مكذبا فى الظاهر، وشرط ألا يكون له نسب معروف، لأنه يمنع ثبوته من غيره، وإنما شرط تصديقه، لأنه فى يد نفسه إذ المسألة فى غلام يعبر عن نفسه بخلاف الصغير. ولا يمتنع بالمرض، لأن النسب من الحوائج الأصلية، ويشارك الورثة فى الميراث، لأنه لما ثبت نسبه منه صار كالوارث المعروف فيشارك ورثته ويجوز إقرار الرجل بالوالدين والولد والزوجة والمولى (2).
مذهب الحنابلة (3):
إن أقر مكلف بنسب صغير أو مجنون مجهول النسب بأن قال: إنه ابنى وهو يحتمل أن يولد لمثل المقر بأن يكون أكبر ممن أقربه بعشر سنين فأكثر ولم ينازعه منازع ثبت نسبه منه، لأن الظاهر أن الشخص لا يلحق به من ليس منه كما لو أقر بمال. وإن كان الصغير أو المجنون المقر به ميتا ورثه، لأن سبب ثبوت النسب مع الحياة الإقرار، وهو موجود هنا. وإن كان المقر به كبيراً عاقلا لم يثبت نسبه من المقر حتى يصدقه، لأن له قولا صحيحا. فاعتبر تصديقه، كما لو أقر له بمال. وإن كان ميتا ثبت إرثه ونسبه لأنه لا قول له فأشبه الصغير.
مذهب الزيدية (4):
لو أقر بصغير كان الصغير فى حكم المصدق، لأنه فى حال الصغر لا يصح منه الإنكار. فإذا بلغ ولم يصدق فإنه يبطل الإقرار ولو حكم الحاكم، لأن الحكم مشروط بالتصديق. ومن أقر بأحد توأمين أنه ابنه وصدقه لزمه الثانى ولو كذبه، لأنه إذا ثبت نسب أحدهما ثبت نسب الثانى.
مذهب الشافعية (5):
وإن هنأه رجل بالولد فقال: بارك الله لك فى مولودك وجعله الله لك خلفا مباركا، وأمن على دعائه، أو قال: استجاب الله دعاءك- سقط من النفى (أى نفى نسب الولد) ، لأن ذلك يتضمن الإقرار به.
مذهب الشافعية (6):
الإقرار بالنسب يشترط فيه أهلية المقر للإقرار، ببلوغه وعقله وإمكان إلحاق المقر به بالمقر شرعا. ويشترط التصديق: أى تصديق المقر به للمقر فى دعواه النسب، فيما عدا الولد الصغير ذكرا كان أو أنثى، والمجنون كذلك، والميت.
مذهب الإباضية:
ومذهب الإباضية كالأحناف.
مذهب المالكية (7):
وإذا أقر أن مجهول النسب ابنه لحق به الولد إن لم يكذبه عقل لصغره: أى مدعى الأبوة. أو عادة كاستلحاقه من ولد ببلد بعيدة جدا يعلم أنه لم يدخلها أو شرع، فلو كان مجهول النسب المستلحق (بالفتح) رقا أو مولى (أى عتيقا) لمكذبه: أى لشخص كذب الأب المستلحق له- لم يصدق مدعى أبوته، لأنه يتهم على نزعه من مالكه آو الحائز لولائه.
مذهب الظاهرية (8):
وإقرار المريض فى مرض موته وفى مرض أفاق منه لوارث ولغير وارث نافذ من رأس المال كإقرار الصحيح ولا فرق.
الأب والميراث
فيه مباحث:
أولا: أن الأب أحد الأفراد الخمسة الذين لا يحجبون عن الميراث بغيرهم بحال.
ثانيا: يرث الأب تارة بالفرض فقط، ويرث تارة بالتعصيب فقط، و يرث تارة بهما معا فله فى الإرث ثلاثة أحوال:
ا- بالفرض فقط.
2- بالتعصيب فقط.
3- بهما معا.
الحالة الأولى: يرث بالفرض إذا كان للميت فرع وارث ذكر. يكون للأب السدس فرضا، لأنه وإن كان من العصبة إلا أن مرتبته من عصوبة الإرث مؤخرة عن عصوبة البنوة، قال تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له الولد}(9)
الثانية: يرث بالتعصيب فقط إذا لم يكن للميت فرع وارث ذكر أو أنثى، فيأخذ التركة كلها إن انفرد، و يأخذ الباقى بعد ذوى الفروض أن كان معه ذو فرض.
الحالة الثالثة: يرث بالفرض والتعصيب معا إذا كان للميت فرع وارث أنثى، فيأخذ الأب فرضه السدس أولا، ثم يقف عاصبا يرصد ما بقى من أصحاب الفروض، فإن بقى شىء أخذه بالتعصيب، وإن لم يبق شىء من أصحاب الفروض أقتصر الأب على السدس الذى ورثه بالفرض فقط، يأخذه الأب فرضا ولم يبق له شىء يأخذه بالتعصيب.
ثالثا: لا يحجب الأب فرع الميت ذكراً أو أنثى و إن نزل، ولا يحجب الأم وإن علت، ولا يحجب الزوج ولا الزوجة، ويحجب من عدا هؤلاء.

__________

(1) الهداية ج 3 ص 153.
(2) المرجع السابق ج 3 ص 154.
(3) كشاف القناع ج 4 ص 299، 300.
(4) التاج المذهب ج44 وما بعدها.
(5) المهذب ج 2 ص 123.
(6) الروضة البهية ج 2 ص225.
(7) الدردير ج 2 ص 181.
(8) المحلى ج 8 ص 254
(9) سورة النساء:
11
(1/28)
إباحة

