للأحكام الفقهية بالمعنى العام الشامل تقسيمات كثيرة تقوم على معانى واعتبارات مختلفة، فهى من ناحية أدلتها ثبوتا ودلالة تنقسم إلى أحكام قطعية وإلى أخرى ظنية. وهى من ناحية المقاصد التى شرعت من أجلها تنقسم إلى أحكام لحفظ الضروريات، وأحكام لصيانة الحاجيات، وأحكام لتحقيق التحسينات، وقد مضى ما يتعلق بهذين التقسيمين.
وقسموا هذه الأحكام إلى أحكام تكليفية، وأحكام تخييرية، وأحكام وضعيه.
فالحكم التكليفى هو اثر خطاب الله تعالى الموجه إلى المكلف بطلب الفعل أو بطلب تركه، وأثر الأول هو الفرض والوجوب والندب، وأثر الثانى هو الحرمة أو الكراهة، أما الخطاب التخييرى فأثره الإباحة.
أما الخطاب الوضعى فهو ما تعلق بالصحة والفساد والبطلان، وبكون الشىء أمارة أو علامة أو شرطا أو سببا أو علة لشىء آخر أو مانعا منه.
وقسموا الأحكام الشرعية أيضا إلى أحكام يمكن للقضاء أن يتدخل للإلزام بها والحكم بموجبها، وأحكام أخرى لا تدخل موضوعاتها تحت القضاء ولا يمكن الإلزام بها وتنفيذ ما تقضى به لاعتبارات مختلفة منها أن لا فائدة للإلتزام فى بعضها، ومنها أن بعضها لا يصح مع الجبر، ومنها أن موضوعات بعضها دقيقة وحساسة، فمن الخير أن يترك فيها لربه ولدينه.
وهذا النوع أحكامه كثيرة جدا ومنثورة فى مختلف أبواب الفقه.
وقسموها أيضا إلى عبادات، وإلى معاملات أو تجارات وإلى ما له شابه بهما وهو ما تعارفنا اليوم على تسميته الأحوال الشخصية.
وإلى دعاوى وبينات وأقضية، وهو ما سماه المرحوم الشيخ محمد زيد الأبيانى بالمرافعات الشرعية، مجاراة لإصلاح المرافعات الوضعية، واشتهرت هذه التسمية فى مصر.
وإلى وثائق أو عقود إستيثاق وإلى جنايات، وإلى وصايا ومواريث.
وهذا التقسيم تقسيم تأليفى جمع فيه النظير إلى نظيره ، كما وضع كل نوع مع ما يناسبه، وللفقهاء فى هذا طرائق مختلفة حتى فى مؤلفات المذهب الواحد، وأن اتفق الكل على وضع العبادات فى الطليعة. ويقسمون المسائل الفقهية إلى قسمين: أصول المسائل، أو مسائل الأصول كما يعبرون أحيانا، والقسم الآخر هو ما عدا هذه المسائل.
ومسائل الأصول أو أصول المسائل تطلق على معان مختلفة، فتطلق تارة على المسائل التى يكون فيها الاستنباط ، أما بيان المراد منها فيما هو منطوق به أو بدلالة معناها والقياسى عليها، فهى الأحكام التشريعية الواردة بالكتاب والسنة، فهى أصل لما تفرع عنها من طريق الاجتهاد. وتطلق تارة أخرى على الأحكام الكلية التى تذكر فى كل كتاب أو باب من أبواب الفقه، فهى أصول لما يتفرع عنها من المسائل ومن هذا المعنى كانت تسمية كتب المجتهدين الأولى كتب أصول، كما كان يطلق على كتاب المبسوط لمحمد بن الحسن كتاب الأصل، وكذلك كان يطلق ذلك على نظيره من مؤلفات سواه، كما يظهر ذلك واضحا من الرجوع إلى الفهرست لابن النديم. وتارة يطلق الأصل على قاعدة عامة لا تختص بباب بعينه وينبنى عليها فى كل باب أحكام تسمى أصولا بالمعنى الثانى، وذلك كقول الكرخى: الأصل أن الإجارة تصح ثم تستند إلى وقت العقد. وكقول الدبوسى: الأصل عند أبى يوسف أنة إذا لم يصح الشىء لم يصح مافى ضمنه وعند أبى حنيفة يجوز أن يثبت ما فى ضمنه وإن لم يصح.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى قسموا هذه المسائل إلى مسائل ظهرت روايتها واشتهرت، ويقابلها المسائل النادرة التى لم تشتهر روايتها، وإلى المسائل القوية وتقابلها المسائل الضعيفة والشاذة، وإلى الراجح والمرجوح، وبينوا ترتيب كل هذه المسائل وما يجب العمل به منها إذا اختلفت.