الإباحة عند أهل اللغة:
ذكر علماء اللغة للإباحة عدة معان نذكر منها ما يتصل بمعناها الفقهى وذلك قولهم: " أبحتك الشىء أحللته لك، وأباح الشيء أطلقه " (1).
الإباحة عند الأصوليين:
ينظر الأصوليون للإباحة باعتبار أنها مأخوذة من أبحتك الشىء بمعنى أحللته لك أطلقتك فيه.
أو يعرفونها بأنها: التخيير بين فعل الشىء وتركه. وهذا مفاد تعريف الإمام الغزالى للجواز الذى هو مرادف للإباحة عنده إذ يقول (2): إن حقيقة الجواز مرادف للإباحة. ثم يقول: إن الجواز هو التخيير بين الفعل والترك بتسوية الشرع.
وقد ارتضى كل من البيضاوى والإسنوى هذا التعريف وقالا (3): لا اعتراض عليه. لكن الآمدى اعترض عليه بأنه تعريف غير مانع لدخول الواجب المخير والموسع فيه، (انظر مصطلح واجب).
وقالت (4): إن الأقرب لسلامة التعريف أن يزاد فيه قيد " من غير بدل " ليخرج ما عدا الإباحة فيكون التعريف: الإباحة هى التخيير بين فعل الشيء وتركه من غير بدل..
والشاطبى رأى ما رآه الآمدى من فساد التعريف المذكور ورأى (5) " زيادة قيد من غير مدح ولا ذم لا على الفعل ولا على الترك " ويكون تعريفها " التخيير بين فعال الشىء وتركه من غير مدح ولا ذم لا على الفعل ولا على الترك ".
وهناك تعريف آخر نقله الآمدى أيضا يفيد إن الإباحة أعلام الفاعل أو دلالته أنه لا ضرر عليه فى فعل الشىء أو تركه ولا نفع له فى الآخرة.
ولابن السبكى تعريف للإباحة قريب من هذا. وكذا منلا خسرو، وعبيد الله بن مسعود صدر الشريعة، والشوكانى(6).
لكن الآمدى نص على أنه تعريف غير جامع لأنه يخرج عن حد الإباحة ما خير الشارع فيه مع اشتمال الفعل أو الترك على ضرر، كما يخرن عنها ما دال الدليل على الاستواء فيه فى الدنيا والآخرة.
تم انتهى الآمدى بوضع تعريف للإباحة بأنها دلالة خطاب الشارع على التخيير بين فعل الشئ وتركه من غير بدل.
الإباحة عند الفقهاء:
يستعمل الفقهاء لفظ الإباحة كثيرا وخاصة الأحناف عند الكلام عن الحظر والإباحة، ونقل كل من الميدانى وأبى بكر اليمنى والحصكفى عن عبد الله بن مودود الموصلى أن الإباحة ضد الحظر وان المباح ما أجيز للمكلفين فعله وتركه بلا استحقاق ثواب ولا عقاب أو مأخذ فيه (7).
وفسر العينى الإباحة بأنهما " الإطلاق فى مقابلة الحظر الذى هو المنع " (8). وسلك مسلكه فى هذا كل من قاضى زاده (9) وشيخ زاده، وقد ورد هذا التعبير أيضا فى عبارة صاحب الاختيار حيث قال (10) وهو بصدد التعليل لتسمية صاحب القدورى مسائل باسم الحظر والإباحة: " هو صحيح لأن الحظر المنع، والإباحة الإطلاق "(11).
فتفسير العيني ومن سلك مسلكه للإباحة لوحظ فيه المعني اللغوى الذى هو الإطلاق سواء أكان من جانب الله أم من جانب العباد، فهو أعم من التعريف الأول للفقهاء الذى قصروا الإباحة فيه على تخيير الله لعباده 0
وعلى التعريف الفقهى الثانى تكون الإباحة لمعنى الإذن وهو ما جرى عليه الشريف الجرجانى فى تعريفها حيث قال (12): " الإباحة الإذن بإتيان الفعل كيف شاء الفاعل ". فالإباحة ليست إجراء تعاقديا، فلا يشترط فيها أن يكون المأذون له معينا معلوما للإذن وقت الإذن لا بشخصه ولا باسمه، فمن يضع الجوابى والأباريق على قارعة الطريق مملوءة بالماء فانه يبيح بذلك لكل من يمر أن يشرب منها دون تعيين للمأذون له لم لا بالاسم ولملا بالوصف.
وكذلك فان الإباحة جائزة، كما يقول - أبن حزم الظاهرى (13) فى المجهول، وذلك كطعام يدعى إليه قوم وكذلك قال الإباحة جائزة ، كما يقول ابن حزم الظاهرى فى المجهول ، وذلك كطعام يدعى إليه قوم يباح لهم أكله ولا يدرى كم يأكل كل منهم.
وقال: أن هذا منصوص من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد قال: " من شاء أن يقتطع إذا نحر الهدى، كما أمر المرسل بالهدى إذا عطب أن ينحره ويخلى بينه وبين الناس؟.
صيغ الإباحة:
بتتبع ألفاظ القرآن لم نجد كلمة الإباحة ولا شيئا مما تصرف منها بفعل أو مشتق، وإنما يوجد فى أساليب القرآن، كما يوجد فى السنة النبوية الكريمة ما يدل عليها، ولا سبيل إلى حملها على غير الإباحة، على ما تفيده عبارات المفسرين وإفهام الفقهاء ومن ذلك نفى كل الحرج ونفى الجناح والإثم والمؤاخذة والحنث والسبيل والبأس وكثيرا ما استعمل الفقهاء كلمة لا بأس بمعنى الإباحة فى كتب الفقه: ومن ذلك قول صاحب الاختيار (14): ولا بأس بتوسد الحرير وافتراشه، ولا بأس بلبس ما سداه إبريسم ولحمته قطن أو خز، ومثله فى درر المنتقى(15).
وهناك أساليب يترجح فيها معنى الإباحة ومنها إثبات الحل، فانه وإن كان صالحا للاستعمال فى الإباحة وغيرها مما ليس بحرام، فإن السياق والقرينة هما اللذان يحددان الغرض، ولذلك قال الفقهاء فى الحديث الذى رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمر عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الحلال إلى الله الطلاق): أن الطلاق مباح.
ومن الأساليب التى يترجح فيها معنى الإباحة نفى التحريم مثل قوله تعالى: ( قل من حرم زينة الله ((16). ونفى النهى مثل قوله تعالى:( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ((17). والاستثناء من التحريم الصريح مثل قوله تعالى: ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ((18).
والاستثناء الضمنى من التحريم الصريح كما فى قوله تعالى: ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به( إلى قوله: ( فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم فان الله غفور رحيم ((19).
فقد صرح القرطبى المالكى(20) باعتبار هذا الأسلوب إباحة حيث قال: فاشترط فى إباحة الميتة للضرورة ألا يكون باغيا.
ومن الألفاظ التى يستفاد منها الإباحة صيغة الأمر، وقد نقل الآمدى (21) عن بعض الأصوليين أن صيغة الأمر وضعت حقيقية لإفادة الإباحة، وأنها تفيد غيرها بطريق المجاز ، وتحتاج فى إفادتها غير الإباحة إلى قرينة.
ومنهم من قال أنها حقيقة فى الطلب مجاز فيما سواه ودلالة صيغة الأمر على الإباحة تعتبر مجازية عند من يقول أن الأمر موضوع للندب وهو أبو هاشم الجبائى والمعتزلة ورواية عن الشافعى.
وكذلك تعتبر مجازيه على رأى الماتريدى وأتباعه الذين يقولون أن صيغة الأمر موضوعة فى الأصل للقدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب، فإنها تفيد الإباحة بطريق المجاز، وأحتاج فى إفادة ذلك إلى فريضة. وكذلك بالنسبة للقائلين بأن صيغة الأمر مشتركة بين كل من الوجوب والندب أى موضوعة لكل على حدة، فإنها تكون مجازا أيضا فى استعمالها للإباحة.
وحتى عند القائلين بأن صيغة الأمر مشتركة فى إفادة الوجوب والندب والإباحة حقيقة والقائلين بأنها مشتركة فى إفادة ذلك وفى إفادة التهديد أيضا فإن استعمالها فى الإباحة وإن كان حقيقيا عندهم إلا أنه يحتاج إلى قرينة باعتباره مشتركا، إذ المشترك لا يستعمل إلا بقرينة دفعا للبس ، وبذا يكون لابد من القرينة فى استعمال الأمر للإباحة سواء قلنا انه مجاز أو مشترك (22).
ويقول البيضاوى (23): إن صيغة الأمر تستعمل فى الإباحة نحو( كلوا من الطيبات((24) وعلى ذلك الأسنوى بقوله: يجب أن تكون الإباحة معلومة من غير الأمر حتى تكون قرينة لحمله على الإباحة كما وقع العلم به هنا.
وقد نقل والشوكانى (25) عن بعض الأصوليين أن صيغة الأمر مشتركة اشتراكا لفظيا بين الوجوب والندب والإباحة وأن المرتضى من الشيعة قال:إنها للقدر المشترك بين الوجوب والندب والإباحة وأن جمهور الشيعة قالوا إنها مشتركة بين الثلاثة المذكورة والتهديد وهو محكى عن ابن سريج، ومن استعمالات الأمر فى الإباحة بالقرينة قول الله تعالى: ( وإذا حللتم فاصطادوا((26) بقرينة أنه كان ممنوعا وقت الإحرام بقوله تعالى: ( غير محلى الصيد وأنتم حرم ( (27) ولهذا يقول الأصوليون: إن الأمر بعد النظر يفيد الإباحة (28) فإن ورد الأمر بعد حظر لمتعلقه أو استئذان فيه - على رأى الرازى - فهو للإباحة حقيقة لتبادرها الى الذهن فى ذلك، وقيل للوجوب، ومما جاء دالا على الإباحة قوله صلوات الله عليه فيما رواه الطبرانى عن شداد بن أوس:(صلوا فى نعالكم ولا تتشبهوا باليهود). فالأمر هنا يدل على الإباحة ويفيد أن الصلاة بالنعل جائزة على سبيل الإباحة ما دامت طاهرة 0 وقد علق على ذلك الحديث العلقمى بقوله: صلوا فى نعالكم إن شئتم فالأمر للإباحة، فالصلاة بالنعل جائزة حيث لا نجاسة (29).
ويقود الآمدى (30): إذا وردت صيغة أفعل " الأمر" بعد الحظر فمن قال أنها للوجوب قبل الحظر اختلفوا، فمنهم من أجراها على الوجوب ، ومنهم من قال أنها للإباحة وهم أكثر الفقهاء ومنهم من توقف كإمام الحرمينر. وذكر من أمثلة ذلك قوله تعالى: ( وإذا حللتم فاصطادوا ( ( فإذا طعمتم فانتشروا ( (31) ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا ((32) وقوله عليه الصلاة والسلام:(كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحى فادخروا).
ثم رجع احتمال الحمل على الإباحة نظرا إلى غلبة ورود مثل ذلك للإباحة دون الوجوب.
ومن الألفاظ التي تستفاد منها الإباحة:
النهى بعد الوجوب على بعض الآراء. قال السبكى والمحلي فى جمع الجوامع وشرحه (33): إن النهى بعد الوجوب للتحريم عند الجمهور، وقيل للكراهة وقيل للإباحة نظرا إلى أن النهى عن الشىء بعد وجوبه يرفع طلبه فيثبت التخيير فيه.
وجاء فى تقرير الشربينى على جمع الجوامع بهذا الصدد: إن الوجوب لشىء إذا نسخ بقى الجواز بمعني عدم الحرج فى الفعل والترك، وقيل تبقى الإباحة فقط، كما قالوا بالنسبة لنسخ الوجوب فى آية الوصية، وقيل يبقى الاستحباب.
وجاء فى المنهاج للبيضاوى وشرحه للأسنوى (34): إن القائلين بالإباحة فى الأمر بعد الحظر اختلفوا فى النهى بعد الوجوب فمنهم من طرد القياس، وحكم بالإباحة لأن تقدم الوجوب قرينة، ومنهم من حكم بأنه للتحريم كما لو ورد إبتداء.
وقالوا: إن مما يدل على الإباحة استعمال مادة المشيئة فى مثل قوله تعالى: {ترجى من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء( (35) فإنها تفيد إباحة ترك الرسول صلوات الله عليه القسم بين زوجاته وذلك إذا لم تكن هناك قرينة تدل على أن المراد التهديد كما فى قوله تعالى: ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (36) فى مسألة المباح.
ومما يؤيد ذلك قود الغزالى (37): أن من الأفعال ما صرخ الشارع فيه، وقال إن شئتم فافعلوه، وإن شئتم فاتركوه ومنها ما لم يرد فيه خطاب بالتخيير، لكن دل دليل السمع على نفى الحرج فى فعله وتركه.
ومما يدل على الإباحة من غير لفظ أفعال الرسول فى بعض أنواعها فقد نص الآمدى (38) على أن ما كان من الأفعال الجبلية أى الطبيعية كالقيام والقعود والأكل والشرب ونحوه، فلا نزاع فى كونه على الإباحة بالنسبة إلى النبى وإلى أمته.
ويقول الشوكانى (39): إن ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلية كالقيام والقعود ونحوها فليس فيه تأس ولا به اقتداء ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور ثم أورد خلافا لغيرهم فى ذلك فقد نقل البالقلانى عن قوم أنه مندوب ولمحات كذا حياء الغزالى فى كتابه المنخول، وقال: لأن عبد الله بن عمر يتتبع مثل هذا ويقتدى به كسا هو معروف عنه.
وأما تقرير النبى عليه الصلاة والسلام ، فإن ما سكت النبى عنه ولم يكن قد سبق منه النهى عنه ولا عرف تحريمه فإن سكوته عنه يدل على إباحته. ومثل الشوكانى (40) لذلك بأكل العنب بين يدى الرسول ونقل عن أبن، القشيرى أن هذا مما لا خلاف فيه يقول الآمدى (41): إن ما أقره النبى ولم يكن قد سبق منه النهى ولا عرف تحريمه فسكوته عن فاعله وتقريره له يدل على جوازه، ورفع الحرج عنه لأنه لو لم يكن فعله جائزا لكان تقريره له عليه مع القدرة على إنكاره حراما على النبى عليه الصلاة والسلام، فحيث لم يوجد منه ذلك دل على الجواز غالبا.
الصلة بين الإباحة والتخيير والحل والجواز والصحة والعفو الصلة بين الإباحة والتخيير:
الإباحة عند الأصوليين هى التخيير بين الفعل والترك من غير ثواب ولا عقاب على ما تقدم، أما التخيير فهو أعم من ذلك لأنه تارة يكون على سبيل الإباحة وتارة يترتب على الترك عقاب، وعلى الفعل ثواب فى الجملة كتزويج البكر الطالبة للنكاح من أحد الكفأين الخاطبين، وعند الإمامة لأحد الإمامين الصالحين (42) انظر " تخيير ").
2- الصلة بين لفظي الإباحة والحل:
الحل ومشتقاته يستعمل فى لسان الشرع بمعنى ما يقابل التحريم ومشتقاته، ومن ذلك قوله تعالى: ( وأحل الله البيع وحرم الربا ( (43).
ومقتضى ذلك أن الحلال مقابل للحرام وقسيم له فوجب أن يشمل الحلال كل ما عدا الحرام فيكون أعم من المباح، وهذا ما فهمه الفقهاء وظهر فى عباراتهم واضحا.
الصلة بين لفظي الإباحة والجواز:
(44) الغزالى يرى أن لفظ الجواز مرادف للفظ الإباحة حيث يقول: إن حقيقة الجواز التخيير بين الفعل والترك والتسوية بينهما بتسوية الشرع.
ولكن الأحناف يرون (45) أنه مرادف للحل وأعم من الإباحة (انظر جواز).
الصلة بين لفظي الإباحة والصحة:
يرد البيضاوى الصحة إلى الإباحة فيقول (46): الصحة إباحة الانتفاع.
أما جمهور الأصوليين فإنهم يرون أن الصحة وصف للفعل الذى يقع من المكلف إن كان مستجمعا لشرائطه فهى من الأحكام الوضعية و العقلية كما يرى بعض الأصوليين (47) بينما الإباحة من الأحكام التكليفية (أنظر: صحة. حكم).
الصلة بين لفظى الإباحة والعفو:
لما كان ما فى مرتبة العفو ليس مطلوبا فعله ولا تركه التبس بالمباح لرفع المؤاخذة فى كل وإن لم يكن العفو من الأقسام الخمسة التكليفية: الواجب، المندوب، المباح، المكروه، الحرام... على ما بينه الشاطبى (48).
وأدخل الشاطبى فى مرتبة العفو كل، فعل صدر عن غافل أو ناس أو مخطئ. وقال: أن مما يظهر فيه معنى العفو الرخص، لا فرق بين أن تكون الرخصة مباحة أو مطلوبة، فلفظ العفو مما يتردد ذكره فى الشريعة الإسلامية، وهو قريب المعنى من المباح وإن لم يكن مندرجا تحته فى بعض الجزئيات والاطلاقات.
وهذه الجزئيات والاطلاقات على الجملة أما أن تكون مسكوتا عنها فى الشريعة، وهذه تتسم بسمة الإباحة الأصلية التي عبر عنها الأصوليون أحيانا بالبراءة الأصلية وأما أن تكون منصوصا على حكمها بالطلب أو المنع وخالف المكلف من غير عمد ولا قصد، أو بحكم الاضطرار، فيتجاوز الشارع عن ترتيب الأثر ويدخل هذا تحت مفهوم الإباحة العارضة.
تغير وصف الإباحة: قد يكون الشىء فى ذاته مباحا، ولكنه يكون فى بعض الأحيان ذريعة إلى مطلوب أو محظور فيأخذ حكمه.
قال الشاطبى (49): المباح من حيث ما هو ذريعة إليه ثلاثة أقسام:
ذريعة إلى ما هو منهى عنه، فيكون من تلك الجهة مطلوب الترك، أى على سيل التحريم الكراهة.
الثانى: ما يكون ذريع إلى مأمور به كالمستعان به على أمر أخروى. ففى الحديث: (نعم المال الصالح للرجل الصالح) وذلك فى الشريعة كثير لأنها لما كانت وسائل إلى مأمور به كان لها حكم ما توسل بها إليه، وهذا القسم مطلوب الفعل على سبيل الوجوب أو الندب 0
الثالث: ما لا يكون ذريعة إلى شئ فهو المباح المطلق، وعلى الجملة فإذا فرض ذريع إلى غيره، فحكمه حكم ذلك الغير.
أقسام الإباحة:
يقسم الغزالى (50) ، الأفعال المباحة ثلاثة أقسام:
الأول: ما بقى على الأصل فلم يرد فيه تعرض لا بصريح اللفظ ولا بدليل من أدلة السمع، فينبغى أن يقال استمر فيه ما كان ولم يتعرض له السمع فليس فيه الحكم.
الثانى: ما صرح فيه الشارع بالتخير وقال إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه، فهذا خطاب والحكم لا معني له إلا الخطاب ولا سبيل إلى إنكاره وقد ورد.
الثالث: ما لم يرد الخطاب فيه بالتخيير، ولكن دل دليل السمع على نفى الحرج عن فعله وتركه فقد عرف بدليل السمع، ولولا هذا لكان يعرف بدليل العقل نفى الحرج عن فاعله وبقاؤه على النفى الأصلى 0
وعلى هذا فالمباح لذاته عند الغزالى قسمان: ما ورد فيه حكم الشارع بالتخيير أى ما ثبت بالدليل السمعى الصريح التالي: ما لم يرد فيه خطاب صريح، لكن دل عليه دليل سمعى غير صريح وأيده العقل. أما الفقهاء" فإنهم لما كانوا يستعملون الإباحة استعمالا دارجا بمعني الإذن، وكان مصدر هذا الإذن مختلفا فى الظاهر أمكن تقسيم الإباحة من ناحية منشأ الإذن المباشر إلى قسمين: إباحة مصدرها الشارع مباشرة بما ورد من نصوص تدل عليه أو استنباط المجتهدين له، و إباحة مصدرها المباشر العباد بعضهم مع بعض.
كما أنها تنقسم من ناحية متعلقها إلى قسمين أيضا:
1- إباحة استهلاك.
2- إباحة استعمال.
وفى كل هذا فإنها إما أن تكون إباحة عامة أو إباحة خاصة، فالإذن العام من الشارع بالاستهلاك كما فى الأشياء التي ورد النص على أن الناس شركاء فيها فتكون مباحة لكل من يستولى عليها، ومن ذلك صيد البحر مطلقا وصيد البر لغير المحرم، ومن ليس فى الحرم يقول الله تعالى: ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ( (51) ومما ورد فيه الإذن العام الماء والكلأ والنار بنص الحديث الذى رواه الخلال أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (الناس شركاء فى ثلاث: الماء والكلأ والنار).
ومن ذلك الأرض الموات، يقول النبى عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذى عن سعيد بن زيد: (من أحيا أرضا ميتة فهى له) إلى غير ذلك مما جاء فى كتب الفقه) انظر صيد- حرم- موات).
الإذن العام من الشارع بالاستعمال:
يتناول إباحة المنافع العامة التي أباحها الشارع لاستعمال المعين بنص شرعى أو قاعدة عامة تتصل بمصالح العباد، وذلك كالطرق العامة، فحق المرور فيها ثابت للناس جميعا بالإباحة الأصلية ولأصحاب العقارالمتصل بها أيضا بعض نواحى الانتفاع الأخرى كفتح الأبواب والنوافذ وغيرها مما لا ضرر فيه 0
يقول الغزالى (52): فالشوارع على الإباحة كالموات إلا فيما يمنع الطروق (أى المرور) فلكل واحد أن يتصرف بما لا يضر المارة وكذلك الهواء كما يقول السرخسى (53).
ويقول الفقهاء فى الطريق الخاص: إن حق العامة يتعلق به أيضا فيستعملونه فيما شرع من أجله من المرور واللجوء إليه وقت الزحام ما دام أصحاب الطريق لم ينشئوا عند أحداثه ما يدل على تخصيصه بهم ، والإذن الخاص من الشارع بإباحة الانتفاع بشئ مثل إباحة الرسول عليه الصلاة والسلام لأحد الأفراد أن يتزوج امرأة بما معه من القرآن دون أن ينقذها مهرا أو يشترط لها التعلم كما فى الحديث المتفق عليه أن النبى - صلى الله عليه وسلم - وهب امرأة لرجل بقوله: (ملكتكها بما معك من القرآن فقد أباح له المتعة بما لم يبحها به لغيره) (54).
ومن ذلك فيما يرى الخطابى الشخص الذى جامع امرأته فى نهار رمضان ولما ذهب إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وقص عليه، قال له فى شأن الكفارة وكانت الإطعام: (أذهب فأطعمه أهلك).
ويقول الخطابى: (إن الإذن فى إطعام الكفارة لأهله الدين تجب نفقتهم عليه كان رخصة له خاصة) (55).
ومن ذلك الإذن للمسافر فى الفطر على ما ذكره ابن الحاجب والبيضاوى فى المنهاج. والإذن للطبيب بالاطلاع على عورة المرأة للعلاج إذا لم يكن متعينا لذلك العلاج وإلا كان واجبا لا مباحا.
إذن العباد بعضهم مع بعض: ويتحقق هذا فى أمرين، أحدهما الأموال الخاصة التى يأذن فيها بعض الناس لبعض كهبات، والطعام والشراب إباحة عامة أو خاصة. وكذا فى نثر الدراهم والورود أو ترك الشىء من ذلك مع الإذن بأخذه، ففى هذه الجزئيات وأمثالها تسليط على نفس العين وإباحة لاستهلاكها.
الثانى: منافع هذه الأموال وكذا الحقوق التى تستباح بإباحة الأفراد وهى ما كانت حقا خالصا للعباد، لأنها تستباح بإباحة المالك وتتحقق الإباحة الخاصة فى ذلك بالإذن لأخر من مالك العين أو من مالك المنفعة لينتفع المأذون له بالعين على الوجه الذى أذن له فيه، كأن يأذن إنسان لآخر بأن يركب سيارته أو يضيفه للمبيت عنده أو يأذنه باجتياز ممره الخاص أو إمرار الماء فى مجراه الخاص، و يستوي فى ذلك أن يكون الآذن مالكا لرقبة ما أذن فيه ومنفعته أو مالكا لمنفعته فقط، كأن يأخذه بطريق الإجارة أو الإعارة أو الوصية أو الوقف إذا تحقق شرط صحة الإذن لمالك المنفعة على التفصيل الوارد فى كتب الفقه فى مواضعه.
أسباب الإباحة:
الإباحة الأصلية سببها فى الواقع انتفاع الناس والتوسعة عليهم، يقول الله تعالى: {هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعا} (56) فاللام تفيد الاختصاص على جهة الانتفاع للمخاطبين ألا ترى أنك لو قلت الثوب لزيد فإن معناه أنه مختص بنفعه (57).
ويرى الشاطبى فى موافقاته أن الرخصة غالبا من قبيل الحكم التخييرى فغالب الرخص على نمط المباح، فالترخيص غالبا سبب من أسباب الإباحة الطارئة لأن معنى الترخيص التيسير والتسهيل على المكلف بتخييره بين الأخذ بالعزيمة أو الرخصة، وهذا هو معنى الإباحة ولا أدل على ذلك من ورود الترخيص بأساليب الإباحة فى النصوص القرآنية قال تعالى: ( فمن أضطر غير باغ ولا عاد فلا أثم عليه( (58). ففى الإثم من أساليب الإباحة وقد ورد الترخيص به، قال تعالى: ( وإذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ( (59). فالترخيص ورد بأسلوب الإباحة وهو نفى الجناح الأمر الذى يدل على أن المرخص به مباح، وأن الترخيص من أسباب الإباحة الطارئة، وقد أورد الشاطبى شبها على هذا ورد عليها (60) (انظر رخصة).
وغيره من الأصوليين يقسمون الرخصة إلى واجبة كأكل الميتة عند الاضطرار ، ومندوبة كقصر الصلاة للمسافر، ومباحة كالسلم والإجارة. فلا يعد الترخيص سببا من أسباب الإباحة عندهم إلا فى القسم الأخير، فالترخيص الذى يعد سببا هو ترخيص الشارع للمكلف بفعل المرخص به أو تركه دون أن يكون أحدهما راجحا على الأخر (61) و كذا فإنه يباح للمضطر أن يتناول من الميتة عند ضرورة خوف الهلاك من شدة الجوع بأن يأخذ منها ما يسد به رمقه عند الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية ير وقد أوجبه الحنابلة (62). وكقتل الصائل فإنه يباح للمجني عليه قتل الجانى أو قطع طرفه والمعتبر فى الفقه عدم ترتب أى جزاء على هذا القتل، فعدم ترتب الجزاء من ناحية العقوبة أو المثوبة دليل على أن الفعل مباح مستوى الطرفين ولا خلاف بين العلماء فى أن الإكراه الملجئ يكون سببا من أسباب الإباحة لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: " رفع عن آمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " والمرفوع هو الإثم باتفاق الفقهاء وهذا آية الإباحة الفعل المكره عليه إذ لو لم يكن مباحا لما أرتفع إثمه ولما ارتفعت المؤاخذة عليه، فالمكره على شرب الخمر إكراها تاما يباح له ان يتناول الخمر ولو تناوله لا يقام عليه الحد اتفاقا.
وقال أبو يوسف، من الأحناف: إنه يباح له أن يترك التناول حتى لو مات كان غير آثم، وذهب جمهور العلماء إلى أن المكره على شرب الخمر لا يسعه أن يترك الشرب فالترك الجائز له بمقتضى الإباحة التى تدل على استواء الطرفين يمنع منه انه يفضى الى التهلكة، وهذا محرم يقول الله تعالى: ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (63) ( وإن كان الإكراه ناقصا فالأحناف على أن الشرب يحرم على المكره فلا يكون الإكراه الناقص سببا من أسباب الإباحة ويرى بعض العلماء أن الإكراه بنوعيه التام أو الناقص يبيح الفعل عملا بالإطلاق الموجود فى حديث " رفع عن آمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
غير أن المالكية والظاهرية يرون الإكراه على إتلاف مال الغير لا يبيح الفعل ولو كان الإكراه تاما لتعلق حق العبد به فالشارع لم يبح لإنسان أن يدفع الضرر عن نفسه بإضرار غيره ولقول الرسول: " لا ضرر ولا ضرار "، وقد يكون الاستحسان سببا من أسباب الإباحة كالسلم مثلا محظور أستفيد حظره من قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تبع ما ليس عندك " لأن النهى يفيد الحظر، ولكن ورد نص شرعي يقتضى استثناءه من عموم هذا الحظر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " من أسلف فليسلف فى كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ".
فللمكلف بمقتضى هذا الاستحسان أن يتعامل بالسلم وأن يترك التعامل به فهو مجر بين فعله بناء على الاستحسان،وتركه بناء على أصل الحظر، ومن ذلك أيضاً إباحة عقد الإجارة وهى عقد على المنافع، فالأصل فيها الحظر لاندراجها تحت حديث " لا تبع ما ليس عندك "، إذ المنافع معدومة، لكن ورد نص شرعى يقتضى إخراجها من عموم هذا الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه " 0
ومن ذلك إباحة وقف الكتب وآلات الحرب، و إباحة استعمال سؤر سباع الطير قياسا على سؤر الإنسان، مع أن القاعدة أن الوقف لا يكون إلا مؤيدا، والقياس على سؤر سباع البهائم يقتضى عدم إباحة سؤر الطير.
والبيع بشرط محظور عملا بما روى عن النبى عليه الصلاة والسلام: أنه نهى عن بيع وشرط، ولكن جرى العرف ببيع الساعة مثلا بشرط إصلاحها مدة معينة، فيجريان العرف بذلك جعل البيع بشرط مع كونه محظورا باعتبار النص، مباحا باعتبار العرف. ومن ذلك الاستصناع، فالأصل فيه الحظر لأن المعقود عليه غير موجود فهو مخالف للقواعد العامة التى تقضى بوجود المعقود عليه، لكن لما جرى العرف بذلك كان جريان العرف سببا من الأسباب المبيحة لذلك المحظور، فالمكلف مخير بين أن يتعامل بالاستصناع وبين أن يتركه، وإذا كان هناك فعل حظره الشارع كقتل المسلم بغير حق، فقد تعرض لهذا المحظور مصلحة تجعل القتل مباحا كما إذا تترس الكفار بجماعة من المسلمين، بحيث لو كففنا عنهم لتغلب الكفار علينا واستولوا على دار الإسلام، ولو رمينا الترس وقتلنا المسلمين الذين معهم لاندفعت القوة عن كافة المسلمين قطعا، فهذا القتل وإن كان الدافع له المصلحة إلا أن هذه المصلحة لم يدل دليل من الشرع على اعتبارها ولا على إلغائها، وهى التى كانت سببا فى إباحة القتل المحظور.
وأكثر الفقهاء والأصوليين على أن الطلب بعد الحظر يفيد الإباحة، وإن كان المعتزلة يرون أنه يفيد الوجوب.
وتوقف أمام الحرمين فى حكمه، فقد طلب الرسول ادخار لحوم الأضاحى بعد نهيه عن ذلك، وذلك فيما روى عنه من أنه قال: " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحى، فكلوا وادخروا ".
كما طلب زيارة القبور بعد نهيه عن ذلك فيما روى عنه من قوله: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها "... فكل من الادخار من لحوم الأضاحى وزيارة القبور كان محظورا، فطلب الشارع فعله فذهب أكثر الفقهاء إلى أن هذا يفيد إباحة ما كان محظورا لا وجوبه أو ندبه (64).
ومن ذلك قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} (65). وقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة، فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} (66).
طروء الإباحة على الواجب:
قد ينسخ الواجب فيصبح النسخ سببا فى إباحته اتفاقا، وهذا إذا ورد فى النص الناسخ ما يفيد الإباحة. أما إذا كان النص الناسخ لم يرد فيه ما يدل على إباحته أو تحريمه فهو أيضا يفيد الإباحة عند بعض العلماء.،
وخالف فى ذلك الغزالى لأن الوجوب يتضمن جواز الفعل الحرج في الترك ومعنى ذلك أنه لا حرج فى الفعل ولا حرج فى الترك، وهذا هو المباح لاستواء الطرفين من حيث الفعل والترك.
هل الإباحة حكم شرعى ؟:
أجمع الأصوليون على أن الإباحة حكم شرعى يقول صاحب مسلم الثبوت (67): الإباحة حكم شرعى، لأنه خطاب الشرع تخييرا والإباحة الأصلية نوع منه.
ويقول الغزالى (68): " المباح من الشرع " ولم يخالف فى ذلك الا بعض المعتزلة فإنهم قالوا: " إنه ليس من الشرع، إذ معنى المباح رفع الحرج عن الفعل والترك ، وذلك ثابت قبل السمع، فمعنى إباحة الشارع شيئا أنه تركه على ما كان عليه قبل ورود السمع ولم يغير حكمه "، " وكل ما لم يثبت تحريمه ولا وجوبه بقى على النفى الأصلى فعبر عنه بالمباح " وقد ناقش الشارع المعتزلة بما خلاصته: أن بعض الأفعال نص الشارع على التخيير فيه صراحة، وبعضها ذكر ما يدل على التخيير فيه بغير لفظ صريح وأيده العقل فهذه إباحة شرعية بلا كلام.-
وأما ما لم ينص الشارع فيه على شىء، فيمكن أن يقال أن السمع دل عليه على معنى أنه قال: " ما لم يرد فيه طلب فعل ولا ترك فالمكلف مخير فيه " كما رد الآمدى عليهم بقوله: " نحن لا ننكر أن انتفاء الحرج عن الفعل والترك ليس بإباحة شرعية، وإنما الإباحة الشرعية خطاب الشارع بالتخيير، وذلك غير ثابت قبل ورود الشرع ولا يخفى الفرق بين القسمين، فإذن ما أثبتناه من الإباحة الشرعية لم يتعرض المعتزلة لنفيه، وما نفى غير ما أثبتناه.
مذهب الكعبى فى الإباحة:
هذا وقد نفى الكعبى من المعتزلة وجود المباح فى الشرع إذ كل فعل موصوف بالإباحة مظهره تخيير المكلف بين الفعل والترك هو فى الواقع واجب مأمور به، لأن الأمور فى الشرع مترددة بين أن يكون فعلها هو المطلوب أو تركها هو المطلوب، تبعا للأكثر نفعا، إذ الشارع إنما يأمر بالذى نفعه أكثر من ضرره، ولا يمكن أن يتساوى الفعل والترك بالنسبة لنفع المكلف وضرره وما دام كذلك فلا يكون هناك تخيير فى الحقيقة، لأن الذى نفعه اكثر مأمور به والذى ضرره أكثر منهى عنه لانتفاء التساوى بين النفع والضرر على هذا الوجه ومادام التساوى منتفيا فالتخيير بين الفعل والترك غير متصور، فينتج أنه لا يمكن أن يكون فى الشرع مباح.
فالأكل والشرب كل منهما مطلوب بالقدر الذى يقيم الأود، واللهو المشروع مطلوب بالقدر الذى ينتفع به الذهن والجسم، والنوم مطلوب بالقدر الذى يسلم به العقل والجسم، والسعى فى طلب الرزق مطلوب بالقدر الذى تبقى به الحياة... وهكذا بالنسبة لكل ما اتصف بأنه مباح.
ونص دليل الكعبى الذى نقله الآمدى هو:" ما من فعل يوصف بكونه مباحا إلا ويتحقق بالتلبس به ترك حرام ما، وترك الحرام واجب ولا يتم تركه دون التلبس بضد من أضداده، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وبذا يكون فعل ما ظاهره التخيير واجبا عند الكعبى) ".
وقد نقل الآمدى (69) ردا على الكعبى بأنه " إن كان ترك الحرام واجبا فالمباح ليس هو نفس ترك الحرام بل شىء يترك به الحرام مع إمكان تحقق ترك الحرام بغيره فلا يلزم أن يكون واجبا ".
ثم يقول: " وهذا الموضوع فى غاية الغموض والإشكال ".
هل المباح يدخل تحت التكليف
ومما يتصل بهذين الموضوعين كون المباح داخل تحت التكاليف أم لا؟
فجمهور العلماء اتفقوا على أنه غير داخل فى التكاليف، إذ التكليف يكون بطلب ما فيه كلفة ومشقة، وهذا غير متصور فى التخيير بين الفعل والترك، غير أن أبا إسحاق الأسفرايينى يرى دخول لمباح تحت التكاليف، لأنه يجب اعتقاد إباحته والوجوب من خطاب التكليف.
ولعلهم يدخلون المباح الذى عبروا عنه بالتخيير فى التكليف تغليبا للأحكام التكليفية عليه لكثرة أنواعها من ناحية ، إذ التكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة، ولا شىء من ذلك فى المباح، وقد يكون ذلك التغليب لأن كثيرا من الأفعال المباحة جاءت بصيغة الطلب الذى هو الاقتضاء، وقد يكون ذلك بالنظر إلى وجوب اعتقاد كونه مباحا لا بالنظر إلى الفعل نفسه، وقد قال الشاطبى: إن المباح لا يكون مطلوب الفعل، ولا مطلوب الاجتناب، وأفاض فى الاستدلال على ذلك.
حكم أفعال العباد الاختيارية قبل بعثة الرسول:
نقلت كتب الأصول خلافا طويلا فى هذا فجمهور أهل السنة على أن أفعال العباد الاختيارية قبل بعثة الرسل لا ثواب عليها ولا عقاب فتكون كل الأفعال على البراءة الأصلية التى يعبرون عنها أحيانا بالإباحة الأصلية 0
أما المعتزلة: فيقولون فيما أدرك العقل حسنه وقبحه وانعدام كل منهما فيه أنه ينقسم إلى الأقسام الخمسة التي تعلق فيها حكم الشرع بأفعال المكلفين بعد ورود الشرع وما لم يدرك العقل حسنه ولا قبحه، فإنهم يختلفون فيه على ثلاثة مذاهب: مذهب يقول بالإباحة. وآخر يقول بالتحريم. وثالث بالتوقف.
على أن هذه الأقوال نفسها تنقل عن الأشاعرة من أهل السنة فى الأفعال الاختيارية بصفة عامة قبل البعثة (70).
وأما أفعال المكلفين بعد بعثة الرسل فيما لم يرد نص بحكمه، فيقول الأسنوى (71): الأصل فى الأشياء النافعة الإباحة، وفى الأشياء الضارة الحرمة.
ويقول ابن السبكى (72) فى جمع الجوامع وشرح المحلى: الصحيح فى حكم أفعال العباد بعد البعثة فيما لم يرد به نص أن أصل المضار التحريم والمنافع الحل.
وقد نقل الكمال (73) خلافا بين أهل السنة فى أن الأصل فى الأفعال الإباحة أو الحظر وناقش كلا من الرأيين بما يفيد ان الخلاف فى الأفعال قبل البعثة.
ويقول الشوكانى(74): الأصل فيما وقع فيه الخلاف ولم يرد فيه دليل يخصه أو يخص نوع الإباحة أو المنع أو الوقف فذهب جماعة من الفقهاء إلى أن الأصل الإباحة، وذهب الجمهور إلى أن الأصل المنع، وذهب الأشعرى وبعض الشافعية إلى الوقف وصرح الرازى فى المحصول بأن الأصل فى المنافع الإذن وفى المضار المنع.
اثر الإباحة
- إذن الشارع بالاستهلاك والاستعمال يقتضى ملكية مستقرة بالاستيلاء الحقيقى على المأذون فيه أو اختصاصا لمن سبق فلا يملك أحد أن ينتزعه منه أو ينحيه عنه إذ لا يتصور انتهاؤها من الإذن.
وأما إذن العباد فانه مختلف فى أثره بين المذاهب على الوجه الآتي:
أولا- المذهب الحنفى:
جاء فى رد المختار (75): إذا تعلقت الإباحة بعين كما إذا ترك شخص ماله وقال من شاءه فليأخذه، ومن نثر نقودا ليأخذ كل من تناوله يده أو دعا صديقا إلى تناول طعامه فالجمهور من الحنفية على أن المال يظل مملوكا لصاحبه إلى أن تناله يد المباح له فيمتلكه بأخذه أو بتناوله، فإذا استهلكه بعد ذلك فقد استهلك مالا مملوكا.
وذهب آخرون إلى أن ذلك ليس من قبيل التمليك وأن المباح له لا يتملك المال بتناوله وإنما يظل المال ملكا لصاحبه ويستهلكه المباح له على ملك صاحبه بإذنه ولهذا لا يضمنه وعلى الرأي الأول أفتى فى كثير من المسائل.
وفى الدر المختار (76) أن من دعا قوما إلى طعام وفرقهم على أخونة فليس لأهل خوان مناولة أهل خوان آخر، ولا إعطاء سائل وخادم وهرة وكلب، ومثله فى الفتاوى الهندية (77) والبرازية (78).
وعلله صاحب الجوهرة بأنه أباح لهم خوانهم دون غيرهم، فإن ناول أهل خوان غيرهم لا يحل لهم أن يأكلوه. ومثله فى الفتاوى الهندية(79) بل ذكر صاحب الفتاوى الهندية أنه لا يجوز أن يدفع الضيف إلى ولد صاحب المائدة وعبده وسنوره، ثم قال: أن الاستحسان جواز ذلك.
وفى التتارخانية (80) عن فتاوى النسفى:
سئل نجم الدين عن امرأة أعطت زوجها مالا بسؤاله ليتوسع بالتصرف فيه فى المعيشة فظفر بالزوج بعض الغرماء واستولى على المال، هل للمرأة أن تأخذ ذلك المال من ذلك الغريم؟
قال: إن كانت وهبته للزوج أو أقرضته له فلا ، وإن كانت أعطته ليتصرف فيه على ملكها فلها ذلك.
وفى الفتاوى الهندية أيضا: أن من وضع مقدارا من السكر أو عددا من الدراهم بين قوم وقال: من شاء أخذ منه شينا، أو قال: من أخذ منه شيئا فهو له فكال من اخذ منه شيئا يصير ملكا له ولا يكون لغيره ان يأخذ ذلك منه (81)
ومن أصرح ما أورده الفقهاء فى هذا المقام من عدم أفاد الإباحة التمليك ما جاء فى مبسوط السرخسى، من أن المباح له الطعام لا يملكه و إنما يتناوله على ملك المبيح وفى مرير الرافعى ما يقيد أنه يستهلكه وهو على ملك صاحبه.
ثانيا- فى الفقه الشافعى:
جاء فى حاشية البجرمى على الإقناع (82) أن رجلا لو أعطى آخر كفنا لأبيه فكفنه فى غيره فعليه رده له إن كان لم يقصد التبرع على الوارث وعلم قصده، فان قصد التبرع وعلم قصده كان هبة للوارث فلا يلزمه رده، وعبارة الشافعية تنفق فى دلالتها مع مسلك بعض الأحناف من أن مجرد الإباحة لا تفيد تمليكا و إنما هى طريق إليه.
يقول القليوبى فى حاشيته على شرح المنهاج (83): " إن الملك فى الضيافة يترتب عليها بالوضع فى الفم أو بالازدراد على الأصح، ورجح صاحب نهاية المحتاج تبعا للشرح الصغير والمفتى به عندهم أنه يملكه بوضعه فى فمه ".
ثم قال: إنه يحل التقاط المنثور فى الأملاك وليمة النكاح، كالسكر واللوز والفلوس، وأن من أخذ من المنثور أو التقط وبسط ثوبه لأجله فوقع فيه ملكه.
وفى حاشية الباجورى (84) على ابن القاسم والمنهاج وشرحه أيضا (85).
يجوز للضيف الأكل مما قدم له بلا لفظ من مضيفه اكتفاء بالقرينة العرفية كما فى الشرب من السقايات التي فى الطريق إلا أن ينتظر الداعى غيره أو يكون قبل تمام السفرة، فلا يأكل حتى يحضر أو يأذن المضيف لفظا بخلاف غير ما قدم له فليس له الأكل منه.
ولا يتصرف فيما قدم له بغير الأكل لأنه المأذون فيه عرفا، فلا يطعم منه سائلا ولا هرة إلا بإذن صاحبه أو علم رضاه. نعم له أن يلقم منه غيره من الأضياف إلا أن يفاصل المضيف الطعام بينهم فليس لمن خص بنوع أن يطعم غيره منه ويملك الضيف ما التقمه بوضعه فى فمه بمعنى أنه إن ازدرده استقر على ملكه، وإن أخرجه من فمه تبين بقاؤه على ملك صاحبه.
ثالثاً - فى الفقه المالكى:
جاء فى حاشية الصاوى على الشرح الصغير للدردير (86):
" هل الطعام المقدم للضيوف يملكونه بمجرد التقديم أو لا يملكونه إلا بالأكل وعلى كل لا يجوز للواحد من الضيوف أن يعطى أحدا منه شيئا بغير إذن صاحبه بناء على أنه لا يملكه إلا بالأكل أو بغير إذن من بقية أصحابه بناء على ملكهم له بالتقديم فعلى الأول العبرة بإذن بعضهم وعلى الثانى العبرة بإذن صاحب الطعام.
وفى فتاوك عليش(87): " وسئل سيدى أحمد الدردير عن ذى فرح نثر على حاضريه دراهم فوقع فى حجر رجل منهم دراهم أكثر من غيره فهل يختص بها عن الحاضرين؟ قال: يختص الذى سقط فى حجره الدراهم الزائدة بها.
وينقل القرطبى المالكى (88) وغيره من المفسرين عند قوله تعالى فى سورة النور: " ولا على أنفسكم أن تأكلوا (89) "، ينقلون عن أئمة السلف أن الإباحة فى هذه المسائل لا تعدو أن تكون إذنا بالانتفاع القاصر، وأنه لا يجوز للمباح له أن ينقل العام إلى الخارج ولو إلى نفسه، هذا و إباحة المنافع كإباحة الأعيان لا تقتضى تمليكا فلا يملك المأذون له الإنابة ولا المعاوضة، وقد سمى القرافى من المالكية (90) إعطاء هذا الحق بتمليك الانتفاع وفرق بينه وبين ملك المنفعة وعبارته: تمليك الانتفاع يراد به أن يباشره هو بنفسه فقط وتمليك المنفعة أعم وأشمل فيباشر بنفسه ويمكن غيره من الانتفاع بعوض وبغير عوض، وتمليك الانتفاع كسكنى المدارس والرباط، ومنه الوقف على السكن إذا لم يزد على ذلك فإن زاد كقوله ينتفع بجميع أنواع الانتفاع، فهو تصريح بتمليك المنفعة وصار من النوع الثانى.
وفى تهذيب الفروق (91): " القاعدة أن الأصل بقاء الأملاك على ملك أربابها والنقل والانتقال على خلاف الأصل، فلذا متي شككنا فى رتب الانتقال حملناه على أدنى المراتب استصحابا للأصل فى الملك السابق ".
وفرع على هذا أنه لا يجوز للضيف أن يبيع الطعام المعد للضيافة، ولا أن يأكله للغير، بل يكله هو خاصة، على جرى العادة. نعم، له إطعام الهرة اللقمة واللقمتين ونحوهما بشهادة العادة لذلك.
رابعاً - فى الفقة الحنبلى:
ينقل ابن قدامة فى المغنى (92) أن النثار وإن كان مكروها إلا أنه لو حصل فى حجره شىء من النثار فهو له غير مكروه لأنه. مباح حصل فى حجره فملكه كما لو وثبت سمكة من البحر فوقعت فى. حجره، وليس لأحد أن يأخذه من حجره (93).
وفى المحرر فى باب الوليمة: " النثار والتقاطه مكروه تنزيها وعنه لا يكره كالمضحى يقول من شاء اقتطع ويملكه مرن أخذه أو وقع فى حجره مع القصد له وبدون القصد وجهان ".
خامسا- فى الفقة الظاهرى (94):
جاء فى المحلى:
" وكدار يبيح سكناها ودابة يمنح ركوبها وأرض يمنح زراعها وعبد يخدمه فما حازه الممنوح من كل ذلك فهو له لا طلب للمانح فيها وللمانح أن يسترد عين ما منح متى شاء سواء عين مدة أو لم يعين أشهد أو لم يشهد لأنه لا يحل مال أحد بغير طيب نفسه إلا بنص، ولا نص فى هذا وتعيينه المدة عدة والوعد لا يلزم الوفاء به فى باب النذور.. فما قبضه المجعول له فلا رجوع لصاحب الرقبة فيه وما لم يقبضه المجعول له فلصاحب الرقبة استرجاع رقبة ماله.
سادسا - فى فقة الإمامية
جاء فى مفتاح الكرامة (95): ملك المباحات متوقف على الحيازة والنية، ومع هذا فقد جاء فى موضع أخر: " إن المباح لا يحتاج فى تملكه إلى نية إذ نيته عين إحرازه عند بعضهم.
سابعاً - فى فقة الزيدية:
جاء فى البحر الزخار (96): النثار مباح إذ ما نثره مالكه إلا إباحة له ولا قول للهادى فيه لا نصا ولا تخريجا. وفيه: من مد ثوبه فله ما وقع فيه كالشبكة فإن سقط منه شئ ففى جواز أخذه تردد الأصح لا يجوز. وكذا انتهاب الناهب واحضاره يغنى عن الإباحة وقيل لا قلنا القرينة كافية، و إنما يؤكل بالإباحة كالطعام وله الرجوع ما لم يمضغ على الخلاف فى الطعام، قال وفيه نظر. إذ قد جعلوا له حكم الملك بعد الإحراز، وفيه أيضا: الإباحة لا تفتقر إلى لفظ بل تكفى القرائن كتقديم الطعام لعرف المسلمين والجهاز للمجهز ما لم يصدر منه لفظ تمليك أو قرينة هدية. إذ مجرد التسليم غير كاف بل ملك لمن صار إليه العرف المطرد فى دفعه تمليكا كالهدية وعدم ارتجاعه لا غرامة لما أتلف منه قولا واحدا إذ أدنى حالة الإباحة.
ثامناً - فى فقه الإباضى:
يقول صاحب شرح النيل: " ولا تناول أحداً شيئا على مائدة غيرك وهذا حق على الضيف فإن شاء صاحب الطعام أعطى سائلا أو قطا أو غيرهما أو إذن وللضيف فى الإعطاء ... وإن اعطى بدلالة عليه صحيحه مقبولة شرعا جاز، وإن رأى ما لابد فى حسن النظر من إعطائه شاور صاحب المال.
ما تنتهى به الإباحة
أشرنا إلى أن الإباحة الشارع لا يتصور إنهاؤها من قبله بعد انتهاء فترة الوحي، وأما الإباحة التى مصدرها العباد فإن الإذن فيها ينتهى بانتهاء المدة إن كان هناك أمد من الأذن أو بعدول الآذن عن إذنه ورجوعه فيه أو بوفاته أو بوفاة المأذون له، فإذا وجد شىء من هذه الأشياء بطل حق المأذون
له فى الانتفاع ولم يبق لورثته حق فيه، لأن الإباحة لا تفيد تمليكا وإنما تفيد حق انتفاع شخصا وانتهاء الإذن بانتهاء أمده أمر واضح لا يحتاج إلى بيان.
أما أنتهاؤه برجوع الآذن فلأن هذا الإذن لا يتقيد به الآذن ولا يلزمه المضي فيه عند جمهور العلماء لأنه تبرع كطرف.
غير أن الإباحة لا تنتهى بمجرد الرجوع وإنما تتوقف على علم المأذون له بذلك فى قول عند الشافعية.
وروى السيوطى فى الأشباه قولا آخر يفيد أن الإباحة تنتهى بمجرد رجوع الآذن ولو لم يعلم المأذون له بذلك.
و ما انتهاؤها بموت الأذن فلأن الاستحقاق منوط ببقاء الإذن وقد بطل بالوفاء، وكذلك تنتهي الإباحة بوفاة المأذون له لأن حق الانتفاع رخصة شخصية فلا تنتقل إلى الورثة.

__________

(1) يراجع القاموس المحيط ولسان العرب وغيرهما.
(2) المستصفى ج1 ص 74 المطبعة الأميرية.
(3) المنهاج وشرحه بهامش التقرير والتحبير ج1 ص 31،36.
(4) الأحكام لأصول الأحكام ج1 ص 175 ، 178 طبع دار الكتب بمصر.
(5) الموافقات ج 1 ص 68 ، 69 المطبعة السلفية سنة 1341 هجرية.
(6) جمع الجوامع لابن السبكى ج1 ص 105 الطبعة الأولى سنة 1316.
مرآة الأصول ، شرح مرقاة الوصول لمنلاخسرو ص 278 طبع الآستانة سنة 1296.
التنقيح والتوضيح لصدر الشريعة ج3 ص 75 الطبعة الأولى سنة 1332.
إرشاد الفحول للشوكانى الطبعة الأولى ص6.
(7) راجع: للميدانى اللباب شرح الكتاب المطبعة الأزهرية سنة 1927 م ص 384 ولأبى بكر اليمنى: الجوهرة النيرة طبع الأستانة سنة 1304 هجرية ج2 ص 382. وللحصكفى: الدر المختار ج3 ص 609 الطبعة المليحية بمصر. ولعبد الله بن مودود: الأختيار ج3 ص 127 المطبعة الحلبى سنة 1355هجرية.
(8) رمز الحقائق ج2 ص 265.
(9) راجع القاضى زاده: نتائج الأفكار تكملة فتح القدير على الهداية ج8 ص 79 المطبعة التجارية ، ولشيخ زاده مجمع الأنهر طبع الآستانة ج2 ص 523.
(10) الاختبار ج3 ص 108.
(11) والواقع أن هذا لا يعتبر تعريفا منه للإباحة بناء على تعريفه السابق الذى نقل عنة فى الكتب ولا سيما أنه عبر عنه فى ص 127 بما يفيد أن المباح هو الذى لا أجر فيه ص 127 بما يفيد أن المباح هو الذى لا أجر فيه ولا وزر ، فقولة الحظر المنع إذن يكون مجرد تفسير لغوى لبيان المناسبة.
(12) التعريفات الجرجانية ص 2 المطبعة الخيرية الطبعة الأولى.
(13) المحلى ج9 ص 163 مطبعة الإمام سنة 1964 م.
(14) الإختبار شرح المختار ج3 ص 222.
(15) درر المنتقى ج2 ص 525 مطبوع بهامش مجمع الأنهر طبع الآستانة.
(16) سورة الأعراف:32.
(17) سورة الممتحنة:8.
(18) سورة الأنعام:119.
(19) المائدة:3.
(20) القرطبى ج2 ص 216 طبع دار الكتب الطبعة الأولى..
(21) الأحكام فى أصول الأحكام ص 208.
(22) راجع مختصر الأصول لابن الحاجب ج1 ص 428.
(23) المنهاج ج1 ص 253 بهامش التقرير.
(24) سورة المؤمنون:51.
(25) إرشاد الفحول ص 89.
(26) سورة المائدة:2.
(27) سورة المائدة:1.
(28) جمع الجوامع وشرحه ج1 ص 431.
(30) العزيزى على الجامع الصغير ج2 ص 255.
(31) الأحكام ج2 ص 260.
(32) سورة الأحزاب:53.
(33) سورة الجمعة:10.
(34) المنهاج للبيضاوى وشرحه للأسنوى ج1 ص 269.
(35) سورة الأحزاب:51.
(36) سورة الكهف:29.
(37) المستصفى ج1 ص 75.
(38) الأحكام فى أصول الأحكام ج1 ص 270.
(39) إرشاد الفحول ص 33.
(40) إرشاد الفحول ص 29.
(41) الأحكام فى أصول الأحكام ج1 ص 270.
(42) المستصفى ج1 ص 67.
(43) سورة البقرة: 275.
(44) راجع المنتقى شرح الملتقى ج2 ص 524 بهامش مجمع الأنهر وحاشية ابن عابدين ج5 ص 205 والإقناع ج1 ص 40.
(45) التوضيح لصدر الشريعة ج1 ص 69.
(46) الأسنوى على المنهاج بهامش التقرير ج1 ص 27.
(47) جمع الجوامع ج1 ص 26 التعريفات الجر جانية ص 57.
(48) الموافقات للشاطبى ج1 ص 107 ،119.
(49) الموافقات ج1 ص 72.
(50) المستصفى ج1 ص 75
(51) سورة المائدة:96
(52) الوجيز ج1 ص 178
(53) المبسوط ج 27 ص 9
(54) نيل الأوطار ج2 ص 171
(55) البخارى بشرح الكرمانى ج9 ص110 المطبعة المصرية.
(56) سورة البقرة:29
(57) الأسنوى ج2 ص 352
(58) البقرة: 173
(59) سورة النساء:101.
(60) الموافقات للشاطبى ج1 ص 215.
(61) الأسنوى على المنهاج بهامش التقرير والتخيير ج1 ص 53 ، 55 المطبعة الأميرية.
(62) باب الإكراه فى البدائع وحاشية الدسوقى وحاشية الشرقاوى على التحرير والمحلى وكشاف القناع
(63) سورة البقرة:195.
(64) الأحكام للآمدى ج2 ص 27.
(65) سورة المائدة:2.
(66) سورة الجمعة:9،10
(67) بهامش المستصفى ج1 ص 112
(68) المستصفى ج1 ص 75
(69) الأحكام ج1 ص 179
(70) المستصفى ج1 ص 63
الأحكام ج1 ص 130
شرح المنهاج ج1 ص 96، 105
جمع الجوامع وشرحة ج1 ص 79
(71) الأسنوى ج3 ص 119
(72) ج1 ص 79
(73) تيسير التحرير ج2 ص 121
(74) إرشاد الفحول ص265
(75) رد المختار ج3 ص 355 طبعة الحلبى.
(76) الدر المختار ج4 ص 373
(77) الفتاوى الهندية ج5 ص 254
(78) البزازية ج6 ص 243
(79) الفتاوى الهندية ج5 ص 344
(80) التتارخانية ج4 ص 404
(81) الفتاوى الهندية ج1 ص 15
(82) حاشية البجرمى ج3 ص 227
(83) شرح المنهاج ج3 ص 110
(84) حاشية الباجورى ج2 ص 139
(85) المنهاج وشرحه ج3 ص 298
(86) حاشية الصاوى ج2 ص 490 طبعة الحلبى
(87) ج2 ص 196 المطبعة الشرفية.
(88) تفسير القرطبى ج12 ص 15 والفخر الرازى ج24 ص 36
(89) سورة النور:61
(90) الفروق ج1 ص 187
(91) الفروق ج1 ص 194
(92) المغنى ج7 ص 13 ، 14
(93) وهذا أيضا من قبيل الهبة المعطاة التى تتحقق بها الهبة فى مذهب أحمد
(94) المحلى ج9 ص 163
(95) مفتاح الكرامة ج6 ص 179
(96) البحر الزخار ج3 ص 87 ،
88
(1/29)
إبانة

بيان العنى: يقال فى اللغة: بأن الأمر يبين فهو بين: أى واضح. وبان الشىء إذا انفصل فهو بائن وأبنته: فصلته ويقال: ضربه فأبان رأسه عن جسده أي فصله. وبانت المرأة بالطلاق فهى بائن وأبانها زوجها فهى مبانة. والبين بفتح الباء يطلق على الوصل كما يطلق على الفرقة فهو من الأضداد. وأستعمل الفقهاء كلمة إبانة بمعنى الفرقة والفصل فى إبانة جزء من الحيوان أو الصيد وفى إبانة المرأة بالطلاق
حكم ما أبين من الحيوان قبل زكاته:
إذا أبين جزء من حيوان حى مأكول اللحم - غير السمك والجراد- قبل ذبحه قال فقهاء الحنفية إن الجزء المبان يعتبر ميتة فالا يحال أكله. فإذا قطع إنسان قطعة من إليه الشاة أو من فخذها أو من سنم البعير أو فخذه أو من دجاجة قبل ذبح الشاة أو البعير أو الدجاجة فإن الجزء المبان لا يحل أكله لأن شرط حل الأكل من الحيوان البرى المأكول - غير الجراد- هو الذكاة فلا يحل الأكل من الحيوان بدون الذكاة لقوله عز وجل ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ((1) استثنى سبحانه وتعالى من الأشياء المذكورة المحرمة ما ذكى والاستثناء من التحريم إباحة. وأيضا قال تعالى" يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات "(2) وقال: عز وجل (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ((3) والحيوان البرى لا يعتبر طيبا إلا بخروج الدم المسفوح وذلك بذكاته. وروى أن أهل الجاهلية كانوا يقطعون قطعة من الية الشاة أو من سنام البعير فيأكلونها فلما بعث النبى عليه الصلاة والسلام نهاهم عن ذلك فقال عليه السلام: (ما أبين من الحى فهو ميت) وهذا الجزء المبان لا يحل أكله وإن ذبح الحيوان بعد ذلك لأن حكم الذكاة لم يكن ثابتا ولا موجودا وقت الإبانة.
ويعتبر هذا الجزء ميتا لا تحله ذكاة الحيوان بعد حتى ولو بقى متعلقا بجلد الحيوان لأن بقاءه متعلقا بالجلد لا اعتبار له فكان وجوده بمنزلة العدم فهو مبان حكما. أما إذا بقى متعلقا باللحم فإن ذكاة الحيوان تحل أكل الحيوان واكل الجزء المبان لأنه لا يزال معتبرا من جملة الحيوان فذكاة الحيوان تكون له ولما أتصل به. والزكاة التى تحل أكل الحيوان وأكل الجزء المبان الذى بقى متعلقا باللحم يجب أن تكون مستوفية لشرائطها الشرعية التى سيأتى بيانها كما أن الحيوانات التى يحل أكلها والتى لا يحل سيأتى بيانها- انظر ذبائح وحيوان- (4).
ومذهب المالكية كمذهب الحنفية بالنسبة لما تقدم مستندين فى ذلك إلى قوله عليه السلام (ما قطع من البهيمة وهى حية فهو ميته) غير أن فقهاء المالكية خالفوا الحنفية فيما إذا بقى الجزء المبان متعلقا باللحم إذ قالوا إن الجزء المبان يعتبر ميتا لا تحله ذكاة الحيوان إذا بقى متعلقا بجزء يسير من جلد الحيوان أو اللحم (5)
ومذهب الشافعية كمذهب الحنفية أيضا بالنسبة لما تقدم غير أن فقهاء الشافعية. يقولون أن العضو المبان إذا بقى متعلقا بجلد الحيوان فقط حل بذبح الحيوان لأن كلمة الإبانة لا تصدق على مثل ذلك (6). ومذهب الحنابلة كمذهب الشافعية استندوا إلى الحديث الذى استند إليه فقهاء المالكية (7). ومذهب الظاهرية والزيدية والإباضية والإمامية كمذهب الحنفية بالنسبة لما أبين من حيوان حى مأكول اللحم - غير السمك والجراد - قبل ذبحه فلا يحل أكل الجزء المبان حتى ولو ذكى الحيوان بعد ذلك (8).
حكم إبانة جزء من الجراد أو السمك
قال فقهاء الحنفية: إذا أبين جزء من الجراد او السمك وهو حى أكل الجزء المبان. وقوله عليه الصلاة والسلام: ( وما أبين من الحى فهو ميت (، وأن تناول بعمومة السمك والجراد، إلا أن ما أبين من السمك والجراد يحل أكله لأن ميتة السمك والجراد يحل أكلها لقوله عليه الصلاة والسلام: " أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالسمك والجراد و اما الدمان فالكبد والطحال "، وهذا الحديث صريح فى أن ميتة السمك والجراد يحل أكلها فما أبين منها وإن كان ميتة إلا أنه يحل أكله لهذا الحديث وهو يعتبر استثناء من حديث ( ما أبين من الحى فهو ميت (.
كما أن حديث " أحلت لنا ميتتان إلخ "، حديث مشهور مؤيد بالإجماع فيجوز تخصيص الكتاب به، فقوله تعالى: ( حرمت عليكم الميتة ( (9) خصصت بهذا ا لحديث.
والجزء المبان من السمك يحل أكله سواء أكان السمك حيا أما ميتا إلا أنهم استثنوا من ذلك السمك الطافى فلا يحل أكل الجزء المبان منه لأن السمك الطافى لا يحل أكله عند الحنفية.
والطافى هو الذى مات تحف أنفه فطفا فوق الماء وبطنه من فوق. أما الذى لم يمت وتحف أنفه فلا يعتبر طافيا مات بسبب إنسان مسلم أو غير مسلم أو قتله حيوان. والحكم الخاص بحل الجزء المبان من السمك يشمل جميع أنواع السمك ومنه الجريت بكسر المعجمة وتشديد المهملة وهو سمك اسود مدور والمارماهى وهو سمك فى صورة الحية.
وهذا الحكم خاص بأنواع السمك فقط فلا يشمل باقى أنواع الحيوانات المائية فما أبين من غير السمك لا يحل أكله لأن الحيوانات المائية غير السمك لا يحل أكلها(10).
ومذهب المالكية كمذهب الحنفية بالنسبة لإبانة جزء من السمك غيرأنهم قالوا إن جميع أنواع الحيوان المائى حكمها حكم السمك. أما الجراد فلا يؤكل عندهم من غير ذكاة. وذكاته عندهم أن يقتل إما بقطع رأسه أو بغير ذلك فإذا أبين من الجراد جناحه فمات من ذلك أكل الجراد وما أبين منه لأن هذه ذكاته(11).
واختلف فقهاء الشافعية فى حكم الجزء المبان من السمكة وهى حية فيرى بعضهم أنه لا يحل أكل الجزء المبان لعموم قوله عليه السلام(ما أبين من الحى فهو ميت) والأصح عندهم أنه لا يحل أكل الجزء المبان من السمك لأنه يحل أكل ميتة السمك وما حلت ميتته لا حاجة الى تذكيته. وجميع أنواع الحيوان المائى وهى التى لا تعيش إلا فى البحر ولا تبقى فى البر إلا بمقدار حياة المذبوح فقط حكمها عد الشافعية حكم السمك. والجراد عندهم حكمه حكم السمك فى جميع أحواله(12).
مذهب الحنابلة (13): وقال فقهاء الحنابلة أن السمك وغيره من ذوات الماء التى لا تعيش إلا فيه يحل أكل ميتته لقوله عليه السلام فى البحر(هو الطهور ماؤه الحل ميتته) وهذا أيضا هو حكم الجراد عندهم والظاهر من ذلك إن الجزء المبان من كل يحل أكله.
وقال ابن حزم الظاهرى:
أن ميتة الجراد حلال وكذلك السمك وكل ما يسكن جوف الماء ولا يعيش إلا فيه.
وأما ما يعيش فى الماء والبر كالسلحفاة فلا يحل أكله إلا بذكاة عدا الضفدع فإنه لا يحل أكله أصلا.
ويؤخذ من هذا أنه إذا أبين جزء من حيوان حى يعيش فى الماء وفى البر مما يؤكل عندهم قبل ذكاته فلا يحل أكل هذا الجزء المبان كما أن تذكية الحيوان بعد ذلك "لا تحل الجزء المبان(14).
ومذهب الزيدية كمذهب الحنفية بالنسبة لإبانة جزء من الجراد أو السمك.
والجزء المبان من السمك يحل أكله سواء أبين من السمك وهو حى أو كان قد مات بسبب اصطياد الإنسان له أو بسبب جزر الماء عنه وبقاء السمك مكشوفا أو بسبب قذف الماء له فى البر أو بسبب نضوب الماء أو بسبب ازدحامه فى الحظيرة التى أعدها الصائد لإصطياد السمك. فان مات السمك بسبب سوى ما تقدم اعتبر طافيا فلا يحل أكله لقوله عليه الصلاة والسلام: " ما وجدتموه طافيا فلا تأكلوه " ومن قبيل الطافى عندهم ما قتله حيوان. فهم يخالفون الحنفية فى بيان معنى الطافى.
والحكم الخاص بحل الجزء المبان من السمك يشمل عندهم كل ما يحل آكله من حيوان الماء. أما ما لا يحل أكله من حيوان الماء فلا يحل أكل الجزء المبان منه. وهم يحرمون من حيوان الماء ما حرم شبهه من حيوان البر كالمارماهى والسلحفاة كما أن ما يعيش فى الماء والبر كالضفدع يحرم أكله لخبثه (15).
ومذهب الإباضية كمذهب الحنفية فى أن ما أبين من السمك والجراد يحل أكله سواء أكان السمك أو الجراد حيا أو ميتا والصحيح من مذهبهم أن صيد البحر يشمل كل حيوان مائى وإن كان على صورة كلب أو خنزير أو آدمى(16).
وفقهاء الإمامة يقولون: أن السمك والجراد لا يحل أكلهما بدون التذكية. وتذكية السمك عندهم استيلاء الإنسان عليه خارج الماء حيا سواء أخرجه الإنسان من الماء أو خرج بنفسه من الماء فأدركه الإنسان حيا وأخذه ولو كان الآخذ له غير مسلم متى شاهده المسلم والراجح عندهم أنه يجوز أكله حيا وقيل لا يباح حتى يموت. وبناء على ما تقدم فإن ما أبين من السمك وهو حى يحل أكله على الرأى الأول ولا يحل أكله على الرأى الثانى.
وتذكية الجراد عندهم أخذه حيا باليد أو الآلة ولو كان الأخذ له غير مسلم إذا شاهده المسلم.
ويباح أكله حيا إذا كان الجراد يطير بنفسه. أما الدبى- أى الجراد قبل أن يطير- فلا يحل أكله.
وبناء على ذلك فإن ما أبين من الجراد وهو حى يحل أكله متى كان الجراد يطير بنفسه وذكى (17)
حكم ما آبين من الحيوان بعد تذكيته وقبل موته:
قال فقهاء الحنفية: إذا أبين جزء من الحيوان بعد ذبحه وقبل موته حل أكل هذا الجزء مع الكراهة سواء أكان الجزء المبان هو الرأس أو غيرها. وقوله عليه السلام "ما أبين من الحى فهو ميت " لا يقتضى تحريم هذا الجزء لأن كلمة الحى وردت فى الحديث مطلقة والمطلق ينصرف إلى الفرد الكامل وذلك بأن يكون الحى حيا حقيقة وحكما. والحيوان بعد ذبحه وقبل موته وإن كانت فيه حياة حقيقة إلا أنه يعتبر ميتا حكما لأن الشارع لا يعتبر مثل هذه الحياة ولا يرتب عليها حكما و إنما كره إبانة جزء من الحيوان فى هذه الحالة لأنه تعذيب بلا فائدة. وكل ما فيه تعذيب للحيوان بلا فائدة فهو مكروه (18) ومذهب المالكية كمذهب الحنفية فى ذلك (19) والظاهر من مذهب الشافعية إن الجزء المبان فى هذه الحالة يحل أكلة لأن شرط حل أكل الحيوان البرى المأكول هو الزكاة وقد وجدت ولم يشترطوا فى حل أكل الموت مع الذكاة. وأما الإبانة فى ذاتها فقال بعضهم ان ذلك محرم وقال بعضهم أنه مكروه والحرمة أو الكراهة إنما هى لذات الفعل لما فى ذلك من تعذيب الحيوان (20)
ومذهب الحنابلة كمذهب الحنفية فى ذلك فيحل أكل الجزء المبان عندهم لأن الإبانة كانت بعد حصول الزكاة فكانت شبيهة بالإبانة بعد الموت. و أما الكراهة فلأن إبانة هذا الجزء قد يترتب عليها سرعة زهوق الروح فضلا عن أنه تعذيب للحيوان وذلك مكروه واستندوا فى ذلك الى ما روى عن أبى هريرة رضى الله عنه قال (21) بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بديل ابن ورقاء الخزاعى على جمل أورق يصيح فى فجاج منى بكلمات منها " لا تجعلوا الأنفس أن تزهق " واستندوا أيضا إلى قول عمر رضى الله عنه:" لا تجعلوا الأنفس حتى تزهق ".
وقال ابن حزم الظاهرى: أن الجزء المبان فى هذه الحالة لا يحل أكله مادام الحيوان حيا فإذا مات الحيوان حل أكله وأكل الجزء المبان واستندوا فى ذلك إلى قوله تعالى: ( فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها (22) ( فالله لم يبح أكل شىء من الحيوان بعد تذكيته إلا بعد وجوب الجنب وهو فى اللغة الموت فإذا مات الحيوان حل أكله وأكل الجزء المبان (23).
ومذهب الزيدية كمذهب الحنفية فى ذلك واستندوا فى كراهة الإبانة فى هذه الحالة إلى قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تعجلوا الأنفس..." الحديث. ولأنه تعذيب للحيوان بلا فائدة (24).
وقال فقهاء الإباضية أنه يحرم إبانة جزء من الحيوان بعد ذبحه وقبل موته ولا يحل أكل هذا الجزء المبان لأنه أبين من حى أما باقى الحيوان فقد اختلفوا فى جواز أكله. وقال فقهاء الإمامية: " إذا ذبحت الذبيحة وسلخت أو سلخ شىء منها قبل أن تموت فليس يحل أكلها "، وقالوا أيضا: إن تذكية الحيوان مشروطة بموته بالذبح أو النحر أو ما فى حرصهما.
وهذا يفيد أنه إذا أبين جزء من الحيوان بعد ذبحه حرم أكل الجزء المبان كما حرم أكل باقى الحيوان أما الفعل فى ذاته فقال بعضهم أنه محرم استنادا إلى تلازم تحريم الأكل وتحريم الفعل وقال بعضهم أنه مكروه لاشتماله على تعذيب الحيوان. وهذا الحكم خاص بإبانة غير الرأس أما الرأس فقد اختلفوا فى إبانتها بعد الذبح وقبل الموت فقال بعضهم أن ذلك مكروه لحديث روى عندهم هو: " لا تنخع ولا تقطع الرقبة بعد ما تذبح "، وقال بعضهم أن ذلك حرام لأن النهى فى الحديث المشار إليه يقتضى التحريم. كما اختلفوا فى أن إبانة الرأس تحرم الذبيحة أم لا؟
فقال بعضهم أن ذلك يحرم الذبيحة لأن الزائد عن قطع الأعضاء يخرجه عن كونه ذبحا شرعيا فلا يكون مبيحا وقال بعضهم أن الذبيحة لا تحرم بذلك لأن المعتبر فى الذبح قد حصل فلا اعتبار بالزائد (25).
رمى الصائد الصيد فأبان عضوا منه هل يؤكل هذا العضو ؟
قال فقهاء الحنفية إذا رمى الصائد صيدا يؤكل لحمه فأبان عضوا منه فان كانت حياة الصيد ممكنة بعد إبانه هذا العضو- أى بقيت فيه حياة فوق حياة المذبوح- فان العضو المبان لا يؤكل لأن العضو المبان قد أبين من حى فهو ميتة لقوله عليه السلام " ما أبين من الحى فهو ميت " والصيد هنا يعتبر حيا حقيقة وحكما أما الحقيقة فلوجود الحياة فيه و أما حكما فلأن الشارع أعتبره حيا بعد إبانة العضو منه.
ولذلك لو وقع الصيد فى الماء بعد ذلك فمات فإنه لا يؤكل لحمه لاحتمال أن يكون موته بسبب وقوعه فى الماء.
وإذا بقى العضو متعلقا بالصيد فى هذه الحالة ، فإن كان بمكن التئامه فإن هذا العضو يكون حكمه حكم باقى الصيد لأنه لا يصدق عليه أنه أبين، وإن كان لا يمكن التئامه كأن بقى متعلقا بجلد الصيد فقط فإنه لا يؤكل لأنه مبان حكما.
وإن كانت حياة الصيد بعد إبانة العضو منه غير ممكنة- أى لم تبق فيه حياة أكثر من حياة المذبوح- فإنه يحل كل الجزء المبان سواء كان الجزء المبان هو الرأس أو غيرها لأن العضو المبان فى هذه الحالة هو مبان من حى صورة لا حكما إذ الحياة الباقية فيه لا يعتبرها الشارع ولا يرتب عليها حكما ولذلك لو وقع الصيد فى الماء أو تردى من جبل أو سطح فمات يحل أكله.
والجزء المبان إنما يحل أكله إذا تحققت الشروط التى اشترطها الفقهاء فى الصائد وفى الصيد التى سيأتى بيانها (26) (انظر صائد وصيد).
وقال فقهاء المالكية إذا أبان، الجارح أو السهم جزءا من الصيد فان كان فى إبانة هذا الجزء إنفاذ مقتل أكل الجزء المبان وإن لم تكن فى الإبانة إنفاذ مقتل لا يحل أكل الجزء المبان لأنه ميتة حتى ولو بقى متعلقا بجزء يسير من جلد الصيد أو لحمه.
وقيد فقهاء المالكية الصيد بما له نفس سائلة - أى دم يسيل - لأن مالا نفس له، سائلة كالجراد مثلا إذا قطع جناحه فمات من ذلك أكل الجميع لأن هذه ذكاة (27).
وقال فقهاء الشافعية إذا رمى الصائد الصيد فأبان عضوا منه بجرح مذفف- أى مسرع للقتل- فمات فى الحال حل العضو المبان كما يحل باقى الصيد. أما إذا لم يمت فى الحال ثم تركه بعد قدرته عليه حتى مات لم يحل العضو المبان وكذلك لا يحل الصيد لأن شرط حل الصيد أن يموت قبل أن يتمكن من ذبحه أما إذا أدركه ولو بعد جرح مذفف وفيه حياة مستقرة- أى فيه حركة قوية أو تفجر دم أو قيام- وأمكنه ذبحه ولم يذبحه ومات فإنه يحرما. أما إذا أبان منه عضوا بجرح غير مذفف ثم تمكن من ذبحه وذبحه أو لم يتمكن من ذبحه ولكنه جرحة جرحا آخر مذففا حرم الجزء المبان وحل باقى الصيد. وإذا لم يتمكن من ذبحه ومات بالجرح الأول قيل يحل الجزء المبان والمعتمد أنه يحرم لأنه أبين من حى. (28).
وقال فقهاء الحنابلة إذا رمى الصائد الصيد فقطعه قطعتين متساويتين أو متفاوتتين أو أبان رأسه أو عضوا آخر منه ولم يبق فى الصيد حياة مستقرة حل العضو المبان وباقى الصيد وإذا بقى فى الصيد حياة مستقرة يمشى معها ويذهب ويجئ فلا يحل العضو المبان لأنه مبان من حى. وإذا بقى العضو معلقا بجلد الحيوان حل العضو إذا حل الحيوان لأن العضو المعلق بالجلد لا يصدق عليه أنه أبين (29).
وابن حزم الظاهرى وافق الحنفية فيما إذا رمى الصائد الصيد فأبان منه عضوا ولم تبق فيه حياة أكثر من حياة المذبوح فقالوا أن العضو المبان يؤكل كما يؤكل باقى الصيد.
أما إذا بقى فى الصيد حياة أكثر من حياة المذبوح فإن مات الصيد بسبب هذا الجرح لكن الصائد لم يدركه إلا بعد موته أو أدركه وقد حضرته أسباب الموت أكل العضو المبان كما يؤكل باقى الصيد ولا حاجة الى تذكيته. وأما إذا أدركه وفيه حياة أكثر من حياة المذبوح فإن الجزء المبان لا يحل أكله (30).
وقال فقهاء الزيدية ما أبين من الصيد يحل أكله إذا كانت الإبانة بضربة أدت إلى موت الصيد (31).
وقال فقهاء الإباضية إذا رمى الصائد الصيد فأبان رأسه فان وجد الصيد ميتا أكلت الرأس والجسد وإن وجد حيا حرم أكل الكل وإن كانت هذه الحياة غير معتادة. وإن أبان عضوا غير الرأس حرم هذا العضو سواء وجد الصيد ميتا أو حيا وقيل يحل العضو ان مات الصيد بمجرد الإبانة. والعضو المبان إن بقى معلقا بالجلد فقد يعتبر مبانا حكما وإن بقى معلقا باللحم لا يعتبر مبانا (32).
وقال فقهاء الإمامية إذا أبين من الصيد عضو بسهم أو سيف أو رمح فإن بقى فى الصيد بعد الإبانة حياة مستقرة لا يؤكل العضو المبان وإن لم يبق فى الصيد حياة مستقرة حل أكل العضو المبان (33)
إبانة المرأة بالطلاق:
الطلاق قد يكون بائنا وذلك بأن يطلق الرجل زوجته قبل الدخول بها أو يطلقها على مال أو يطلقها الطلقة الثالثة- إلى غير ذلك من أقسام الطلاق البائن- وفيه يقال أن الزوجة طلقت تطليقه بائنة وهذا هو المقصود من إبانة المرأة بالطلاق(انظر بائن، طلاق).