وقسموا الأحكام الشرعية بالنظر إلى من يضاف إليه الحق الذى تقرره. وقالوا إن من يضاف إليه الحق قد يكون الله وقد يكون العبد. وقالوا إن المراد من حق الله ما يتعلق به النفع العام للعالم فلا يختص به أحد. وإنما كانت نسبته إلى الله للتعظيم فإنه جل شأنه متعال عن أن ينتفع بشىء.
وذلك كحرمة الزنا التى يتعلق بها عموم النفع من سلامة الأنساب وصيانة الفراش وارتفاع السيف بين العشائر بسبب ما يكون من التنازع من أجل الأعراض والتزاحم. وقالوا أن حق العبد ما تتعلق به مصلحة خاصة دنيوية كحرمة المال للمملوك. وقالوا إن من الحقوق ما هو خالص لله وما هو خالص للعبد ومنها ما اجتمع فيه الحقان وحق الله غالب، ومنها ما غلب فيه حق العبد وأن الاستقرار قد دل على أنه لا يوجد ما استوفى فيه الحقان. وبينوا الأحكام التى تندرج فى كل قسم من هذه الأقسام.
هذا هو ما يجرى عليه الأكثرون فى هذا التقسيم وهو يقوم على أن الحقوق فى الواقع لمصلحه العباد، ولكن الشاطبى قد تنبه إلى معنى أدق لما يمكن أن يسمى حكم الله وأفاض فى بيانه ثم خلص إلى قوله أن كل حكم شرعى ليس بخال عن حق الله تعالى وهو جهة التعبد، فان حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وعبادته امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق. وإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردا فليس كذلك بإطلاق بل جاء على تغليب حق العبد فى الأحكام الدنيوية، كما أن كل حكم شرعى فيه حق للعباد إما عاجلا وإما آجلا بناء على أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد.
وما قرره الشاطبى هو ما تناصره أى الكتاب الكريم والسنة النبوية ووضع الشريعة نفسها، ولا سبيل إلى رده بحال. فكل حكم شرعى من أى نوع كان، يقوم على معنيين على السواء، المعنى التعبدى وهو إطاعة الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والمعنى المصلحى للعباد دينا ودنيا، وإن شئت قلت المعنى الروحى والمعنى القانونى، فمن باع بيعا شرعيا أفاد بيعه ما يقتضيه العقد وكان هو مطيعا لله مستحقا لثوابه بامتثال أمره فى بيعه، ومن باع بيعا فاسدا، وتقابض البيعان، ترتب أثره المصلحى أو القانونى وهو إفادة الملك، وذلك هو المعنى القانونى، ولكنه لم يمتثل أمر ربه، فكان عاصيا لم يؤد إليه حقه التعبدى، الحق الروحى.
ومن قتل آخر فقد أرتكب جريمة العدوان على النفس ولها جزاؤها الخاص، وارتكب جريمة أخرى هى عصيانه لربه. وهاتان الجريمتان متمايزتان، وقد تنفصلان كما يتضح ذلك من بعض ما ذكره ابن حزم من الأمثلة. فقد قال: رجل لقى رجلا فقتله على نية الحرابة: أى العدوان ، فإذا بذلك المقتول هو قاتل والد الذى قتله، أو وجد مشركا محاربا، فهذا ليس عليه إثم قاتل مؤمن عمدا، ولا قود عليه ولا دية، لأنه لم يقتل مؤمنا حرام الدم عليه، وإنما عليه إثم مريد قتل المؤمن ولم ينفذ ما أراد، وبين الاثنين بون كبير، لأن أحدهما هام والآخر فاعل.
وكإنسان لقى امرأة ظنها أجنبية فوطئها فإذا هى زوجته، فهذا ليس عليه إثم الزنا، لكن عليه إثم مريد الزنا ولا حد ، ومن قذف حد القذف ولا يقع عليه اسم فاسق بذلك.
إذا وضح هذا المعنى وضح أن الأحكام الشرعية ليست فى هذا كالأحكام الوضعية الجافة التى لا تنطوى على أى معنى روحى، فمن خالف القانون فى أى عقد من العقود طبق على عقده الحكم الملائم لكن القانون لا يغضب لمخالفة أحكامه يكثر من هذا ولا يعتبرها جريمة مستحقة للعقاب.
ومن هذا يظهر أن ما فى الشريعة من المعنى التعبدى الروحى كفيل بتربية الوازع الدينى وهو أعظم حافز على إطاعة القانون، وأن الالتجاء إلى الشريعة فيه أعظم خير للإنسانية ولتنفيذ النظم التى تكفل صلاح أمرها.