__________

(1) سورة المائدة آية 3
(2) سورة المائدة آية 4
(3) سورة الأعراف آية 157
(4) البدائع ج5 ص 40،44،45 طبعة 1328 هجرية الدر المختار ، حاشية ابن عابدين ج5 ص 270 الطبعة الثالثة سنة 1299 هجرية.
الهداية وحواشيها ج8 ص 50 ،65 طبعة سنة 1318 هجرية.
(5) راجع بداية المجتهد ج1 ص 357 طبعة سنة 1933 هجرية.
الشرح الكبير ج2 ص 109 طبعة سنة 1355 هجرية ج1 ص 53.
(6) راجع: شرح المحلى على المنهاج وحاشيتى القليوبى وعميرة ج4 ص 241 طبعة سنة 1368 هجرية.
(7) راجع المغنى ج11 ص40 ،41،53،54 طبعة 1348هجرية وشرح منتهى الإرادات ج3 ص 415 طبعة 1366 هجرية
(8) راجع فى فقه الظاهرية: المحلى لابن حزم ج7 ص 398،437،438،449 وراجع فى فقه الزيدية البحر الزخار ج4 ص 309 طبعة سنة 1366. وفى فقه الإباضية شرح النيل ج2 ص 516،536،537،570 وفى فقه الإمامية الروضة البهية ج2 ص 264 ،273 طبعة سنة 1378هجرية.
(9) سورة المائدة أية 3.
(10) راجع الدر المختار وحاشية ابن عابدين ج5 ص 267 ،268 الطبعة الثالثة سنة 1299هجرية.
والبدائع والهداية وحواشيها.
(11) راجع بداية المجتهد ج1 ص 356،359 طبعة سنة 1333 هجرية والشرح الكبير وحاشية الدسوقى ج2 ص 109 ،114 طبعة 1355 هجرية.
(12) راجع: شرح المحلى على المنهاج وحاشية القليوبى وعميرة ج4 ص 241 طبعة سنة 1368 هجرية
(13) راجع المغنى ج11 وشرح منتهى الإرادات ج3 المراجع السابقة الإشارة إليها.
(14) راجع المحلى لابن حزم ج7 ص 393 ، 398 ، 437 ، 438 طبعة سنة 1347 هجرية
(15) راجع البحر الزخار ج4 ص 291 ،302 ،304 طبعة سنة 1366 هجرية.
(16) راجع شرح النيل ج2 ص 574.
(17) راجع الروضة البهية ج2 ص 272 ، 273 طبعة سنة 1378 هجرية.
(18) راجع الدر المحتار وحاشية ابن عابدين ج5 ص 258 ، 270 الطبعة الثالثة سنة 1299 هجرية
(19) راجع حاشية الدسوقى ج2 ص 109 طبعة سنة 1355 هجرية
(20) راجع شرح المحلى على المنهاج وحاشيتى القليوبى وعميرة ج4 ص 239 ، 242 ، 243 طبعة سنة 1368 هجرية
(21) راجع شرح منتهى الإرادات ج3 ص 409 طبعة سنة 1366 هجرية، والمغنى ج11 ص 53 ، 54 طبعة سنة 1384 هجرية.
(22) آية 36 سورة الحج.
(23) راجع المحلى لابن حزم ج7 ص 398 ،449 طبعة 1349 هجرية.
(24) راجع البحر الزخار ج4 ص 308 طبعة 1366 هجرية.
(25) راجع شرح النيل ج2 ص 536 ، 537.
(26) راجع الروضة البهية ج2 ص 270 ، 273 طبعة سنة 1378 هجرية..
(27) راجع الدر المختار وحاشية ابن عابدين ج5 ص 418 ، 419 الطبعة الثالثة سنة 1299 هجرية.
والهدايه وحواشيها ج8 ص 185 ، 186.
والبدائع ج5 ص 44 ، 45 طبعة سنة 1328 هجرية والزيلعى ج6 ص 59 طبعة سنة 1315 هجرية.
(28) راجع الشرح الكبير وحاشية السوقى ج2 ص 109 طبعة سنة 1355 هجرية
(29) راجع شرح الجلال المحلى على المنهاج وحاشيتى القليوبى وعميرة ج4 ص 241 ، 242.
(30) راجع شرح منتهى الإيرادات ج3 ص 414 طبعة سنة 1366 هجرية
(31) والمغنى ج11 ص 23 طبعة سنة 1348 هجرية
(32) راجع الروضة البهية ج2 ص 265 ، 266 طبعة سنه 1378 هجرية
(1/30)
إبراء

1- التعريف به:-
الابراء فى اللغة التنزبه من التلبس بشئ وفى الشريعة اسقاط شخص حقا له فى ذمة آخر كإسقاط الدائن دينا له فى ذمة مدينه بقوله، له: ابرأتك من ديونى أو ما يفيد ذلك العنى يريد بذلك إسقاط ما فى ذمته من دين له.
وقد يكون الابراء فى صورة اخبار به مثل ان يقول الدائن: أبرأت فلانا من دينى، فى معرض اقراره بذلك، وقد يكون فى صورة هبة كأن يقول الدائن لمدينه وهبتك ما لى فى ذمتك من دين. وقد يكون فى وصية كأن يقول الدائن لمدينه أوصيت
لك بما فى ذمتك من دين لى فلا يبرأ بذلك ألا بعد وفات. وقد يكون فى صورة اقرار كما فى ابراء الاستيفاء ، و سيأتى .
- والابراء كما يظهر من التعريف به اسقاط لحق شخص قبل شخص آخر
- ولذا كان ضربا أو نوعا من الاسقاط ، لأن الاسقاط كما يكون تركا لحق فى ذمة شخص واطراحا له كما فى اسقاط الدين تشغل به ذمة المدين يكون لحق ثابت لصاحبه دون ان تشغل به ذمة آخر كما فى اسقاط الشفيع حقه فى الشفعة وكما فى اسقاط الموصى له بسكنى دار حقه فى سكناها وعلى ذلك يكون كل ابراء اسقاطا وليس كل اسقاط ابراء ومع ظهور هذا المعنى فيه على هذا التفسير فانه يحتمل تفسيرا آخر يجله من قبيل التمليك، ذلك لأن صاحب الدين لا يستطيع محو دينه الثابت فى ذمة مدينه وإنما يستطيع تركه واطراحه وذلك ما يعنى تركه للمدين وتمليكه اياه وعدم مطالبته به.
وعلى هذا الأساس البادى من التأويلين السابقين ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والزيدية والشيعة الإمامية الى أنه يحمل معنيين معنى الاسقاط بالنظر إلى الدائن إذ قد تخلى عنه فلم يبق من عناصر ثرائه وأنقطعت مطالبته به ومعنى التمليك بالنظر إلى المدين إذ قد تملكه فزاد ثراؤه بقدره ألا يرى أنه- كان مطالبا بانتقاص قدره من ماله فى سبيل الوفاء به فاستبقى له ذلك وذلك ما يعنى تملكه إياه وقد كان لهذين المعنيين فيه أثر فيما أعطى من أحكاما فأعطى بعض أحكام التمليك تغليبا لهذه الناحية فيه، وأعطى بعض أحكام الإسقاط تغليبا لهذه الناحية فيه، كما كان من قبيل التبرع لأنه يتم لا فى نظير عوض.
أما الحنابلة:
فقد كان نظرهم إليه على أنه إسقاط فكان له حكم الإسقاط عندهم فى جميع أحواله أو أن ذلك كان نظر جمهورهم (1) .
2- أركانه:
وركنه عند الحنفية الإيجاب الصادر من صاحب الحق وهو ما يصدر منه من عبارة تدل على ترك حقه و اطراحه دلالة واضحة لا احتمال فيها أو ما يقوم مقام ذلك من كتابة أو إشارة.
والشافعية ومن أجرى علي اصطلاحهم يرون أن أركانه "أربعة": صاحب الحق المبرأ وعبارته " الإيجاب " والحق المبرأ منه والمدين إذان الإبراء لا يتحقق إلا بهذه الأركان ولا يتصور إلا بها.
ويكون إيجاب فيه بمثل إبرأتك من دينى أو أحللتك منه أو أسقطته عنك أو ملكتك إياه أو تركته لك أو نحو ذلك.
ويرى ابن حزم عدم صحته بألفاظ التمليك مثل وهبت أو أعطيت أو ملكت لأنه لا يملك ألا الشئ الموجود المادى المعلوم مكانه، أما الأوصاف الأعتبارية فلا تقبل تمليكا، ولكنه مع ذلك أستثنى صحته بلفظ التصديق، وإن كانت من ألفاظ التمليك، لورود النص بذلك، فقد قال تعالى: " ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا (2) " وتصدقهم عند ذلك انما يكون بتنازلهم عنها وإبرائهم منها، ولما روى عن أبى سعيد الخدرى قال: أصيب رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ثمار أبتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تصدقوا عليه "، وهو خطاب لغرمائه، وتصد قهم يكون بابرائه من ديونهم (3) .
3- قبول الابراء من المدين:-
الدين حق خالص لصاحبه واقدام صاحبه على إسقاطه تصرف منه فى خالص حقه دون أن يمس ذلك حقا لغيره ودون أن يستوجب تكليفا على أحد ومن ثم لم يتوقف نفاذه على قبوله ممن عليه الدين بل ينفذ مع رد المدين له... ذهب إلى ذلك الحنابلة وجمهور الحنفية والشافعية وجمهور الشيعة الجعفرية تغليبا لمعنى الإسقاط فيه على التمليك (4) . وذهب زفر إلى أنه يتوقف على القبول لغلبة معنى التمليك فيه وهو قول لبعض الشيعة الجعفرية.
وللمالكية، الزيدية فى ذلك قولان، أحدهما: أنه يتوقف على القبول مراعاة لجانب التمليك فيه وهو الأرجح.
وثانيهما: أنه لا يتوقف ويتم من غير قبول بل ومع رده مراعاة لمعنى الإسقاط فيه كالطلاق والعتق. وعلى القول باشتراط القبول فيه عند المالكية يجوز أن يتراخى القبول عن مجلس الإيجاب ، وهو صريح ما ذكره ابن عرفة، كما يجوز رجوع الدائن فيه قبل القبول (5) .
و إذا كان الإبراء من الدين بهبته للمدين كان توقفه على القبول محل خلاف عند الحنفية، ذهب بعضهم إلى أن هبة الدين للمدين لا تتوقف على القبول فتنفذ مع سكوت المدين فى مجلس الإيجاب لما فيها من معنى الإسقاط (6) . وهو مذهب الشافعية والحنابلة. وذهب آخرون إلى أنها تتوقف لما فيها من معنى التمليك وذلك رأى المالكية فيها لأنها نص فى التمليك. وكذلك يرى الحنفية أن الإبراء من الكفالة والحوالة لا يتوقف على القبول ولا يرتد بالرد لتمحضه فى معنى الإسقاط ، وأستثنى الحنفية من عدم توقف الإبراء على القبول الإبراء عن بدلى الصرف والسلم، إذ يرون توقفه على القبول دون خلاف فيه عندهم، حتى لا ينفرد أحد العاقدين فيهما وهو من أبرأ بفسخ عقد الصرف أو السلم وكلاهما عقد لازم لا يجوز أن يستبد بفسخه أحد طرفيه إذ أن فى نفاذ الإبراء فوات القبض فى المجلس وهو شرط فى صحه كل منهما.
والمشهور عند الحنفية أن هبة الدين للمدين وإبراءه منه كلاهما يتم من غير قبول ويرتد بالرد فهما فى ذلك سواء و إذا إرتدا بالرد لم يجز قبول بعد الرد لبطلان الإيجاب بالرد.
4- رد الإبراء من المدين
ذهب الحنفية والزيدية إلى أن الإبراء يرتد برد المدين فى المجلس وبعده ما دام لم يحدث منه قبول صريح قبل رده، وذلك لما فيه من معنى التمليك.
ومن الحنفية من قيد صحة الرد ونفاذه بأن يكون فى مجلس الإبراء لا بعده، فالرد بعد المجلس لا أثر له عندهم، والرد فى المجلس صحيح يرتد به الإبراء ولا يسقط به الدين إذا لم يسبقه قبول صريح له من المدين لأن الرد ، بعده غير صحيح مطلقا فى المجلس وبعده. وتستوى هبة الدين للمدين فى هذا الحكم مع الإبراء منه. وخالف الشافعية والحنابلة فذهبوا إلى أن الإبراء يتم بإرادة الدائن ولا يرتد برد المدين تغليبا لمعنى الإسقاط فيه. ولذا لايفتقر الى القبول من المدين عندهم.
ويرى المالكية أنه يرتد بالرد فيبطل الإيجاب برد المدين لغلبة معنى التمليك فيه ولذا يحتاج القبول عندهم على الأصح وذهب الحنفية إلى صحة إبراء المدين بعد موته وعندئذ يرتد برد الوارث عند أبى يوسف خلافا لمحمد.
وإذا كان الإبراء إبراء من الحوالة كان أبرأ المحتال المحال عليه عن الحوالة، أو كان ابراء من الدائن للكفيل من كفالته، أو كان الإبراء مطلقا بعد طلبه من المدين- لم يرتد والرد مطلقا.
أما فى الإبراء من الحوالة والكفالة فلتمحضه فى الاسقاط فلم يتوقف على القبول ولم يقبل الرد. وأما الابراء بعد طلبه من المدين فلأن رده يعد كأنه رد بعد قبوله ولا يرتد الابراء بالرد بعد القبول (7) .
وذهب الزيدية الى أن الابراء وتد يرتد لغلبة معنى التمليك فيه ولذا توقف على القبول عندهم، فإن خلا من معنى التمليك فكان اسقاطا محضا كالإبراء من الشفعة لم يتوقف على القبول ولم يرتد بالرد.
ومن الزيدية من غلب فيه معنى التمليك فى جميع أحواله فتوقف على القبول عندهم وأرتد بالرد (8) .
وإذا صدر الإبراء من فضولى توقف على أجازة الدائن فإن أجازه نفذ عند الحنفية والزيدية.
شروط الإبراء:
من شروط الإبراء شروط ترجع إلى المبرئ، وشروط ترجع إلى صيغة الإبراء وشروط ترجع إلى المبرأ، وشروط ترجع إلى المبرأ منه.
فأما ما يرجع إلى المبرىء فهو أن يكون من أهل التبرع فيجب أن يكون عاقلا بالغا غير محجور عليه لسفه أو لدين، لأن الإبراء تبرع من الدائن إذ لا يقابله عوض من المدين، ويلاحظ أن عدم الحجر للدين انما هو شرط نفاذ، فإبراء المحجور عليه بسبب الدين لمدينه صحيح متوقف على إجازة دائنيه لأن منعه من التبرع إنما هو للمحافظة على حقوقهم... وهذا مذهب الحنفية مع ملاحظه أن أبا حنيفة رحمه الله لا يرى الحجر للدين وإنما يراه الصاحبان وأثره عندهما هو المنع من التبرع محافظة على حقوق الغرماء دون أن يمس الحجر أهلية المحجوز عليه للدين ، أما من يراه ماسا بأهليته من الفقهاء فهو عندهم شرط صحة .
(أنظر مصطلح حجر ومصطلح تبرع)
كما يشترط فيه أن يكون ذا ولاية فى إبرائه كأن يكون هو الدائن أو وصيا على الدائن وقد وجب الدين منه أثرا لعقد باشره عنه فعند ذلك تصح براءته ويضمن ما أبرأ المدين منه، ولكن إذا كان الدين لم يجب أثرا لعقده لم يصح إبراؤه.
وأما ما يرجع إلى الصيغة فهو أن تكون دالة دلالة ظاهرة غير محتملة على تمليك الحق للمدين أو على سقوطه.
وأما ما يرجع إلى المدين المبرأ فهو أن يكون معلوما غير مجهول ، فإذا كان مجهول لم يصح إبراؤه ، كما لو قال شخص: أبرأت كل مدين لى، أو كل مدين لمورثى، أو أبرأت أحد هذين. ولكن إذا كان من أبرأه الدائن محصورا معلوما، كأبرأت هؤلاء المدينين لى صح الإبراء.
وقد ذهب إلى اشتراط هذا الشرط فى المبرأ الحنفية والشافعية والحنابلة والمالكية.
ومن الفقهاء الحنابلة من ذهب إلى أن الدائن إذا قال: أبرأت أحد غريمى هذين صح الإبراء وطلب إليه التبيين والبيان.
ولكن جاء فى كشاف القناع أن المذهب عدم صحة الإبراء مع إبهام المحل، كأبرأت أحد غريمى هذين أو أبرأت فلانا من أحد دينى اللذين فى ذمته والشافعية لا يرون صحه الإبراء مع جهالة المدين المبرأ لغلبة معنى التمليك، فيه ولايملك المجهول وعلى هذا لايصح الإبراء ولو كان .
بصيغة إقرار إذا ما قال الدائن: لا دين لى قبل أحد. أو قال: كل مدين لى فهو برىء إلا أن يتبين أنه يقصد بذلك شخصا بعينه (9) .
ويشترط الزيدية مع ما تقدم خلو الإبراء من التدليس فإذا أفهم شخص دائنه بأن ما عليه من الدين حقير. تافه فأبرأه منه بناء على ذلك ثم تبين خلاف ذلك للدائن لم يصح إبرأؤه لغلبة معنى التمليك فيه.
وأما ما يرجع الى الحق موضوع الايراء
فهو ما يأتى:
أولا: ألا يكون عينا من الأعيان، والأعيان المشخصة لا تثبت فى الذمة فلا تقبل الإسقاط وإنما يقبل الإسقاط ما يشغل الذمم من الحقوق ولذا كان الإبراء من الأعيان المشخصة باطلا. أما ما كان من الإعيان دينا فإنه يقبل الإبراء إذ أنه يقبل الإسقاط كالديات من الإبل مثلا ونحو ذلك
وعلى ذلك إذا غصب شخص كتابا فأبرأه منه مالك الكتاب كان إبرأء. باطلا لا يترتب عليه أثر 00.وعلى ذلك صح الإبراء عن الديون بأنواعها.
وصح الإبراء عن الدعوى لانها حق فإذا قال المدعى للمدعى عليه أبرأتك من أدعاء هذه العين أو من دعواى هذه العين لم تقبل له فيها دعوى ملك بعد ذلك " مجمع الانهر " وكذلك يصح إبراء الدائن الكفيل من الكفالة وإبراؤه المحال عليه من الحوالة
إذ البراءة فيهما تنصب على حق هو الكفالة أو الحوالة.
ثانيا: أن يكون موجودا عند الإبراء وعلى ذلك عل الإبراء من الحق قبل وجوده، فلا يصح أن تبرأ شخصا من كل ما سيقرضه منك أو مما سيجب لك علية، كما لا يصح ابراء الزوجة زوجها من نفقة مستقبلة ولا من نفقة العدة قبل أن يطلقها، لأن الإبراء- إسقاط وما سيوجد ساقط فعلا فلا يقبل إسقاطا. وسنبين فيما يأتى الحكم فى الإبرأء عن النفقة.
ولا يشترط فى الحق المبرأ منه أن يكون معلوما... ذهب إلى ذلك الحنفية والحنابلة والمؤيد من الزيدية، فجوزوا الإبرأء من الحق المجهول سواء أكان مجهولا لدى المبرئ أم لدى المبرأ .
وخالف فى ذلك الشافعية والناصر من الزيدية فاشترطوا علم المبرىء بما أبرأ منه واستثنوا من هذا الحكم أن يكون الدائن جاهلا مقدار دينه ولكنه ذكر له عند الإبراء منه نهاية يتحقق أن دينه دونها فى المقدار، كما إذا قال له أبرأتك من دينى البالغ الفا جنيه وهو متحقق من أن دينه دون ألالف (10) .
وذهب الحنابلة الى أن البراءة من الدين لاتصح اذا كان المبرىء لايعلم بوجود الدين فى حين أن المدين يعلمه ولكنه كتمه عنه خوفا من أنه إذا علمه طالبه به ولم يبرئه منه لأن هذا يعد هضما للحق وظلما للدائن ولا يعد الإبراء فى هذه الحال صادرا من صاحبه عن إرادة معتبرة و إنما صدر منه على وجه الهزلى أو اللعب ويرون صحه الإبراء من المجهول ولو لم يتعذر العلم به ، كما يرون صحه الإبراء
ممن يعتقد أنه لا لدين له فى ذمة من أبراء" ثم تبين أنه كان مدينا عند إقدامه على إبرائه.
و الإبراء من دين الأب مع ظن حياته فبان أن الأب كان ميتا عند صدور الإقرار (11) .
وذهب الزيدية إلى عدم صحة الإبراء مع التدليس كأن يبرىء الدائن مدينه بناء على تفهيم المدين اياه بأنه فقير أو أن الدين حقير ثم تبين خلاف ذلك (12) . وأختلف الزيدية فى صحة الإبراء من المجهول، فمنهم من ذهب إلى صحته ومنهم من ذهب الى عدم صحته.
موضوع الابراء
الإبراء عن الأعيان
الإبراء عن الحقوق
ذكرنا فى شروط الإبراء أن الإبراء لا يكون إلا عن حق للمبرىء قبل غيره ويجب فيه وأن يكون موجودا عند الإبراء وهذا محل اتفاق بين المذاهب. وذكرنا أنه لا يشترط فيه- أن يكون معلوما عند المبرأ ولا عند المدين المطالب به وهو من عليه الحق وذكرنا خلاف الشافعية فى ذلك، وبناء على ذلك كان الإبراء عن الأعيان غير صحيح ولا يترتب عليه أى أثر فى أكثر أحواله أذ أن الإبراء اسقاط أو يحمل معنى الإسقاط ، والأعيان بطبيعتها لا تقبل الإسقاط ، ولذا يصح الإبراء فيها إذا كان القصد منه الإبراء من حق متعلق بها لا الإبراء منها، أما الإبراء منها فلا أثر له .
ولايعد تمليكا لها بناء على ما يحمله من معنى التمليك بل تظل فى يد من هى فى يده مملوكة لصاحبها وله إذا ظفر بها أن يأخذها ولكن مع ذلك لا تسمع دعواه بها بعد الإبراء منها إذ ينصرف إبراؤه هذا إلى حق الإدعاء بها، فلا يبقى له حق فى الدعوى بها بعد الإبراء بل يسقط به. وليس هذا الحكم محل إتفاق عند الحنفية فقد جاء فى الخلاصة قال: أبرأتك عن هذه الدار أو عن خصومتى فيها أو عن دعواى فيها.فهذا كله باطل حتى لو ادعاها بعد هذا الإبراء سمعت دعواه ولو أقام بينته لاثباتها قبلت.
وجاء فى الخانية أن الإبراء عن العجين المغصوبه إبراء عن ضمانها وتصير به أمانة فى يد الغاصب، ولو كانت العين مستهلكة صح الإبراء وبرأ من قيمتها.
وقد نقل صاحب الأشباه هذا وعلق عليه بقوله: فقولهم الإبراء عن الأعيان باطل معناه أنها لا تكون به ملكا وإلا فالإبراء عنها بقصد سقوط ضمانها صحيح أو يحمل قولهم على الإبراء عن الأمانة، أى أن البطلان محل إذا كان الإبراء عن أعيان هى أمانة لأنها اذا كانت أمانة لم تلحقه عهدتها فلا وجه للابراء منها.
و حاصله: ان الابراء المتعلق بالأعيان أما أن يكون عن دعواها وذلك صحيح بلا خلاف مطلقا لأنه فى الواقع إسقاط لحق وأما أن يتعلق بنفسها. فإن كانت فى هذه الحال مغصوبة هالكة صح أيضا كالإبراء من الدين إذ يعد إبراء من قيمتها، وإن كانت قائمة كان معنى البراءة منها البراءة من ضمانها لو هلكت فتصير بعد هذا الإبراء كالأمانة لا تضمن إلا بالتعدى عليها.
ويرى الزيدية أن الإبراء عن العين المضمونة مثل أن يبرىء مالكها الغاصب إسقاط لضمانها 00.وهذا أحد قولى المؤيد بالله، وذهب بعضهم إلى أنه يفيد إباحتها.
وذهب زفر إلى عدم صحة الإبراء فى هذه الحال فتظل بعده العين مضمونة (خانية) .
وإن كانت العين أمانة فالبراءة منها لاتصح ديانة بمعنى أنه إذا ظفر بها صاحبها أخذها وتصح قضاء فلا يجوز للقاضى أن يسمع دعواه بها بعد البراءة.
ويرى الزيديه أنه يعد إباحة لها فيجوز لذى اليد أن يستهلكها ولمالكها أن يرجع عن هذا الإبراء قبل إستهلاكها. ومنهم من ذهب إلى أن الإبراء عن الأعيان يفيد تمليكها لافرق فى ذلك بين عين مضونة وعين هى أمانة فى يد صاحب اليد عليها (13) .
وبناء على ما تقدم لايصح الإبراء عن الأعيان على معنى تمليكها لمن هى فى يده وإنما يفيد ابراءه عن ضمانها إذا كانت يده مضمونة فتنقلب أمانة فى يده. وكذلك لا يصح بالنسبة إلى الأعيان غير المضمونة على هذا الإعتبار ، و إنما يصح على أساس البراءة من الإدعاء بها. وعليه يكون للمبرأ أن يأخذها إذا ما ظفر بها لأنها مازالت على ملكه. وكذلك لا يصح الإبراء من الحقوق التى لا تقبل الإسقاط كحق الرجوع فى الهبة والرجوع فى الوصية، لأن فى جواز ذلك تغييرا للشرع وذلك غير جائز خالافا للممالكية كما فى التزامات الحطاب.
وكذا لا يصح الإبراء من خيار رؤية المبيع ولا من حق الإستحقاق فى الوقف: حق الإرث لنفس السبب.
أما ما عدا ذاك من الحقوق المالية أو المتعلقة بالأموال فيصح الإبراء منها كالإبراء من الديون بأنواعها، والإبراء من الديات، والإ براء من القصاص ، و الإبراء من حق القسم بالنسبة إلى الزوجة، والإبراء من حق الإنتفاع ، و من حق الفسخ بخيار العيب ونحو ذلك من الحقوق التى تثبت فى الذمم. وفيما يلى بيان لأحكام الإبراء فى بعض الحقوق لاختصاصها بأحكام خاصة.
الابراء من نفقة الزوجة:
إذا صارت نفقة الزوجة دينا فى ذمة زوجها صح إبراؤه منها أما قل شغل ذمة الزوج .
بها فلا يصح إبراء الزوج منها لأن الإبرا لا يكون إلا من دين قائم موجود عند حدوثه كما قدمنا.
وبناء على ذلك لايصح إبراء الزوجة زوجها من نفقتها إلا إذا كانت مفروضة بالقضاء أو الرضا عند الحنفية، لأنها ألا تصير دينا واجبا عندهم إلا بفرضها من القاضى أو بالتراضى إذ تشغل بها ذمة الزوج بذلك لا قبل ذلك، إذا ما ابتدأت مدتها، فإذا فرضت مشاهرة شغلت بها ذمة الزوج بدخول الشهر فيصح الابراء عن نفقة هذا الشهر فى بدايتة اذا ما حل أو فى أثنائه، ولا يصح عن نفقة شهر آخر يأتى لمجده لأن الذمة لم تشغل بها، كما يصح الإبراء عن النفقات المتجمدة التى سبق فرضها .
لصيرورتها دينا شاغلا للذمة لعدم أدائها ، وعلى ذلك إذا أبرأت الزوجة زوجها فى بداية السنة عن نفقتها لم يصح الإبراء إلا إذا كانت قد فرضت لها مسانهة فان كانت قد فرضه مشاهرة صح الإبراء من الشهر الأول فقط. منها، وإن كانت مياومة صح عن اليوم الأول منه الذى حدث فيه الابراء وما قد يكون سبقه من الأيام وهكذا.
وهذه الأحكام محل اتفاق لاتفاق الفقهاء على اشتراط وجود الدين عند الإبراء غير أنه يلاحظ أن من الفقهاء من لا يشترط فى شغل ذمة الزوج بنفقة زوجته القضاء بها أو التراضى عليها (أنظر نفقة الزوجة فى نفقة وبما تصير دينا فى ذمة الزوج) .
المبارأة بين الزوجين:
المبارأة مفاعلة من البراءة وتكون بين الزوجين لفصم عرى الزوجية بينها نظير عوض مالى تدفعه الزوجة لزوجها وتستوجب سقوط الحقوق الزوجية بينهما، ويترتب عليها بينونة الزوجة بطلقة بائنة عند الحنفية فهى بين الزوجين بمنزلة الخلع بينهما فتفيد انفصام عقد الزواج مع سقوط الحقوق الزوجية لكل منهما قبل الآخر نظير ما تدفعه الزوجة لزوجها وذلك بأن يقول الزوج لزوجته: بارأتك على ألف جنيه.
فتقول له: قبلت.
أو ما فى معنى ذلك، والمعنى خالعتك من الزواج على ذلك وهذا عند الحنفية ( انظر مصطلح خلع)
يجوز إبراء المدين بعد وفاته من دينه وهذا محل إتفاق وفى التتار خانية.. رجل مات فوهبت له امرأته مهرها الشاغل لذمته جاز لأن "قبول المدين ليس بشرط فى صحة البراءة. وقال قاضيخان: رجل له على آخر دين فبلغه أنه قد مات فقال: جعلته فى حل من دينى، أوقال أبرأته منه. ثم ظهر أنه حى لم يكن للدائن المبرىء أن يأخذه منه لأنه قد وهبه إياه بلا شرط.
وفيه دليل على عدم صحة. رجوع المبرأ عن إبرائه... هذا وقد اختلفت الحنفية فى جواز رد الإبراء من الوارث إذا ما أبرأ الميت دائنه..
وقد علمت الشافعية والحنابلة يرون أن الإبراء لا يرتد بالرد وفى ارتداده بالرد عند الزيديه خلاف، وهو مذهب المالكية وإن كان الأرجح عندهم أنه يرتد بالرد (14) .
أحوال صيغة الابراء:
الأصل فى الإبراء أن يكون منجزا" مثل أن يقول الدائن لمدينه ابرأتك من دينى، واذا علق على شرط لم يصح ولم يترتب عليه أثر... ذهب إلى ذلك الحنفية والشافعية والحنابلة، وذلك لما فيه من معنى التمليك . فكان معتبرا بالتمليكات وإن كان فيه معنى الإسقاط وهذا إذا علق على غير الموت، فان علق على الموت صح، وكذلك إذا أضيف إلى ما بعده لأنه يكون حينئذ وصية والوصية بالبرأءة من الدين جائزة... ذهب إلى ذلك الحنابلة والحنفية.
وجاء فى البحر أن تعليق الإبراء على الشرط مفسد له إذا كان الشرط غير متعارف، أما إذا كان الشرط متعارفا فانه يصح تعليقه عليه. وقال أنه يجب تقييد كلام من قال الفقهاء كصاحب الكنز أن الإبراء يبطل بتعليقه على الشرط. ويؤيد ذلك ما جاء فى القنية وهو أن تعليق الإبراء على الشرط المتعارف جائز.
وفساد الإبراء بالتعليق إنما يكون فى الإبراء الذى يعد تمليكا كالإبراء من الدين أما الذى يعد من قبيل الإسقاط كالإبراء من الكفالة أو الحوالة فيصح تعليقه بالشرط الملائم. فإذا قال الدائن المكفيل: إن وافيتنى بالمدين غدا فأنت برىء من الكفالة. فوافاه به فى الغد برأ منها... ذهب إلى ذلك بعض الحنفية واختاره صاحب التكملة وقال إنه الأوجه لأن الإبراء فى هذه الحال إسقاط محض.
وجاء فى البحر على الكنز إن الإبراء يجوز تقييده بالشرط الصحيح ويبطل إذا اقترن بالمشرط الفاسد وأن أضافة الإبراء تبطله وإذا اقترن بخيار الشرط صح الإبراء وبطل الشرط (15)
وذهب الزيدية الى صحة الإبراء مع اقترانه بالشرط ولا يضيره أن يكون شرطا مجهولا وقت حدوثه أو شرطا لا تتعلق به أغراض الناس كتقييده بنزول المطر أو بنعيب الغراب مثل أن يقول الدائن لمدينه: أبرأتك بشرط نزول المطر فى وقت كذا أو عند نزول المطر. وإذا قيد بشرط لم يصح الرجوع فيه قبل تحقق الشرط أى إذا علق على شرط لم يصح أن يرجع فيه قبل تحقق الشرط.
وهذا دليل صحة تعليقه على المشرط عند الزيديه ، وأجازوا أن يكون فى نظير عوض مالى أو غير مالى كأبرأتك على أن تهب لى كذا أو على أن تطلق زوجتك فلانة فإذا تحقق ذلك صح وإلا لم يصح وتصح اضافته إلى الموت عندهم وعندئذ يكون وصية (16)
أنواع الابراء:
يتنوع الإبراء بالنظر إلى صيغته نوعين عند الحنفية: إبراء إسقاط ، وإبراء استفاء فإذا دلت صيغته وضعا على الإسقاط كأبراتك من الدين أو أسقطت عنك الدين أو أحللتك منه أو تصدقت به عليك، أو نحو ذلك.. كان إبراء إسقاط لأن الدائن قد عبر بما يدل على أنه قد ترك دينه وأسقطه عن مدينه، وسواء فى ذلك أن يكون ذلك بالنسبة إلى الدين كله أم بالنسبة إلى بعضه.
وإذا دلت صيغته على أن زوال الدين بسبب وفائه كان إبراء استيفاء، ويكون ذلك بإقرار الدائن باستيفاء دينه من مدينه كقوله: استوفيت دينى قبل فلان، ونحو ذلك.
مما يدل على هذا المعنى من العبارات وإنما سمى هذا النوع إبراء نظرا إلى نتيجته وهى عدم جواز المطالبة به بعد ذلك .
وسواء فى ذلك أن يكون المدين قد قام بالوفاء فعلا أم لا ، إذ الأثر فى الحالين واحد ، وهن عين الأثر فى النوع الأول وذلك الأثر هو سقوط الدين .
ولاختلاف هذين النوعين فى العبارة الدالة- على زوال الدين ودلالتها قالوا إن إبراء الإسقاط يختص بالديون إذ أن العبارة فيه صريحه فى اسقاطها ، ولا يصغ فى الأعيان، وذلك لعدم صحه إسقاط الأعيان.
أما إبراء الاستيفاء فإنه يكون فى الدين والعين جميعا من إذ الإقرار بالوفاء كما يتحقق فى الدين يتحقق فى العين، وذلك بدفعها إلى مالكها (17) .
وإبراء الاستيفاء إذا كان إقرارا بالوفاء كما بينا لا يحمال معنى الاسقاط، و يتمحض تمليكا بخلاف إبراء الاسقاط ، فإنه كما تقدم، كما يمكن أن يعد تمليكا للدين للمدين، يمكن أن يعد اسقاطا له. ذلك لأن وفاء الدين لا يكون إلا بتمليك مثله للدائن.
ومن هذا قال فقهاء الحنفية أن الديون تقضى بأمثالها، فإذا أعطى المدين الدائن مثل دينه فيه فقد ملكه مثله واستوجب عليه بهذا التمليك مطالبته به لولا ما عليه من دين مماثل يستوجب عليه مطالبته به من قبل الدائن فسقطت مطالبته بما أوفى نظير سقوط مطالبة الدائن إياه بما له من دين فى ذمته.
وهذا معنى قولهم ان الدينين يلتقيان قصاصا. ونتيجة لذلك يرى أن ذمة كل من
المدين والدائن بعد الوفاء بالدين مشغولة فذمة المدين لاتزال مشغولة بالدين ولكن لا يطالب به، وذمة الدائن أصبحت بالوفاء مشغولة بما أعطى فى دينه فإذا ما أبرأ الدائن مدينه فى هذه الحال أى يعد وفاء الدين إبراء اسقاط صادف ذلك الإبراء محلا وهو دينه الذى لا يزال شاغلا ذمة المدين فسقط بذلك الإبراء وخلصت ذمته منه وأصبحت ذمة الدائن وحدها مشغولة بما كان قد أعطى فى دينه من المال لا فى نظير شىء، فكان للمدين بسبب ذلك أن يسترد من الدائن مما سبق إن كان وفاه به، وهذا هو حكم الإبراء من الدين بعد الوفاء به.
أما إبراء الاستيفاء فإذا كان إقرارا بالوفاء لم يكن إلا إخبارا بما حدث من تمليك للدائن فى نظير دينه ، فلم يترتب عليه سقوط أحد العوضين، ولم يكن للدائن ولا للمدين مطالبة الأخر (18) بشىء ، وهذا هو اختيار السرخسى، والصدر الشهيد، وذكر خواهر زاده: أنه لا رجوع فى الحالين، واختاره بعض المشايخ.
ويتنوع إبراء الاسقاط بالنظر إلى موضوعه نوعين:
إبراء خاص وإبراء عام، فيكون خاصا إذا ما كان موضوعه حقا معينا أو حقوقا معينة مثل أن يقول شخص لآخر: أبرأتك من دينى أو من ديونى التى ثبتت لى فى ذمتك فى سنة كذا أو من دعواى هذه الأرض أو من جميع الدعاوى التى رفعتها عليك أو القائمة بينى وبينك الآن .
ويكون عاما إذا كان موضوعه عاما يتناول كل حق للمبرأ قبل شخص معين أبرأه. على أن عموم الإبراء وخصوصه مسألة نسبية، فإن قول شخص لآخر: أبراتك من كل دعوى تتعلق بأى عقار تحت يدك فى بلد كذا ، يعد عاما بالنسبة لما تحت يد المبرأ من عقار فى هذا البلد، ويعد خاصا بالنظر إلى حقوقه كلها، سواء تعلقت بهذا العقار أو بغيره والإبراء سواء أكان خاصا أو عاما لا يتناول إلا ما تدل عليه العبارة من حق قائم عند الإبراء ، ولا يتناول ما يجد ممن حقوق بعده، وإن شملته العبارة كما تقدم ذلك.
وبناء على ذلك إذا قال شخص لآخر:
لاحق لى قبلك، يشمل جميع الدعاوى المتعلقة بالأعيان أمانة كانت أم مضمونة، وجميع الديون وجميع الحقوق من كان حق هو مال ومن كل حق ليس بمال كالكفالة والقصاص وحق القذف وما إلى ذلك فلا تسمع منه دعوى بحق ثابت على هذا الإبراء وكذلك إذا قال أبرأت فلانا من كل دعوى لى قبله لا يحق له أن يدعى عليه بشئ سابق على هذا الإبراء سواء أكان الادعاء متعلقا بدين أو بعين وإذا قال أبرأته من كل دين لى قبله سقطت جميع ديونه التى له قبل هذا الإقرار ، فلا يملك مخاصمته فى دين سابق عليه.
وجاء فى تكملة ابن عابدين: لا تسمع دعوى بعد الإبراء العام إلا ضمان الدرك. والضمان الدرك هو ضمان ما يدرك المبيع أو اليمن من استحقاق الغير له كله، أو بعضه بعد العقد ".
ذلك لأن ضمان الدرك الحق فيه لم يثبت إلا بعد الإبراء وإن كان سببه سابقا على صدوره فعند صدوره لم تكن الذمة مشغولة بشىء معين، ولم يحكم بالإستحقاق إلا بعد الإبراء ولو قال أبرأت فلانا من كل حق لى عنده تناول الأمانات فيسقط الإدعاء بها دون الديون (19) .
وفيه حكم الرجوع عنه وبطلانه ببطلان ما تضمنه.
حكم الإبراء:
إذا صدر الإبراء مستوفيا شروطه ترتب عليه أثره، وهو سقوط الحق المبرأ منه كان الإبراء خاصا، وإذا سقط لم تجز المطالبة به بعد ذلك، وإذا كان عاما شمل جميع الحقوق الموجودة عند صدوره التى تتناولها عبارته فلا تجوز المطالبة بحق منها ولا يتناول ما يحدث بعده من الحقوق ولزم ذلك المبرىء فلا يقبل منه رجوع ولا عدول فيه، لأن الحق إذا سقط لم يعد مرة أخرى، وهو مذهب الحنفية والحنابلة (20) .
وقد جاء فى تكملة ابن عابدين أن الدائن لإيملك أن يرجع فى هبته الدين لمدينه بعد قبوله ويرجع فيها قبل قبوله، لأنها اسقاط أى والساقط لا يعود.
وذهب الشافعية إلا أن الإبراء إذا كان من أب لولده لم يصح الرجوع فيه على قول مراعاة لمعنى الإسقاط فيه ويصح الرجوع فيه على قول آخر مراعاة لمعنى التمليك ألا يرى أن الأب له الرجوع فى هبته لابنه، ذكر ذلك الرافعى.
وقال النووى: ينبغى ألا يكون للمبرئ حق الرجوع عن ابرائه فى جميع الأحوال.
وجملة القول أن الابراء إنما يتناول ما تدل عليه عبارة المبرىء من حق قائم عند صدورها، أما يحدث من الحقوق بعد ذلك فلا يتناوله الإبراء.
ومن المسائل التى فرعت على ذلك ما إذا أدعى المبرئ حقا وكانت دعواه بعد الإبراء دون أن يؤرخ ثبوت هذا الحق له، ففى الاستحسان أنها لا تسمع حملا للحى على انه سابق على الإبراء "حامديه" وقد ذكروا أن الدعوة بعد الإبراء العام تسمع فى أربع مسائل:
ا- إذا أبرأ إبراء عاما ثم ادعى عليه ضمان الدرك فى بيع سابق على الإبراء ، إذ الحق وهو الضمان لم يحدث إلا بعد الإبراء فتسمع استحسانا.
2- اذا بلغ القاصر فأبرأ وصية من كل حق ثم ظهر له شئ لم يكن يعلمه سمعت دعواه إذ التناقض مغتفر فيما فيه خفاء.
3- إذا أقر الوصى أنه استوفى جميع ما كان للميت على الناس جميعا ثم ادعى على رجل دينا للميت سمعت دعواه لارتفاع التناقض بسبب وجود الخفاء، وأيضا: يلاحظ فيه المبرأ مجهول وتقدم عدم صحة إبراء المجهول.
4- إذا أقر الوارث أنه استوفى جميع، ما كان للمورث على الناس جميعا ثم أدعى لمورثه دينا على آخر سمعت دعواه للسبب السابق فى المسألة فى قبلها.
هذا ويبطل الإبراء اذا بطل ما تضمنه إذا كان الإبراء قائما على حقوق تترتب على ما تضمنه وبناء على ذلك إذا باع شخص عينا وقبض ثمنها، وتضمن عقد البيع براءة البائع من كل دعوى تتعلق بالعين أو براءة المشترى من كل دعوى تتعلق بالثمن، ثم بطل البيع لاستحقاق العين المبيعة فإنه لا يكون لهذا الإبراء الذى تضمنه عقد البيع أثر فى استحقاق المشترى مطالبة البائع برد الثمن كما لا يكون ، له أثر فى مطالبة المشترى برد المبيع إذا ما كان الثمن عينا ظهر استحقاقها فبطل البيع بناء على ذلك.
وكذلك إذا تضمن الصلح إبراء من أحد طرفيه للآخر ثم بطل الصلح بسبب من الأسباب بطل تبعا لذلك ما تضمنه من الإبراء ،لأن الإبراء كان من عناصر الصلح فإذا بطل الصلح بطلت أيضا عناصره (21)
إبراء المريض:
يراد بالمريض من به مرض الموت وهو ما يغلب فيه الموت عادة ويتصل به، والإبراء
عند الحنفية كما قدمنا. إما إبراء اسقاط وإما إبراء استيفاء ، فإن كان إبراء اسقاط فهو فى مرض الموت من قبيل التبرع المنجز وحكمه حكم الوصية، وإن لم يكن وصية فإن كان لوارث توقف على إجازه سائر الورثة، وأن كان لأجنبى نفذ فى حدود ثلث التركة بعد سداد الديون، ولا تنفذ فيما زاد على ذلك لا بإجازة الورثة بعد وفاة المبرئ وهم من أمل التبرع عالمين بما أجازوا.
وفى حكم إبراء الوارث إبراء المريض أجنبيا من دين كفله أخد ورثته لأن أبراء الأصيل يستلزم براءة الكفيل فكان إبراؤه المدين الأجنبى إبراء لوارثه.
وإن كان الإبراء الصادر من المريض إبراء استيفاء وقد علمت أنه عبارة عن إقراره باستيفاء حقه ، أختلف الحكم فيه بإختلاف أحواله بحسب صدوره لوارث أو لأجنبى فى حدود الثلث أو فيما تجاوزه، وفيه أختلاف الفقهاء( أنظر مصطلح إقرار) وإلى مذهب الحنفية ذهب الزيدية.
وأعلم أن الإبراء إذا صدر فى صورة إقرار كأن يقول المريض لا حق لى قبل فلان ونحوه، فإن كان ذلك لوارث توقف نفاذه على تصديق سائر الورثة عند الحنفية سواء إعتبرته إقرار أم إبراء.
وإن كان لأجنبى فهو نافذ أن عد اخبارا وله حكم الوصية أن عد إبراء من دين معلوم (22) .
ذلك رأى الحنفية. أمال لشافعية فلهم رأيان فى إبراء المريض لوارثه وفى إبرائه
لأجنبى عنه، أحدهما يقضى بصحته فى الحالين.
والآخر يقضى بإعطائه حكم الوصية كما ذهب إليه الحنفية (23) .
ولم نعثر على رأى للحنابلة فى إبراء المريض غير أن رأيهم فى إقرار المريض كرأى الحنفية فيه فهل الأمر كذلك فى الإبراء ؟
وذهب ابن حزم إلى أنه لا فرق بين إبراء المريض. وإبرأء الصحيح، ذلك لأنه لا يرى تفرقة بين تصرف الصحيح وتصرف المريض فى الحكم، والحكم فيهما الصحة والنفاذ فى جميع الأحوال (24)