خصائص الشريعة الإسلامية:
أما وقد انساق بنا القول إلى هذا المعنى فقد أصبح هذا الموضع خير مكان لبيان مزايا الفقه الإسلامى وتفوقه على الشرائع الوضعية فى حكم الإنسانية وذلك لما يأتى:
أولا: المعنى التعبدى الروحى الذى يلازم كل حكم شرعى ويكفل تربية الضمير الروحى والوازع الدينى وفيهما أعظم كفيل بإطاعة القانون وليس للشرائع الوضعية شىء من ذلك.
ثانيا: أن الأحكام الشرعية أوسع نطاقا من الشرائع الوضعية وبخاصة فيما يرجع إلى الفضائل والرذائل فجميع الفضائل مأمور بها فى الشريعة، فهى واجبة، والرذائل جميعها منهى عنها، فهى محرمة، وفى أحكام كل من النوعين المعنى الخلقى والمعنى التعبدى الروحى فلها قوتها وشمولها بخلاف الشرائع الوضعية فإنها مع جفافها لا تنظر إلى الفضائل والرذائل إلا النظرة المادية المجردة.
ثالثا:أن لكل من الأحكام الشرعية والشرائع الوضعية الجهاز الدنيوى الذى يراقب تنفيذه وهما سواء فى ذلك. وتمتاز الأحكام الشرعية بمراقبة أعلى هى مراقبة العليم الخبير الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور. فمن خالف القانون الوضعى وأفلت من المراقبة فلا عليه بعد ذلك.
أما من خالف الشريعة الإسلامية وأفلت من جهاز المراقبة الدنيوية فإنه لن يفلت من المراقبة العليا وهو ملاق جزاءه لا محالة. وذلك من أعظم مزايا التشريع ومن أقوى العوامل على إطاعته وتنفيذ أحكامه فى السر وفى العلن.
رابعا: أن الفقه الإسلامى بجميع أحكامه قد عاش قرونا متطاولة متلاحقة متتابعة، الأمر الذى لم يظفر به ولا بما يقرب منه أى تشريع فى العالم لا فى القديم ولا فى الحديث. وقد طوف فى الآفاق شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ونزل السهول والجبال والصحارى، ولاقى مختلف العادات والتقاليد، وتقلب فى جميع البيئات وعاصر الرخاء والشدة، والسيادة والاستعباد، والحضارة والتخلف، وواجه الأحداث فى جميع هذه الأطوار فكانت له ثروة فقهية ضخمة لا مثيل لا، وفيها يجد كل بلد أيسر حل لمشاكله، وقد حكمت فى أزهى العصور فما قصرت عن الحاجة، ولا قعدت عن الوفاء بأى مطلب، ولا تخلفت بأهلها فى أى حين. فحرام علينا أن نتسول ونحن الأغنياء، وأن نتطفل على موائد المحدثين ونحن السادة الأكرمون. قاتل الله الاستعمار التشريعى وصنائعه وما يفعلون.
أ) حال الأمة العربية حين البعد:
بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمة العربية أمة بادية، لا تقرا ولا تكتب إلا نادراً ، وفى أطراف الجزيرة، حيث كانت بقايا الحضارة الحميرية، وحيث يكثر الاختلاط بالفرس وبالروم، أما سائر الجزيرة فكان على بداوته،. وما كان بمكة حين البعثة ممن يقرأ ويكتب إلا نفر قليل. وقد حرص - عليه الصلاة والسلام - ، ومن ورائه المسلمون، على تعليم القراءة والكتابة للمسلمين، ولكن هذا لم يكن من شأنه أن ينقل الأمة الإسلامية فى زمن يسير إلى أن تكون أُمة قارئة كاتبة.
كان من الطبيعى- وهذه حال الأمة الإسلامية- أن يكون اعتمادها فيما تتلقى وما تنقل على الحفظ والرواية لا على الكتابة. ومع هذا فقد كان لرسول الله - صلى الله علية وسلم - كتاب يكتبون له الوحى بالقرآن، ويكتبون له كتبه إلى الملوك والرؤساء، كما كتب بعض المسلمين لنفسه ما تلقى من آى الكتاب الكريم.
وبأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب لعمرو بن حزم وغيره كتاب الصدقات، والديات والفرائض والسنن، وكان عند على صحيفة فيها العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر.
وكان عبد الله بن عمرو يكتب كل شىء يسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى حال الرضا وحال الغضب، وأقره عليه - الصلاة والسلام - على هذا وأومأ بإصبعه إلى فيه وقال له: " اكتب، فو الذى نفسى بيده ما يخرج منه إلا حق ".