__________

(1) راجع تكملة ابن عابدين ج2 ص347 طبعة بولاق ،والاشباه للسيوطى ص187 والدسوقى على الشرح الكبير للدردير ج4 ص99 طبعة الحلبى، و شرح الأزهار المتفرع من الغيث المدرار ج4 ص258، وكشاف القناع ج2 ص477 .
(2) آية 92 سورة النساء .
(3) المحلى ج9 ص117 .
(4) المهذب للشيرازى من كتاب الهبة ج1 ص454 والأشباه للسيوطى ص188 وكشاف القناع ج2 ص478 .
(5) الدسوقى على الشرح الكبير ج4 ص99 وشرح الأزهار ج4 ص258 والفروق للقرافى ج2 ص101 ، 111 .
(6) نهاية المحتاج ج5 ص 410 .
(7) كشاف القناع ج2 ص478 .
(8) شرح الأزهار ج4 ص298 وما بعدها .
الشرح الكبير للدردير ج4 ص99 .
الأشباه والنظائر لابن نجيم طبعة إسلامبول تكملة ابن عابدين ج2 ص347 طبعة بولاق ، كشاف القناع ج2 ص347 طبعة بولاق .
كشاف القناع ج2 ص478 طبعة المطبعة الشرفية سنة 1319 .
الأشباه للسيوطى ص188 وما بعدها .
المهذب ج2 ص454 طبعة دار الكتب العربية لمصطفى الحلبى .
مطالب أولى النهى شرح غاية المنتهى ج4 ص392 وما بعدها طبعة سنة 1961 .
( انظر مصطلح حجر ومصطلح تبرع)
(9) كشاف القناع ج2 ص 478طبعة المطبعة الشرقية ، الأشباه للسيوطى ص187 .
جامع الفصولين المطبعة الأزهرية سنة 1300 ههجرية ج1 ص125 وما بعدها .
(10) الأشباه للسيوطى ص571
(11) كشاف القناع ج2 ص478 .
(12) شرح الأزهار ج4 ص298، 299 .
(13) حاشية الدسوقى على الشرح الكبيرج4 ص99 .
الأزهار ج4 ص298 .
كشاف القناع ج2 ص478 .
الأشباه للسيوطى ص188 .
الدر وابن عابدين ج2 ص614 وما بعدها طبعة الحلبى .
الأشياه للسيوطى ص187 .
(14) المهذب للشيرازى ج1 ص454
جامع الفصولين ج2 ص2 ،4،182
التكملة على الهداية ج7 ص44 .
البحرج7 ص310 ،322 .
الهندية ج4 ص385 .
مطالب اولى النهى ج4 ص392 ،393 .
(15) شرح الأزهار ج4 ص258 .
(16) تكملة ابن عابدين ج1 ص359.
(17) الفتاوى الهند ج4 ص204 .
(18) تكملة ابن عابدين ج2 ص347 طبعة بولاق .
(19) كشاف القناع ج2 ص478 المطبعة الشرقية سنة 1319 .
(20) الاشباه للسيوطى ص 188 .
(21) تكملة ابن عابدين ج1 ص359
الفتاوى الهند ج4 ص204 .
(22) تكملة ابن عابدين ج2 ص347 طبعة بولاق .
كشاف القناع ج2 ص478 المطبعة الشرقية سنة 1319 .
(23) شرح الجوهرة على القدورى من كتاب الاقرار والاشباه والنظائر من كتاب القضاء والشهادة والدعوى ص 357 طبعة اسلامبول .
(24) الهندية ج4 ص179 ، 181 .
تكملة أبن عابدين ج2 ص347 .
والأزهار ج4 ص300 .
(1/31)
إبط

الأبط: ما تحت الجناح (1) والكلام عنه فى موضعين:
الأول: حكم نتفه، أى إزالة السعر الموجود فيه.
الثانى: حكم جعل الرداء تحت الإبط الأيمن وإلقائه على الكتف الأيسر فى الحج وهو المسمى بالاضطباع. أما نتقه فمسنون عند جميع المذاهب (2) .
يقول صلى الله عليه وسلم، فى روايات متعددة ومختلفه فى بعض ألفاظها: عشر من الفطرة: قص الشارب، و اعفاء اللحية، والسواك، و استنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم ، ونتف الأبط ، وحلق العانة، و إنتفاض الماء، أى الاستنجاء، قال مصعب بن شيبة: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضمة.
وأما الاضطباع ، ويقال له التوشح والتأبط فسنة أيضا، فقد روى أن الرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباظهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى، وهذا عند الحنفية والشافعية والحنابلة والزيديه والأباضية(3) .
وقال مالك ليس الاضطباع سنة لأنه لم يسمع أحدا من أهل العلم ببلدة يذكر ذلك ولم نعثر على حكمه عند الإمامية والظاهرية

__________

(1) المصباح المنير.
(2) فتح القدير ج1ص 38 طبعة الأميرية.
- رسالة ابن أبى زيد القيروانى بشرح الآبى ص553 طبعة دار الكتب العربية.
- والمجموع شرح المهذب ج1 ص283.
- المغنى ج1 ص87 طبعة المنار.
- المحلى لابن حزم ج2 ص218.
- البحر الزخار ج2 298.
- المختصر النافع ص82.
- النيل ج1 ص516.
(1/32)
إبطال

معناه لغة:
الإبطال فى اللغة النقض والإلغاء والإفساد والإزالة. يقال أبطل الشئ ، جعله باطلا، ويقال أبطل إذا جاء بالباطل وهو ضد الحق أو الهزل، وأثر الإبطال البطلان وهو الضياع والفساد ، يقال بطل بطولا إذا ذهب ضياعا وخسرا
الضياع والفساد، يقال بطل بطولا إذا ذهب ضياعا وخسرا (1)
معناه اصطلاحا:
يستعمله الفقهاء بمعنى الإلغاء و الإفساد والنقض، ومحله عندهم الأفعال الشرعية كالصلاة والصوم والحج والأقوال، وتتناول التصرفات الشرعية والأحكام والأدلة، يقولون: أبطل عقده أو قوله إذا نقضه وأفسده أو عدل عن المضى فيه، وأبطل صلاته أو صيامه أو حجه إذا أفسده بما يجعله فى نظر الشارع فاسدا غير مجزى فإن ما صدر عنه من ذلك مسلوب الأثر الشرعى الذى رتبه الشارع على وجوده صحيحا على وفؤ ما طلب، وأبطل دليله إذا نقضه فجعله غير منتج للنتيجة التى أريدت منه، وهذا هو معنى البطلان فى الأدلة أما معناه فى الأفعال والتصرفات الشرعية فهو صيرورتها على خلاف ما طلب الشارع فيها سواء كان ذلك الطلب متعلقا بأركانها وعناصرها الأساسية التى يتوقف وجوده حقيقتها الشرعية على تحققها أم متعلقا بأوصافها العارضة لها التى رأى الشارع وجوب وجوده عليها. ومن ثم وصف بالبطلان كل فعل أو قول أو عقد وجد على خلاف ما طلب الشارع.
وإلى هذا المعنى ذهب الشافعية والحنابلة و المالكية و الزيديه.وذهب الحنفية إلى أن البطلان مخالفة القول أو التصرف لما بينه الشارع فى حقيقته وأركانه، فإذا وجد مخالفا لهذا البيان كان باطلا وغير مشروع بأصله، أما مخالفته لما طلبه فيه من أوصاف عارضة يجب أن يوجد عليها، فالا تسمى عندهم بطلانا، وإنما تسمى عندهم فساداً ووجوده على هذه الأوصاف التى كره الشارع وجوده عليها تجعله فاسدا لا باطلا، ويكون يخر مشروع بوصفه وجملة القول فى ذلك أن الشارع إذا نهى عن تصرف من التصرفات فقد يكون مرجع هذا النهى إلى خلل فى أركانه أو فى محله"أو لعدم تحقق معناه، وقد يكون مرجعه إلى وصف ملازم للتصرف عارض له، وقد يكون مرجعه إلى أمر مجاور له غير ملازم وليس شرطا فيه وإنما عرض له بسبب المجاورة فهذه أحوال ثلاثة. ففى الحال الأولى يكون أثر المخالفة فيها البطلان إتفاقى كما فى بيع الميتة وعقد المجنون.وفى الحال الثانية يكون الأثر- فيها الفساد عند الحنفية والبطلان أيضا عند غيرهم، كما فى بيع أجل الثمن فيه الى الميسرة، أو يسر دابه من قطيع، ومن هذأ يتبين أن الحنفيةقد فرقوا بين البطلان والفساد، وخالفهم فى ذلك المالكية والشافعية والحنابلة، فلم يفرقوا بين هذين الحالين فى التسمية وفى الأثر به وكانت المخالفة فيهما عندهم بطلان أو فسادا وكان اللفظان عندهم مترادفين. وهذا ما جرى عليه استعمالهم فى أكثر أبواب الفقه بصفة عامة، وقد يرى فى بعض الأبواب أنهم يفرقون بين معنى البطلان والفساد بناء على اختلاف فى الأحكام،وذلك ما يفصل فى مصطلح بطلان وفسادا فإرجع إليه.
أما مخالفة الحال الثالثة فلا توجب بطلانا ولا فسادا، ولا تسمى بذلك عند الحنفية والمالكية والشافعية، وإنما توجب الكراهة فقط، وهذه رواية عن أحمد.وفى رواية أخرى عنه أنها توجب الفساد والبخلان ، ذلك فيما يتعلق بالتصرفات الشرعية على العموم سواء أكانى عقودا أم الزأما بإرادة منفردة ما عدا النكاح إذ يرق فيه يرى فيه جمهور الفقهاء أن لا فرق بين باطله وفاسدة فى الحكم، ومن ثم أطلقوا على ما يوجد منها مخالفا لطلب الشارع أسم الباطل تارة، وأسم الفاسد تارة أخرى من غير تفرقة بين الحالين فى العنى سواء أكان مرد ذلك إلى مخالفة فى أصل العقد أو مخالفه فى وصفه كما فى النكاح المؤقت.
أما فى الأفعال الشرعية كالصلاة والصوم عدا الحج فإن الإتيان بفعل منها على وضع مخالف لما أمر الشارع يجعلها غير مجزئة فلا تبرأ بها الذمة ولا يتحقق بها الإمتثال المطلوب أو الطاعة الواجبة سواء أكان مرجع النهى فيما نهى عنه مها هو فقدان ركن من أركانها أو شرط من شروطها أو وجودها على صفه كرهها الشارع فيها ومن ثم يصفها الفقهاء فى هذه الحال تارة بالبطلان وتارة بالفساد من غير تفرقة بين حال وحال فيقولون الصلاة بغير ركوع باطلة أو فاسدة والصلاة بغير طهارة باطلة أو فاسدة والصلاة مع كشف العورة فاسدة أو باطلة.لا يفرقون فى الوصف ولا فى الأثر بين حال وحال (2)
(أنظر مصطلح: بطلان وفساده) أما الحج فقد فرقوا بين فاسده وباطله"
إذ أوجبوا المضى فى فاسده و أوجبوا على الحاج مع ذلك الذبح والإعادة مرة أخرى وإنما وجبت الإعادة لتمكن الخلل فى الحج الذى أتى به لا لعدمة (3) .
ويلاحظ أن المخالفة إذا كانت راجعة إلى فقدان ركن من الأركان أو فقدان معنى التصرف فإن أ ثرها حينئذ هو انعدام السهل المطلوب أو العقد المراد انشاؤه ، وعند ذلك لا يتحقق لهما وجود شرعى وأن ثبت لهذا وجود حمى فى الواقع، فالصلاة إذا فقدت أركانها لا تعد صلاة ولا يتحقق لها وجود عند ذلك شرعا، وكذلك العقد إذا فقد أحد أركانه لم يكن له وجود فى نظرالشارع. وفى هذه الحال يوصف كل منهما بالبطلان، فيقال فى الصلاة حينئذ أنها باطلة وفى العقد أنه باطل، ومعنى، ذلك فى واقع الأمر إنعدام كل منهما شرعا وفى مثل هذه الحال لا يكون كل منهما محلا للابطال،
إذ معناه جعل الفعل أو التصرف باطلا بعد أن بدأ صحيحا، فإذا بدأ باطلا لم يقبل إبطالا، لأن الباطل لا يبطل. ومن ثم كان البطلان الذى يحدث أثرا للإبطال حكما طارئا يطرا على الفعل
الشرعى أو التصرف، وعلى هذا لا يقال لمن صلى بلا ركوع وسجود أبطل صلاته إلا على معنى جاء بصلاة باطلة نجر موجودة ولا لمن باع- سلعة بغير قبول أبطل بيعه إلا على، معنى جاء بعقد باطل وفد يكون المراد بالإبطال إظهار بطلان الفعل الباطل أو العقد الباطل، وذلك يحدث فى القضاء بإبطال تصرف من التصرفات إذ لا يراد بقول القاضى أبطلت هذا العقد أو هذا الحق إلا أظهرت بطلانه، ذلك لأن القضاء مظهر ولا ينشئ إلا نادرا فى أحوال خاصة
ومما تقدم يتبين ما يأتى:
أولا: أن الإبطال جعل الفعل أو القول باطلا بر وذلك بإعدامه فى نظر الشارع وتجريده من وصف الوجود شرعا وهو الوجود الذى ناط به للتنازع ترتب الآثار الشرعية عليه، ومن ثم عد الباطل معدوها فى نظر الشارع واعتباره وكان العقد الباطل معدوما لا يترتب عليه أثر، والصوم الباطل معدوما لا يجزئ عن الواجب الشاغل للذمة وهو بهذا المعنى يتناول معنى الفسخ كما سيتضح ذلك فيما يأتى.
ثانيا: ان الإبطال عند الحنفية يكون بإدخال سبب كب حلل على الفعل أو التصرف، بعد بداية بداية صحيحه، وذلك بإعدام ركن من أركان، كمن بدأ صلاته بداية صحيحة، ثم ترك فيها ركوعا أو سجودا أو بدأ صيامه، ثم أكل عامدا فى أثناء النهارا
بدأ حجه ثم أرتد أو باع ثم أبطل بيعه بخيار مجلس عند القائل به أو بخيار شرط إذا ما شرطه لنفسه فى العقد أو أذن الموهوب له فى قبض العين الموهوبة ثم عدل عن إذنه أو أوجب فى عقد من العقود ثم عدل عن إيجابه فى مجلس العقد أو تزوج ثم أبطل زواجه بردته أو بخيار بلوغ، فكل ذلك أبطل لما بدأ صحيحا، وهذا بخلاف الإفساد فإن معناه عندهم إلحاق مفسد بما شرع فيه من عمل أو تصرف، كمن شرع فى صلاته ثم تكلم فيها بما يتكلم به الناس أو انحرف فيها عن القبلة انحرافا جعلها إلى ظهره، أو صام فجامع فى صيامه، أو حج فجامع قبل وقوفه بعرفة، أو باع بثمن فأجله إلى وقت الميسرة أو اشترط فيه شرط خيار لمدة سنة أو بغير مدة، أو قارض فاشترط لنفسه ربحا معين المقدار، أو رهن فاشترط بقاء الرهن تحت يده 000 فذلك كله عند الحنفية إفساد لا إبطال، إذ أنه لا يرجع إلى خلل فى أصل الفعل أو التصرف، وإنما يرجع إلى وصف من أوصافه، ولا يفرق غيرهم بين الحالين فهى عندهم إبطال أو إفساد.)
(راجع مصطلح: بطلان وفساد)
الفرق بين الإبطال والفسخ:
بينا فيما سبق معنى الإبطال ومحله، ونقرر هنا أن الإبطال كما يحدث أثناء القيام بالعمل الشرعى ، كما فى المصلى يتحدث فى صلاته بنا يشبه كلام الناس، وكما فى البيع إذا فصل بين إيجاب البائع وقبول المشترى ما يحول دون اتصال
القبول بالإيجاب من قيام أو كلام أو اشتغال بأى عمل يترتب عليه ذلك عرفا، وكما فى الزواج إذا أقترن بقبول الزوج ما يوجب بطلان العقد من ردة أو فعل يوجب حرمة المصاهرة، كذلك يحدث الإبطال بعد التمام. غير أن ذلك لا يتصوره الأفعال الشرعية كالصلاة والصيام والحج إذ بعد تمامها لا يمكن أن يلحق بها ما يبطلها، لأنها وقعت على وفق طلب الشارع مجزئة وبرأت منها الذمة، فلا تشغل بها مرة أخرى.
ولكنه يحدث فى التصرفات... فقد ذكروا أن الوقف يبطل بردة الواقف بعد تمامه، وأن الوصية تبطل برجوع الموصى عنها، وأن التوكيل يبطل بعدول الموكل عنه بشرط وصول الخبر إلى الوكيل وأن العارية تبطل برجوع المعير عنها، وأن البيع يبطل بخيار العيب وبخيار الرؤية عند إرادة الرد بهما، وأن الهبة تبطل برجوع الواهب فيها بشرط رضا الموهوب له أو قضاء القاضى، والمسائل من هذا النوع كثير عديدة يخطئها الحصر.
ولكن الملاحظ أن التعبير عن الإبطال بعد التمام أكثر الحالات والمواضع يكون بالفسخ، وقد يستعمل لفظ الإبطال، ولكن التعبير الأول أكثر استعمالا، ويندر أن يعبر عن الإبطال الحادث فى أثناء العمل بالفسخ وإذا عبر عنه بذلك كان من قبيل التجوز فى التعبير.
ففى الإقالة قالوا إنها فسخ فى حق المتعاقدين عقد جديد فى حق غيرهما، وفى العقد غير اللازم قالوا أنه ما يستبد أحد
العاقجين بفسخه وفى الرجوع فى الهبة من الواهب قالوا إذا رجع الواهب فى هبته بقضاء أو رضا كان فسخا لعقد الهبة وإعادة لملكه لا هبة جديدة، و فى خيال العيب قالوا إن الرد بخيار العيب قبل القبض يعد فسخ كالرد بخيار الرؤية أو بخيار الشرط (4) وهكذا، كما عبروا فى مثل هذه المواضع بالإبطال (5) .
وأذن فالفرق بين الإبطال والفسخ أن الإبطال أعم من الفسخ، فالإبطال كما يكون فى أثناء المباشرة يكون بعد التمام والفسخ لا يكون ألا بعد التمام، فكل فسخ أبطال، وليس كل إبطال فسخا، وذلك ما يشعر به ويدل عليه لفظ الفسخ لغة (6) ، فهو فيها النقض والتفريق، فقول العرب فسخت الشئ فرقته، وفسخت المفصل عن موضعه أزلته، وتفسخ الشعر عن الجلد، وليس يكون ذلك إلا عند إتصال شيئين فتفرق بينهما
( أنظر مصطلح فسخ) .
أسباب الإبطال:
تبين مما سمها أن الإبطال هو جعل العمل أو التحرف باطلا ، وإنما يكون ذلك ممن يباشر العمل بالنسبة للأفعال الشرعية أو ممن له شأن فى التصرف بالنسبة للتصرفات بناء على ثبوت الحق له فى ذلك شرعا تطبيقا لحكم شرعى ، وعلى ذلك لا يكون الإبطال
إلا بسبب مبطل شرعا، أى بسبب رتب الشارع عليه حكم الإبطال عند تحققه، فما لا يبطل به العمل أو التصرف شرعا لا يصلح سببا للإبطال، وإذا جعل سببا للإبطال لم يترتب عليه، وبناء على ذلك لا يملك المصلى أو الصائم أو الحاج أن يبطل صلاته أو صيامه أو حجه إلا بما جعله الشارع مبطلا لها فلا يملك المصلى أن يبطل صلاته بنظره إلى السماء عند صلاته أو بقيامه على رجل واحدة، ولا يستطيع الصائم أن يبطل صيامه بأكله ناسيا، ولا يستطيع الحاج أن يبطل حجه بلبس مخيط فى إحرامه. إذ أن الشارع لم يرتب على شىء من ذلك بطلان العمل، وليس لإرادة المصلى أو الصائم والحاج سلطان فى ذلك، بل الحكم فى الشارع.
ومما يجب ملاحظته أن أقدام المكلف على أبطال عمله. المتطوع به فى غير حج وعمرة بغير عذر مكروه، فإذا أبطله لزمه أعادته عند أبى حنيفة ومالك لقوله تعالى: " ولا تبطلوا أعمالكم (7) " فقد أمر بعدم أبطالها، فوجبت بالشروع فيها، وذلك ما فوجبت بالشروع فيها وحرمة إبطالها بغير عذر ووجوب قضائها إذا أبطلها مطلقا. وذهب الشافعى وأحمد(8) إلى استحباب اتمامه، وإذا أبطله لم يلزمه قضاؤه هو المراد فى الأية بإبطالها أبطال ثوابها بالمن أوالرياء والشروع فى التطوع لا يغير حقيقته وحكمه .
أما الحج والعمرة فيجب المضى فيهما وإعادتهما عند إبطالهما.
وذهب الشيعة الإمامية إلى عدم جواز إبطال الصلاة اختيارا من غير عذر، وإلى أنها تصير واجبة بالشروع فيها (9) .
وكذلك بالنظر إلى التصرفات الشرعية لا يستطيع ذو الشأن أن يبطلها إلا بما جعله الشارع مبطلا لها فالتصرف إذا كان غيرلازم بالنسبة- إلى طرفيه كالعارية والوكالة والشركة والوديعة يكون لكل عاقد حق أبطاله أو فسخه بإرادته المنفردة دون أن يتوقف ذلك على رضا الطرف الآخر، و إذا كان لازما بالنسبة إلى أحد طرفية غير لازم بالنسبة إلى الطرف الأخر كالرهن والكفالة كان لمن لا يلزم العقد بالنسبة له فقط أن يبطله بإرادته المنفردة، فكان للمرتهن هذا الحق دون الراهن، وكان للمكفول له هذا الحق دون الكفيل. أما الراهن أو الكفيل فليس له الإبطال إلا برضا المرتهن أو المكفول له، وإذا كان التصرف لازما بالنسبة إلى طرفيه كالبيع والإجازة ونحوهما لم يملك أحدهما إبطاله برضا الطرف الأخر، وهذا ما يسمى بالإقالة، وإذا فقد لزومه بسبب خيار كخيار رؤية أو شرط أو عيب كان له إبطاله إلا بناء على خياره وإذا كان التصرف بإرادة المتصرف المنفردة كالوقف والوصية والهبة والجعالة كان له إبطاله إذا جعله الشارع غير لازم كالوصية والجعالة والهبة فى بعض أحوالها، ولم يكن له ذلك بإرادته فيما جعله الشارع لازما كالوقف وعقد الصبى الممير موقوف فلوليه إبطاله عند الأحناف والمالكية، وكذلك عقد
الفضولى لصاحب الشأن فيه أبطاله عند القائلين بوقفه 0
وعلى الجملة فليرجع إلى مبطلات الصلاة فى مصطلح صلاة، وإلى مبطلات الصوم فى مصطلح صوم وإلى مبطلات الحج فى مصطلح حج وإلى بما!ت البيع والإجارة والرهن والصح والوقف فى مصطلحاتها وهكذا، وإلى مبطالات الحج حكام فى مصطلح قضاء.
أثر الإبطال وحكمه:
إذا حدث الإبطال قبل إتمام العمل الشرعى أو الإلتزام الشرعى كان أثره البطلان وبذلك صار معدوما فى نظر الشارع، وترتب على ذلك صيرورة العمل غير مجزئ وصيرورة الالتزام لاغيا لا يترتب عليه أثر، وهذا محل إتفاق بين المذاهب، إلا أن ترتب الآثار على أسبابها إنما هو نتيجة لإعتبار الشارع لها وترتيبها عليها، وإنما يكون ذلك عند وجوده فى اعتباره ونظره. أما اذا حدث الإبطال بعد التمام، وذلك لا يتصور كما قلنا إلا فى التصرفات الشرعية ، فإن أثره حينئذ هو إنهاء التصرف، ولا يكون لهذا الإنهاء عندئذ أثر رجعى فلا يترتب على إبطال الزواج حرمة ما حدث فيه من مباشرة سابقة ولا إنتفاء ما ثبت به من أنساب ولا سقوط ما وجب فيه من نفقات على الزوج، وكذلك الحال فى الهبة يرجع فيها الواهب بعد تمامها بالقبض، فإن جميع منافع العين و زوائدها قبل إبطالها وفسخها تكون للموهوب له متى كانت منفصلة لأنه المالك
للعين الموهوبة قبل الرجوع، وزيادة الملك ونماؤه لمالكه ولا تكون للواهب، غير أن الزيادة المتصلة كالسمن مثلا تمنع الرجوع عند الحنفية وتمنع الإعتصار عند مالك، وهو رجوع الأب فيما وهبه لولده وتمنع الرجوع كذلك عند أحمد على رواية جواز رجوع الأصل فيما وهبه لفرعه ولا تمنع رجوع الأصل فيما وهبه لفرعه عند الشافعى، بل تتبع أصلها فتكون للواهب، و هو مذهب الأباضية.
أما المنفصلة ظل ملكا للموهوب له وإلى هذا ذهب الشيعة الجعفرية.
ولا يرى أهل الظاهر جواز الرجوع فى الهبة (10) .
وذهب الزيدية الى أن الزيادة المتصلة تصنع الرجوع لا المنفصلة إذا تكون للموهوب له (11) ونتيجة ذلك اقتضاء الرجوع فى الهبة وعدم استناده إلى وقتها، وكذلك الحكم فى الوكالة إذا أبطلها أحد عاقديها، والشركة والقراض و العاريه والمساقاة والمزارعة والإجارة إذا فسخت بسبب عذر أو بإقالة، فالفسخ فى جميع هذه الأحوال لا يستند إلى وقت حدوث العقد، وإنما يقتصر الإبطال على وقته فلا يترتب عليه أثره إلا من ذلك الوقت، إذ أن الإبطال لا يرفع عقدا ولا يبطله فقد حدث بعد تمامه وترتب آثاره عليه، أيضا ينهيه من وقت فسخه فيرفعه بذلك الفسخ والإبطال.
وبناء على ذلك اذا حدث الفسخ أو الإبطال قبل تمام العقد وترتب آثاره عليه فإن الحكم يختلف تبعا لما تم من آثاره وما لم يتم ومما فرع على ذلك عقد البيع إذا كان فيه خيار شرط أو خيار رؤية أو خيار عيب ذلك أن خيار الشرط يقف ترتب آثار العقدعليه عند الحنفية. فإذا حدث الفسخ الإبطال بناء عليه لم يترتب على العقد شئ جديد، وأرتفع بالفسخ (12) .
ويرى مالك فى أصح أقواله أن خيار الشرط يحول كذلك دون ترتب آثاره عليه أيضا، وعلى ذلك فالبيع فى زمن الخيار لا يزاد مملوكا للبائع، والثمن لا يزال مملوكا للمشترى سواء أكان الخيار لأحدهما أم لهما وعلى ذلك فيكون الحكم هو ما ذكرنا عند الحنفية وهو أن العقد لم يترتب عليه أثر جديد وأنه بالفسخ يرتفع وعلى ذلك يكون نماء المبيع و زوائده للبائع متى كانت حادثة زمن الخيار سواء أجيز العقد أم فسخ عن وهناك آراء أخرى للمالكية فى ذلك (13) .
ويرى الشافعى أن ملك المبيع فى مدة الخيار لمن له الخيار، فإن كان الخيار للبائع وحده فهو المالك للمبيع وحده، وإن كان الخيار للمشترى وحده كان ملك المبيع له كما يكون ملك الثمن للبائع، وإذا كان الخيار لهما فالأمر موقوف إلى أن يظهر مآل العقد، فإذا فسخ البيع ظهر أن المبيع لم يخرج من ملك البائع وأن الثمن لم يزل فى ملك المشترى، وعلى هذا الأساس يكون
لحكم على الزوائد والنماء فى مدة الخيار فهى لمن له الملك فى تلك المدة قبل أن يئول العقد إلى فسخه (14)
و يرى أحمد أن اشتراط الخيار لا يحول دون ترتب آثاره عليه، وهذا ظاهر المذهب، وعلى هذا الأساس يكون الحكم على الزيادة والنماء فيهما للمشترى لحدوثهما على ملكه وفسخ العقد إنما يكون من وقت الفسخ لاين وقت إنشائه.
غير أن الزيادة كانت متصلة كالسمن فإنها تتبع أصلها عند الفسخ (15) فتكون لمن كان له ملك أصلها. وعلى هذا يرى أيضا أن الفسخ أو الإبطال يقتصر على وقت حدوثه فلا يثبت بأثر رجع إلى وقت نشأة العقد. ويلاحظ أنه بالنسبة إلى العقد الموقوف عند فسخه، فإن فسخه يثبت بأثر رجعى إلى وقت إنشائه ، ذلك لأن العقد الموقوف لا يترتب عليه آثر وإنما ينفذ بإجازة) (راجع خيارات) .
فى الجملة ففسخ العقد يقتصر على وقت إنشائه عند الفقهاء اذ لا يعدم التزام وجد صحيحا فى زمن صحته، وإنما ينهيه من وقت حدوثه، وذلك ما يرى أنه ليس محالا للخلاف. ويلاحظ كذلك أن العقد إذا حدث فاسدا كان له وجود فى نظر الحنفية ووجب على كل من طرفيه فسخه وإذا وصل علم القاضى إليه فسخه القاضى إن لم يفسخه أحد طرفيه ، أما عند غيرهم فليس له وجود حتى يقتضى، ذلك فسخه وإبطاله(16) .

__________

(1) المعجم الوسيط- مفردات الراغب - القاموس في مادة بطل.
(2) راجع الشرح الكبير للدردير فى كتاب البيع من الجزء الثالث، وفى كتاب النكاح من الجزء الثانى طبعة الحلبى وشرح مسلم الثبوت ج1 ص122 والإحكام للآمدى ج 1ص 187 وروضة الناظر فى أصول فقه ج1 ص 164 وما بعدها المطبعة السلفية سنة 1342، وارشاد الفحول للشوكانى ص104 مطبعة السعادة سنة 1327.
(3) أبن عابدين ج2 ص 228، 229 .
(4) الدر المختار ج 4 ص 96.
(5) أرجح الى ابن عابدين ج4 ص80 من باب خيار العيب.
(6) المصباح المنير والقاموس و الاساس فى مادة فخ.
(7) سورة محمد: 33.
(8) كشاف القناع ج1 ص 528.
أحكام القرآن لابن العربى .
أحكام القرآن للجصاص ج3 ص219 .
وأحكام القرآن للقرطبى ج16 ص255 .
(9) مصابيح الفقه وكتاب الصلاة ص 427، 428.
(10) تكملة ابن عابدين فى الهبة ج 2 فى آخره.
كشاف القناع ج2 ص 185.
الخرشى ج 7 ص 134.
البجرمى على المنهج ج 3 ص244.
المحلى وتحرير الاحكام ج1 ص441 .
(11) شرح الأزهار ج 3 ص441 .
(12) راجع البدائع ج 5 ص346.
(13) الشرح الكبير للدردير ج 3 ص 104 .
الخرتشى ج 5 ص137.
شرح النيل ج6 ص10
شرح الأزهار ج 35 ص441.
(14) نهايه المحتاج ج4 ص19 .
روض الطالب ج 2 ص 53.
(15) المغنى ج4 ص26 .
كشاف القناع ج 2 ص 50
(16) الدر المختار أحكام البيع الفاسد .
(1/33)
أبطح

1- التعريف به:
أ) المعني اللغوى: جاء فى لسان العرب ومثله فى القاموس أنه اسم لمسيل واسع فيه دقاق الحصى. وقيل بطحاء الوادى تراب لين مما جرته السيول، فإن اتسع وعرض فهو الأبطح. وقال ابن الأثير: إن أبطح الوادى حصاة اللين فى بطن المسيل، وفى الحديث أنه عليه الصلاة والسلام صلى بالأبطح يعنى أبطح مكة وهو مسيل واديها، وفى المصباح أن الأبطح كل مكان متسع، والأبطح بمكة هو المحصب، ثم فسر كلمة محصب بأنه موضع بمكة على طريق منى، وبأنه مرمى الجمار بها.
ب) المعنى الاصطلاحى: يقول الأحناف(1) أنه اسم الموضع الذى نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من منى إلى مكة ويسمى المحصب والأبطح. وهو فناء مكة ما بين الجبلين المتصلين بالمقابر إلى الجبال المقابلة لذلك وأنت صاعد فى الشق الأيسر فى طريقك إلى منى من بطن الوادى، ولم يختلف عليهم أحد من أهل المذاهب الأخرى فى التعريف به.
2- حكم النزول به:
يقول الأحناف أنه يسن للحاج بعد رمى الجمار أن يأتى الأبطح فينزل به لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل به قصدا وذلك لما روى عن أسامة بن زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: إنا نازلون غدا بالخيف(2) خيف بنى كنانة حيث تقاسم المشركون فيه على شركهم. يريد الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك الإشارة إلى عهد المشركين فى ذلك الموضع على هجران بنى هاشم وبنى المطلب بألا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم الرسول، فعرفنا بذلك أن نزوله بالأبطح كان قصدا ليرى المشركين لطيف صنع الله به، وليتذكر فيه نعمته سبحانه عليه حيث يقارن بين نزوله هذا وما كان عليه أيام الحصار فيكون النزول فيه سنة بمنزلة الرمل فى الطواف واستدلوا أيضا بأن الخلفاء نزلوا كذلك بهذا المكان وقد صرح بعضهم كما فى ابن عابدين بأن الأظهر أن النزول به سنة كفاية، لأن الموضع لا يسع جميع الحجاج، ويتحقق أصل السنة عندهم بأن ينزل الحاج ولو ساعة يقف على راحلته يدعو.
وذكر الكمال بن الهمام أن الحاج يصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويهجع هجعة ثم يدخل مكة.
وهذه كما يقول ابن عابدين: سنة كمال وقد صرح المالكية(3) : بأن النزول به مع الصلوات الأربع مندوب، واستثنوا المتعجل فى سفره، ومن كان رجوعه يوم الجمعة، وصرحوا أيضا أن محل ندب صلاة الظهر إذا وصله قبل ضيق وقتها فلو ضاق عليه الوقت يصلى الظهر حيث أدركه. ونصوا على أن الراجع من منى يفعل ذلك سواء أكان آفاقيا(4) أم من مكة أم مقيما بمكة، وأنه يقصر الصلاة ولو كان مكيا لأنه من تمام المناسك.
ويرى الشافعية(5) : أنه يندب لمن نفر من منى أن ينزل بالمحصب الذى يقال له الأبطح وخيف بنى كنانة، ويصلى به العصرين والمغربين ويبيت به لاتباع الرسول وقالوا: إن ذلك ليس من المناسك.
وصرح الحنابلة: باستحباب النزول وأداء الصلوات الأربع المذكورة والاضطجاع اليسير، وروى ابن قدامة أن ابن عمر يرى التحصيب سنة.
ونص الشيعة الجعفرية(7) : على أن النزول به مستحب. كما نصوا(8) على أنه يستحب الإكثار من الصلاة بمسجد الخيف.
ويضيف الزيدية(9) : للحكم بندب النزول به أن الحاج يصلى فيه العصر والعشاءين ويدخل مكة بعد هجعة كفعلته - صلى الله عليه وسلم- .
هذا وقد أوردت كتب الأحناف والحنابلة والزيدية التي أشرنا إليها اختلافا بين بعض الصحابة وبعض فى أن النزول به سنة أو غير سنة، ويرجع اختلافهم فى ذلك إلى أن نزول الرسول صلى الله عليه وسلم به أكان عن قصد أم غير قصد، ونقلوا عن ابن عباس وعائشة أن نزوله به كان اتفاقا لا قصدا، وقد واجههم الحنفية بالرد بما تقدم.
ولم نعثر فى كتابى المحلى فى الفقه الظاهرى وشرح النيل فى الفقه الإباضى على شىء فى ذلك الموضوع .

__________

1) المبسوط ج4 ص24 مطبعة السعادة سنة 1324ههجرية البدائع للكاشانى الطبعة الأولى بالقاهرة سنة 1327ههجرية ج2 ص160.
الفتح ج2 ص187، مطبعة مصطفى محمد، الدر المختار حاشية ابن عابدين ج2 ص201، المطبعة الميمنية سنة 1307ههجرية.
2) الخيف فى الأصل ما ارتفع عن الوادى قليلا عن مسيل الماء وقد اشتهر إطلاقه على مكان قرب منى فيه مسجد الخيف.
3) الدردير والدسوقى ج2، ص53، طبعة المطبعة الأزهرية سنة 1345ههجرية.
4) أى من خارج مكة.
5) المهذب ج1، ص231، طبعة عيسى الحلبى، حاشية القليوبى على المنهاج ج2 ص124 طبعة الحلبى سنة 1353ههجرية.
6) المغنى ج3 ص 457، الطبعة الثالثة بدار المنار.
7) المختصر النافع ص98 طبع دار الكتاب العربى.
8) الروضة البهية ج1 ص 203، مطبعة دار الكتاب العربى.
9) البحر الزخار ج2 ص 360.
(1/34)
أبكم

فى اللغة يقال: رجل أبكم أى أخرس. والأخرس: هو الذى منع من الكلام خلقة. أى خلق ولا نطق له.
وقد وضع الفقهاء له أحكاما تتعلق بذبيحته وصلاته وطلاقه ووصيته وعقوده وإشارته ... ..إلى غير ذلك (انظر أخرس) .

(1/35)
إبل

التعريف بالإبل:
الإبل بكسرتين وبتسكين الباء: الجمال والنوق، لا واحد له من لفظه، مؤنث، وجمعه آبال، ويقال: إبلان للقطيعين من الإبل(1) .
منافع الإبل:
وقد أحل الله تعالى ذكور الإبل وإناثها فقال سبحانه: ( ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم اللّه ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين. ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أمَّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئونى بعلم إن كنتم صادقين. ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أمَّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين.. الآية((2)
ونعى سبحانه على من عطل منافعها فى الأكل أو فى العمل بأى نوع من أنواع التعطيل فقال:( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون((3)
البحيرة: كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر، بحروا أذنها أى شقوها، وحرموا ركوبها، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى، وإذا لقيها المعيى لم يركبها واسمها البحيرة(4) .
السائبة: كان الرجل يقول: إذا قدمت من سفرى أو برئت من مرضى فناقتى سائبة وجعلها كالبحيرة فى تحريم الانتفاع بها واسمها السائبة(5) .
الوصيلة: الناقة البكر، تبكر فى أول نتاج الإبل بأنثى، ثم تثنى بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر(6) .
الحام: والحام فحل الإبل، يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه تركوه للطواغيت وأعفوه عن الحمل فلم يحمل عليه شىء وسموه الحامى(7) .
طهارة الإبل:
والإبل الحية طاهرة ما دام جسمها خاليا من ملابسة النجاسات التي تخرج من الإبل، ومن غيرها من النجاسات، ولمن شاء أن يزاول أية منفعة من المنافع التى تطلب من الإبل دون حرج أو مانع فإذا تلبست بنجاسة وجب أن يتحرز الإنسان من تلك النجاسة وأن يزيلها.
يخرج من أبدان الإبل، ما يأتى:
1- أبوالها.
2- أ رواثها.
3- الدم السائل منها.
أما أبوالها، فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف: أنها نجسة، وقال محمد: أنها طاهرة، حتى لو وقع فى الماء القليل لا يفسده ويتوضأ منه ما لم يغلب عليه(8) .
ويقول الشافعية: كل مائع خرج من أحد السبيلين نجس سواء كان ذلك من حيوان مأكول اللحم أم لا (9) .
ويرى المالكية: أن بول ما يباح أكله طاهر إذا لم يعتد التغذى بنجس، والإبل مباحة الأكل فبولها طاهر(10) .
وعند الحنابلة: بول الإبل وما يؤكل لحمه طاهر إلا إذا كانت تأكل النجاسة فبولها نجس، فإن منعت من أكلها ثلاثة أيام لا تأكل فيها إلا طاهرا صار بولها طاهرا(11) .
والزيدية: ترى أن بول ما يؤكل لحمه كالإبل طاهر لقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا بأس ببول البقر والغنم والإبل) وبول الجلالة نجس(12) .
وابن حزم يقول: البول كله من كل حيوان، إنسان أو غير إنسان، مما يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه، أو من طائر يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه، فكل ذلك حرام أكله وشربه، إلا لضرورة تداو أو إكراه أو جوع أو عطش فقط، وفرض اجتنابه فى الطهارة والصلاة إلا مالا يمكن فهو معفو عنه(13) .
والإمامية قالوا: أن بول الإبل طاهر(14) .
والإباضية يرون: أن بول الإبل نجس إذ يقولون أن البول مطلقا من الإنسان والحيوان خبيث لأن النبى صلى الله عليه وسلم سماه خبيثا فكل بول خبيث(15) .
روث الإبل:
أما الأرواث فيقول الأحناف: إنها نجسة عند عامة العلماء وقال زفر: روث ما يؤكل لحمه طاهر(16) .
ويقول الشافعية: إن كل ما خرج من السبيلين من حيوان مأكول فنجس كالبعر والروث(17) .
ويرى المالكية: أن الروث الخارج من مباح الأكل كالإبل والبقر طاهر إذا لم يعتد التغذى بالنجاسة فإن اعتاد التغذى بها يقينا أو ظنا فروثه نجس(18) .
ويرى الحنابلة أن روث الحيوان الذى يؤكل طاهر(19) .
ويرى الزيدية أن زبل الإبل والحيوانات المأكولة طاهر، فإذا كانت جلالة كان زبلها نجسا قبل الاستحالة، فأما بعد الاستحالة التامة بتغير اللون والطعم والريح عما كانت عليه فإنه يحكم بطهارته(20) .
ويرى ابن حزم الظاهرى: أنه نجس، وتجب إزالته عما يصيبه من جسم الإنسان وثيابه ومكانه وكل ما يخصه لأن الله تعالى أمر على لسان رسوله بإزالته(21) .
وقال الإمامية: إن روث الإبل نجس لأن العذرات نجسة(22) .
حكم الدم السائل من الإبل:
اتفقت المذاهب على أن الدم الذى يسيل من الإبل بأن يفارق مكانه نجس كغيره من دماء الحيوانات الأخرى- انظر مصطلح (دم) -
حكم الإبل الميتة:
اتفق فقهاء المذاهب ما عدا الحنفية على أن ميتة الإبل التى تموت بغير تذكية نجسة بجميع أجزائها، أما الحنفية فيرون أن الأجزاء التى فيها دم سائل منها نجسة، لاحتباس الدم النجس فيها وهو الدم المسفوح، وأما الأجزاء التي ليس فيها دم، فإن كانت صلبة كالعظم والسن والخف والصوف والأنفحة الصلبة، فليست بنجسة بلا خلاف بين أصحاب أبى حنيفة، وأما الأنفحة المائعة واللبن فكذلك عند أبى حنيفة وعند الصاحبين نجس.
سؤر الإبل وعرقها:
السؤر هو ما بقى فى الإناء من الماء بعد الشرب منه، والعرق معروف.
ويرى الحنفية أن سؤر الإبل طاهر كسؤر مأكول اللحم من الحيوانات الأخرى إلا الجلالة التى يظهر لها رائحة منتنة إذا قربت، فإن سؤرها مكروه وعرفها نجس، ويرى الشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية والإمامية أن سؤر الإبل وعرقها طاهران(23) .
حكم الوضوء من أكل لحم الإبل:
يرى الحنابلة وابن حزم من الظاهرية أن الوضوء ينتقض بأكل لحم الجزور، أى الإبل، فعلى من أكل منه أن يتوضأ.
ويرى الأحناف والمالكية والزيدية والإمامية والشافعية فى المعول عليه عندهم أنه لا ينتقض الوضوء بأكله، غير أن الأحناف والشافعية نصوا على أنه يندب الوضوء من أكله مراعاة للمذاهب الأخرى(24)
الصلاة بمعاطن الإبل:
الأحناف: نهى النبى - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فى معاطن الإبل بقوله: ( صلوا فى مرابض الغنم ولا تصلوا فى معاطن الإبل) ، والنهى هنا للكراهة، ومعاطن الإبل مباركها(25) .
والشافعية: قالوا تكره الصلاة فى عطن الإبل ولو طاهرا(26) .
وقال المالكية: كرهت الصلاة بمعطن إبل وهو موضع بروكها عند الماء للشرب، وأما موضع مبيتها وقيلولتها فليس بمعطن، فلا تكره الصلاة فيه، وقيل: تكره، فالمعطن محل بروكها مطلقا، ولو أمن النجاسة أو فرش فرشا طاهرا ويعيد صلاته ندبا(27) .
وقال الحنابلة: ولا تصح أيضا تعبدا صلاة فى أعطان الإبل، للحديث السابق، والأعطان ما تقيم فيها الإبل، وتأوى إليها طاهرة كانت أو نجسة فيها إبل حال الصلاة أولا، لعموم الخبر، وأما ما تبيت فيه الإبل فى مسيرها أو تناخ فيه لعلفها أو سقيها لا يمنع من الصلاة فيه لأنه ليس بعطن(28) .
وقال ابن حزم الظاهرى: لا تحل الصلاة فى عطن إبل، وهو الموضع الذى تقف فيه الإبل عند ورودها الماء وتبرك، وفى المراح والمبيت، فإن كان لرأس واحد من الإبل، أو لرأسين فالصلاة فيه جائزة، وإنما تحرم الصلاة إذا كان لثلاثة فصاعدا، فمن صلى فى عطن إبل بطلت صلاته عامدا كان أو جاهلا(29)
وقال الإمامية: تكره الصلاة فى المعطن (بكسر الطاء) واحد المعاطن، وهى مبارك الإبل عند الماء للشرب(30) .
أما الزيدية فلم نعثر على رأى صريح لهم فى هذا الصدد، لكنه ورد بشرح الأزهار حديث رسول الله الذى ينهى فيه عن الصلاة بمعاطن الإبل(31) .
ولمعاطن الإبل أحكام تتعلق بمواضع اتخاذها ومقدارها انظر مصطلح (إحياء- موات) .
زكاة الإبل:
قال الأحناف: ليس فيما دون خمس من الإبل زكاة، وفى الخمس شاة وفى العشر شاتان، وفى خمسة عشر ثلاث شياه، وفى عشرين أربع شياه، وفى خمس وعشرين بنت مخاض، وهى ما تم لها سنة ودخلت فى الثانية من الإبل، وفى ست وثلاثين بنت لبون، وهى التى تمت لها سنتان، ودخلت فى الثالثة، وفى ست وأربعين حقة وهى التى دخلت فى الرابعة، وفى إحدى وستين جذعة وهى التى دخلت فى الخامسة وهى أقصى سن لها مدخل فى الزكاة، والأصل فيه ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتابا إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه، فكتبه أبو بكر لأنس، وكان فيه: وفى أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم، فى كل خمس ذود(32) شاة فإذا كانت خمس وعشرين إلى خمساً وثلاثين ففيها بنت مخاض فإذا كانت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون، فإذا كانت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقه، فإذا كانت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا كانت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا كانت إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين ففيها حقتان، ولا خلاف فى هذه الجملة.
واختلف العلماء فى الزيادة على مائة وعشرين:
فقال الأحناف: إذا زادت الإبل على مائة وعشرين تستأنف الفريضة، ويدار الحساب على الخمسينيات فى النصاب، وعلى الحقاق فى الواجب، لكن بشرط عدد ما قبله من الواجبات والأوقاص(33) بقدر ما يدخل فيه وبيان ذلك إذا زادت الإبل على مائة وعشرين فلا شىء فى الزيادة حتى تبلغ خمسا فيكون حقتان وشاة، وفى العشر شاتان وحقتان، وفى خمسة عشر ثلاث شياه وحقتان، وفى عشرين أربع شياه وحقتان، وفى خمس وعشرين بنت مخاض وحقتان إلى مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق فى كل خمسين حقة، ثم تستأنف الفريضة، فلا شىء فى الزيادة حتى تبلغ خمسا فيكون فيها شاة وثلاث حقاق، وفى العشر شاتان وثلاث حقاق، وفى خمس عشرة ثلاث شياه وثلاث حقاق، وفى عشرين أربع شياه وثلاث حقاق فإذا بلغت مائة وخمسا وسبعين ففيها بنت مخاض وثلاث حقاق، فإذا بلغت مائة وستة وثمانين ففيها بنت لبون وثلاث حقاق، إلى مائة وستة وتسعين ففيها أربع حقاق، إلى مائتين فإن شاء أدى منها أربع حقاق، من كل خمسين حقة، وإن شاء أدى خمس بنت لبون، من كل أربعين بنت لبون، ثم يستأنف الفريضة أبدا، فى كل خمسين كما استؤنفت من مائة وخمسين إلى مائتين، فيدخل فيها بنت مخاض وبنت لبون وحقة مع الشياه(34) واستدل الأحناف بحديث عمرو بن حزم، وفيه: فإذا زادت الإبل عن مائة وعشرين استؤنفت الفريضة، فما كان أقل من خمس وعشرين ففيها الغنم، فى كل خمس ذود شاة، وروى هذا المذهب عن على وابن مسعود، وهذا باب لا يعرف بالاجتهاد، فيدل على سماعهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
والشافعية كالأحناف إلى أن يصير عدد الإبل مائة وعشرين، فإذا زادت الإبل إلى مائة وإحدى وعشرين وجب ثلاث بنات لبون، ثم يستمر ذلك إلى مائة وثلاثين فيتغير الواجب فيها، وفى كل عشر بعدها ففى كل أربعين من الإبل بنت لبون، وفى كل خمسين حقة، ففى مائة وثلاثين بنتا لبون وحقة، وفى مائة وأربعين حقتان وبنت لبون، وفى مائة وخمسين ثلاث حقاق(35) والمالكية قالوا: إذا زادت الإبل عن مائة وعشرين إلى مائة وتسعة وعشرين فلا شىء فى هذه الزيادة، ولكن يخير الساعى إن شاء أخذ حقتين أو ثلاث بنات لبون إن وجد النوعان أو فقدا فإن وجد أحدهما تعين إخراج الزكاة منه، ثم فى عشر بعد المائة والثلاثين يتغير الواجب فيجب فى كل أربعين بنت لبون وفى كل خمسين حقة، ففى مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون، وفى مائة وأربعين حقتان وبنت لبون، وفى مائة وخمسين ثلاث حقاق، وفى مائة وستين أربع بنات لبون. وهكذا(36) .
الحنابلة قالوا: إذا زادت الإبل واحدة عن عشرين ومائة كان فيها ثلاث بنات لبون، وقالوا أنه بالواحدة حصلت الزيادة، ثم تستقر الفريضة ففى كل أربعين بنت لبون وفى كل خمسين حقة، ففى مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون، وفى مائة وأربعين حقتان وبنت لبون وهكذا، إلى مائتين فيخير؛ فله أن يخرج خمس حقاق أو خمس بنات لبون فهم كالشافعية(37) .
أما الزيدية فقد أخذوا فى تفصيلات نصاب الإبل مأخذ الأحناف(38) .
وجرى ابن حزم الظاهرى مجرى الحنابلة فى بيان نصاب الإبل(39) .
وجعل الإمامية نصاب الإبل اثنى عشر نصابا، تبدأ من خمس من الإبل، وتجب فيها شاة، وينتهى الثانى عشر بأنه مائة وإحدى وعشرون من الإبل، وهم ينهجون منهج غيرهم من المذاهب إلا فى ثلاث مسائل:
أ) النصاب الخامس عندهم خمس وعشرون من الإبل، ففيها خمس شياه، بينما هو فى بقية المذاهب مبدأ وجوب الزكاة من الإبل وعدم جواز الأغنام وفيه ابنة مخاض.
ب) جعلوا وجوب ابنة المخاض فى الصدقة يبدأ عندما يتكامل على الإبل ستة وعشرين بينما هو عند سواهم خمسة وعشرين.
ج) فى النصاب الأخير الثانى عشر وهو مائة وإحدى وعشرون، وفيها فى كل خمسين حقة، وفى كل أربعين بنت لبون بمعنى أنه يجوز أن يحسب أربعين أربعين وفى كل منها بنت لبون وخمسين خمسين وفى كل منها حقة ويتخير بينهما إلخ(40) .
الإباضية: وأما نصاب الإبل عندهم فهو على إحدى عشرة درجة. الدرجة الأولى خمس من الإبل ثم زيادة خمس أربع مرات، ثم زيادة عشر مرتين، ثم زيادة خمس عشرة ثلاث مرات، ثم زيادة ثلاثين مرة واحدة. ويعد صغير الإبل وكبيرها ذكرها وأنثاها، والحجة على نصاب الإبل من السنة (ليس فيما دون خمس ذود) صدقة وأما الناقة فهى فرض الإبل إذا بلغت خمسا وعشرين لأنه روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كتب كتابا فى زكاة الإبل ولم نجده بتمامه إلا هنا فنذكره لذلك " بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التى فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين التى أمره الله بها، فمن سألها على وجهها يعطاها، ومن سألها على غير وجهها لا يعطاها ألا فى الأربع والعشرين من الإبل فما دونها، فى كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الفحل، فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين ففيها حقتان، فإذا زادت واحدة على المائة وعشرين ففيها ثلاث بنات لبون، ثم بعد ذلك ففى كل أربعين بنت لبون، وفى كل خمسين حقة"(41)
وقد أجاز الإباضية فيما إذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ابن لبون ذكرا إذا لم تكن بنت مخاض.
أما نصاب زكاة الإبل فى حال الاشتراك بين اثنين فأكثر وهو المعبر عنه فى كتب الفقه (بالخلطة) فهو كغيره، من الشركة فى بقية الأنعام، اختلف فيه الفقهاء (انظر زكاة- زكاة الخلطة) .
الزكاة فى السائمة والمعلوفة من الإبل:
حكم الزكاة فى السائمة والمعلوفة من الإبل وما يتعلق بها من صفات وشروط فيما تجب فيه الزكاة وما يؤخذ (انظر مصطلح زكاة وسائمة) .
أجزاء الإبل فى الهدى:
للفقهاء فى هذا تفصيل "ينظر فيه مصطلح هدى".
أجزاء الإبل فى الأضحية: " انظر أضحية ":
تذكية الإبل:
التذكية شرط لحل الأكل من الحيوان: وهى إما اضطرارية أو اختيارية (انظر مصطلح تذكية) .
وتذكية الإبل عند الأحناف إما بالنحر وهو قطع العروق فى أسفل العنق عند الصدر وإما بالذبح بقطع العروق فى أعلا العنق تحت اللحيين والعروق هى: الحلقوم والمرىء و الودجان(42) .
ويكتفى بقطع ثلاث منها، وندب نحر الإبل لموافقة السنة ولاجتماع العروق فى المنحر، وكره ذبحها لمخالفته للسنة وإن كان ذلك لا يمنع الجواز والحل(43) .
والشافعية قالوا: وما قدر على ذكاته أى ذبحه أو نحره من الحيوان المأكول فذكاته فى حلقه ولبته إجماعا والحلق أعلا العنق واللبة أسفله، ويسن نحر الإبل فى اللبة، والنحر: الطعن بما له حد فى المنحر وهو وهدة فى أعلا الصدر وأصل العنق، ولابد فى النحر من قطع كل الحلقوم والمرىء، ويجوز ذبح الإبل بلا كراهة، وما لم يقدر على ذكاته فذكاته عقره بجرح مزهق للروح فى أى موضع من بدنه(44) .
وقال المالكية: الذكاة فى النحر طعن بلبة، وإن لم يقطع شيئا من الحلقوم والودجين، والذكاة الاضطرارية لا تحل الإبل ولا تجيز أكلها بل لا بد من ذبحها، إذ لا تحل الأنعام الشاردة ولا المشرفة على الهلاك فى حفرة ونحوها- وعجز عن إخراجه- فلا يأكل بالعقر أى بالطعن بحربة مثلا فى غير محل الذكاة، ولا بد من ذكاته بالذبح أو بالنحر إن كان مما ينحر وقال ابن حبيب: يؤكل الحيوان المتردى المعجوز عن ذكاته مطلقا بقرا أو غيره بالعقر صيانة للأموال ووجب نحر إبل ووجب ذبح غيره(45) .
وعند الحنابلة: هى ذبح الحيوان المقدور عليه أو نحره المباح أكله الذى يعيش فى البر، ولابد لصحة الذكاة من قطع الحلقوم والمرىء- وهو تحت الحلقوم- ولا يشترط قطع الودجين- وهما عرقان محيطان بالحلقوم- والأولى قطعهما خروجا من الخلاف، وما عجز عن ذبحه كواقع فى بئر كأن ينفر بعير أو يتردى من علو فلا يقدر المذكى على ذبحه فذكاته بجرحه، فى أى محل كان، فى أى موضع أمكنه جرحه منه ويسن نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى فيطعنها بالحربة فى الوهدة التى بين أصل العنق والصدر(46) .
وقال الإمامية: لا بد من قطع الأعضاء الأربعة المرىء والودجان والحلقوم، ويكفى فى النحر الطعن فى الثغرة ويشترط نحر الإبل وذبح ما عداها فلو ذبح المنحور لم يحل، وما يتعذر ذبحه أو نحره من الحيوان كالمستعصى والمتردى فى بئر يجوز عقره بالسيف وغيره مما يجرح إذا خشى تلفه(47) . وقال ابن حزم الظاهرى كل ما جاز نحره جاز ذبحه، وكل ما جاز ذبحه جاز نحره، الإبل والبقر وسائر ما يؤكل لحمه وما لا يتمكن من ذبحه فذكاته بإماتته حيث أمكن منه من خاصرة، أو عجز أو فخذ أو غير ذلك(48) .
الإبل فى الدية:
للإبل مباحث كثيرة متنوعة يشملها الحديث فى مصطلحى (دية- عاقلة) ، ولكنها فى نطاق علاقتها بالإبل تختص بمقدار الدية فيها وهذا ما نعرض له.
والدية من الإبل عند الحنفية بالنسبة للذكر مائة ثم دية القتل الخطأ من الإبل أخماس بلا خلاف، عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وهذا قول عبد الله بن مسعود رضى الله عنه وقد رفعه إلى النبى عليه الصلاة والسلام. ودية شبه العمد أرباع عند الشيخين خمس وعشرون بنت مخاض وخمس وعشرون بنت لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وهو مذهب عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، وعند محمد أثلاث ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنية إلى بازل، وكلها خلفة وهو ما دخل فى السنة السادسة وهى الحوامل وهو مذهب سيدنا عمر وزيد بن ثابت رض الله عنهما، وعن سيدنا علىَّ رضى الله عنه أنه قال فى شبه العمد أثلاث: ثلاثة وثلاثون حقة وثلاثة وثلاثون جذعة وأربعة وثلاثون خلفة.
دية الأنثى:
ودية المرأة على النصف من دية الرجل. فإنه روى عن سيدنا عمر وسيدنا على وابن مسعود وزيد بن ثابت رضوان الله تعالى عليهم أنهم قالوا فى دية المرأة: أنها(49) على النصف من دية الرجل. ولم ينقل أنه أنكر عليهم أحد فيكون إجماعا.
والشافعية قالوا: الدية الواجبة على ضربين: مغلظة ومخففه. فالمغلظة مائة من الإبل ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وهى الحوامل، وتجب فى القتل العمد سواء وجب فيه قصاص وعفى على مال أو وجب فيه المال(50) ابتداء كقتل الوالد ولده.
والمخففة مائة من الإبل وتجب أخماسا عشرون بنت مخاض وعشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وهى واجبة فى القتل الخطأ(51) .
ودية المرأة على النصف من دية الرجل(52) .
المالكية: والدية من الإبل فى القتل الخطأ مخمسة بنت مخاض وبنت لبون وابن لبون وحقة وجذعة، عشرون من كل نوع من هذه الأنواع الخمسة.
وهى فى العمد مغلظة وتجب فى الحقة والجذعة وبنت اللبون وبنت المخاض من كل نوع من هذه الأنواع خمس وعشرون.
وثلث الدية فيما لو قتل أحد الوالدين ولده فيجب ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وجملة ذلك مائة من الإبل(53) . وللأنثى نصف دية الذكر.
الحنابلة: والدية من الإبل مائة وتجب أرباعا فى القتل عمدا أو شبه عمد خمس وعشرون من كل من بنات المخاض وبنات اللبون والحقة والجذعة، وقيل: هى ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة.
وإن كان خطأ وجبت أخماسا ثمانون من الأربعة المذكورة أولا وعشرون بنو مخاض. ودية نفس المرأة على النصف من دية الرجال(54) (انظر مصطلح دية) .
لقطة الإبل:
الأحناف قالوا: ويجوز الالتقاط فى الشاة والبقر والبعير، وقال الأئمة الثلاثة مالك والشافعى وأحمد إذا وجد البعير والبقر فى الصحراء فالترك أفضل، واستدلوا بأن الأصل فى أخذ مال الغير الحرمة والإباحة مخافة الضياع، وإذا كان معها ما تدفع عن نفسها به كالقرن مع البقر وكالرفس مع الكدم وزيادة القوة فى البعير يقل الضياع ولكن يتوهم فيقضى بكرامة أخذها ويندب إلى تركها.
وقال الأحناف ردا على ذلك: إنها لقطة يتوهم ضياعها فيستحب أخذها وتعريفها صيانة لأمول الناس كما فى الشاة(55) .
وقال الشافعية- أنه يجوز التقاط الحيوان فى المفازة والعمران للتملك والحفظ إلا الحيوان الممتنع من صغار السباع إما بفضل قوة كالإبل والخيل والبغال والحمير، وإما بشدة عدوه كالأرانب والظباء المملوكة، وإما بطيرانه كالحمام فإنه لا يجوز التقاطها للتملك متى كانت فى مفازة آمنة لأنه مصون بالامتناع عن أكثر السباع مستغن بالرعى إلى أن يجده صاحبه لطلبه له، ولأن طروق الناس فيها لا يعم، فمن أخذه للتملك ضمنه، ويبرأ من الضمان برده إلى القاضى لا برده إلى موضعه، هذا إذا أخذها للتملك، أما إذا أراد أخذها للحفظ فيجوز للحاكم ونوابه وللآحاد لئلا يضيع بأخذ خائن، ولو كانت المفازة والصحراء غير آمنة بأن كان زمن نهب فإنه يجوز التقاط الحيوان الممتنع للتملك، لأنه حينئذ يضيع بامتداد اليد الخائنة إليه(56) .
وقال المالكية: اللقطة مال معصوم عرضة للضياع فلا تدخل الإبل فى هذا التعريف لأنها لا يخشى عليها الضياع فإنها تترك سواء وجدها فى الصحراء أو فى العمران ولو بمحل خوف إلا إذا خيف عليها من أخذ الخائن فإنها تؤخذ وتعرف وعدم التقاط الإبل قيل: إن ذلك فى جميع الزمان وهو ظاهر قول مالك وقيل: هو خاص بزمن العدل وصلاح الناس، وأما فى الزمن الذى فسد، فالحكم فيه أن تؤخذ وتعرف فإن لم تعرف بيعت ووقف ثمنها لربها فإذا آيس منه تصدق به كما فعل عثمان لما دخل الفساد على الناس فى زمنه، وقد روى ذلك عن مالك أيضا، ولا يراعى فيها خوف جوع أو عطش أو ضياع(57) .
وقال الحنابلة: والقسم الثانى من أقسام اللقطة وهو الذى لا يجوز التقاطه ولا يملك بتعريفه وهى الضوال التى تمتنع من صغار السباع كالأسد الصغير والذئب وابن آوى وامتناعها إما لكبر حجمها كالإبل ونحوها فيحرم التقاطها، لقول النبى صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل: "مالك ولها، دعها فإن معها حذاءها (أى إخفافها) وسقاءها (أى فمها) ترد الماء، وتكل الشجر حتى يجدها ربها " وتضمن كالغصب ولو كان الملتقط لها الإمام أو نائبه إذا أخذها على سبيل الالتقاط لا على سبيل الحفظ. ولا يرون ضمان ما حرم التقاطه عن ملتقطها إلا بدفعها للإمام أو نائبه، لأن للإمام النظر فى ضوال الناس فيقوم مقام المالك، أو يرد اللقطة المذكورة إلى مكانها بإذن الإمام أو نائبه، ومن كتم شيئا مما لا يجوز التقاطه عن ربه ثم أقربه أو قامت به بينة فتلف لزمه قيمته مرتين، وإذا تبع شىء من الضوال المذكورة دوابه فطرده أو دخل شىء منها داره فأخرجه لم يضمنه فى الصورتين حيث لم يأخذه(58) .
وقال الإمامية: والبعير الضال لا يؤخذ، ولو أخذ ضمنه الآخذ، ويؤخذ لو تركه صاحبه من جهد فى غير كلأ ولا ماء، ويملكه الآخذ(59) .

__________

1) القاموس المحيط مادة (إبل) .
2) سورة الأنعام الآيات 142، 143، 144.
3) سورة المائدة الآية 103.
4) الكشاف ص277.
5) المرجع السابق.
6) ابن كثير ج2 ص107.
7) المرجع السابق .
8) البدائع ج1 ص61، 62.
9) البجرمى ج1 ص296.
10) الدسوقى ج1 ص51.
11) منتهى الإرادات ج1 ص89. كشف القناع ج1 ص139.
12) شرح الأزهار ج1 ص35.
13) المحلى ج1 ص168.
14) المختصر النافع ص255.
15) الوضع ص41.
16) البدائع ج1 ص62.
17) البجرمى ج1 ص296.
18) الدسوقى ج1 ص51.
19) منتهى الإرادات ج1 ص89.
20) شرح الأزهار ج1 ص35.
21) المحلى ج1 ص91، 94.
22) المختصر النافع ص255.
23) للأحناف البدائع ج1 ص64. وللشافعية البجرمى ج1 ص103. وللمالكية الدسوقى ج1 ص34، 35، 44، 50 وللحنابلة منتهى الإرادات ج1 ص90. كشاف القناع ج1 ص139. وللظاهرية المحلى ج1 ص129، 132. وللإمامية الروضة البهية ج1 ص18.
24) للأحناف مراقى القلاع ص50. وللشافعية البجرمى ج1 ص190. وللشافعية البجرمى ج1 ص190، 191. وللمالكية الدسوقى ج1 ص123، 124. وللحنابلة كشاف القناع ج1 ص96، 97. وللظاهرية المحلى ج1 ص241. وللإمامية الروضة البهيى ج1 ص22. وللزيدية البحر الزخار ج1 ص95، 96.
25) البدائع ج1 ص115.
26) البجرمى ج1 ص87.
27) الدسوقى ج1 ص189.
28) منتهى الإرادات ج1 ص146، 147.
29) المحلى ج4 ص24.
30) الروضة البهية ج1 ص65.
31) شرح الأزهار ج1 ص184.
32) الذود يقال للثلاثة من الإبل إلى العشرة، واستعملت هنا فى الواحد: فتح القدير ج1 ص494.
33) الأوقاص جمع وقص وهو ما بين الفريضتين نحو أن تبلغ الإبل خمسا ففيها شاة، ولا شىء فى الزيادة حتى تبلغ عشرا ففيها شاتان، المعجم الوسيط ج2 ص1062، مادة (وقص) .
34) البدائع ج2 ص26، 27. ومثله فى الدرر ج1 ص175، 176. والفتح ج1 ص194. والتنوير والدر وحاشية ابن عابدين ج2 ص18.
35) البجرمى ج2 ص296، 297.
36) الدسوقى ج1 ص422، 434.
37) كشاف القناع ج1 ص426، 437. ومنتهى الإرادات على هامش السابق ص462، 465.
38) شرح الأزهار ج1 ص481، 482.
39) المحلى ج6 ص17، 18.
40) مستمسك العروة الوثقى ج9 ص57، 64.
41) الوضع ص178، 181.
42) الحلقوم مجرى النفس والمرىء مجرى الطعام والشراب. والودجان عرقان حول الحلقوم والمرىء يجرى فيهما الدم.
43) الدرر ج1 ص276، 281. والبدائع ج5 ص40.
44) البجرمى ج4 ص264، 268.
45) الدسوقى ج2 ص99، 114.
46) نيل المآرب شرح دليل الطالب ج2 ص158. 160 ج1 ص113.
47) المختصر النافع ص250، 252.
48) المحلى ج7 ص438، 445، 446.
49) البدائع ج7 ص252، 254.
50) البجرمى ج4 ص122.
51) المرجع السابق ص123، 126.
52) المرجع السابق ص123، 126.
53) الدسوقى ج4 ص266 - 268.
54) المحرر ج2 ص144 -145.
55) فتح القدير ج4 ص428، 429 فى كتاب اللقطة والبدائع ج6 ص200.
56) البجرمى باب اللقطة.
57) الدسوقى ج4 ص117، 122.
58) نيل المآرب فى شرح دليل الطالب ج1 ص178، 179.
59) المختصر النافع ص263.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بث مباشر للمسجد الحرام بمكة المكرمة