وقال أبو هريرة: لم يكن أحد من أصحاب محمد أكثر حديثا منى إلا عبد الله ابن عمرو، فإنه كتب ولم أكتب.
ولكن كل هذا لا يمكن أن يعد تدوينا، ولا يرقى عن أن يكون من المسائل الفردية التى قام بها نفر قليل، ولم يكن من قبيل التدوين للناس.
ب) حال التدوين فى القرن الأول:
ومع أن القراءة والكتابة قد انتشرتا بين المسلمين قبل وفاته - عليه الصلاة والسلام - وكان انتشارهما فى زيادة مطردة بعد ذلك، فإنه لم يكن فى عهد أصحابه تدوين بالمعنى الصحيح إلا للكتاب الكريم، فقد جمع مرتبا فى عهد أبى بكر، ووحدت المصاحف واتخذ المصحف الإمام وأُرسل للأمصار فى عهد عثمان.
أما السنة، وأما الأحكام المروية، وأما ما اجتهد فيه الصحابة والتابعون، فإنه لم يدون شىء منها فى القرن الأول، وبقى الاعتماد فيه على الحفظ والتلقى والرواية. وكان لهم أول الأمر فى شأن التدوين نزعتان: فطائفة تكرهه وتعرض عنه، وتروى فى ذلك من السنة ما يؤيدها، وتقول أن من كتب إنما كتب الشىء ليحفظه، حتى إذا حفظه محاه.
وطائفة لا ترى بذلك بأسا ويردون فى قوة ما احتج به الآخرون ويروون فى ذلك سننا وآثارا.
وكانت النزعة الأولى هى السائدة فى القرن الأول، ويرجع ذلك الى الأمور الآتية:
الأول: إن الأمة العربية بفطرتها ونمط الحياة التى كانت تحياها قد مرنت على الحفظ واعتمدت عليه منذ أمد طويل، فلم يكن ثم ما يدعوها إلى أن تتحمل عناء التدوين وأن تعرض عما ألفته.
الثانى: أن العهد قريب، ولأحكام لم يتسع نطاقها، والاختلاف فيها لم يبلغ ما بلغه فيما بعد وفى وسع كل أحد أن يرجع إلى الحفاظ الثقاة، فكانوا لهذا فى غنية عن تدوين الأحكام.
الثالث- إن الحفظ خير من الكتابة فى الاعتماد عليه وفى الضبط والإتقان وإصابة الصواب. فمن عمد إلى التدوين والكتابة أهمل الحفظ وعول على ما كتب، وقد يضيع منه ما كتب لسبب أو آخر، فيفوت عليه ما روى. كما أن الكتاب مما يمكن أن يزاد فيه وينقص، وأن يدخل عليه التغيير والتحريف والتصحيف، أما المحفوظ فلا يمكن أن يطرأ عليه شىء من ذلك.
ومن أجل كل هذا انقضى القرن الأول. لم يقع فيه تدوين بالمعنى الصحيح.
ج) بدء التدوين:
ولما انتشر الإسلام: واتسعت رقعته وتباعدت أطرافها، وكثرت الأمصار، وتفرق فقهاء الصحابة والتابعين فى الأقطار، واتسع نطاق الاجتهاد والاستنباط، وانتشرت الفتاوى وعظم اختلاف الآراء، كما كانت الفتن والأحداث، كان لابد من تدوين السنة والفقه،فأقدم عليه العلماء قياما بحق العلم والدين، وبدأ التدوين بمعناه الصحيح واسترسل وتتابع حتى كان غيثا منهمرا.
ولم تتفق كلمتهم فى أول من بدأ التدوين. وتحديد ذلك تحديدا دقيقا ليس ميسورا، علىأن الفائدة من الاشتغال بتحقيق ذلك ليس فيها جزاء يكافئ ما فيه من العناء.
ومن نظر فى الأقوال المختلفة عرف أن سعد بن إبراهيم قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز (وقد توفى سنة 101 هجرية) بجمع السنن فجمعت دفترا دفترا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترا.
وأن عبد العزيز بن محمد الداروردى المتوفى سنة 186 هجرية قال: أول من دون العلم وكتبه ابن شهاب الزهرى المتوفى سنة 124 هجرية.
وقال أبو الزناد: ما كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب الزهرى يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمنا أنه أعلم الناس.
ودون حماد بن سلمة بالبصرة، ومعمر باليمن، ولما حج المنصور سنة 143 هجرية رغب إلى مالك فى تأليف الموطأ، كما رغب هو وولاته العلماء فى التدوين.
وقد دون ابن جريج، وابن عروبة، وابن عيينة، وا لثورى، وغيرهم، ودون سائر فقهاء الأمصار وأصحابهم.
د- أغراض التدوين:
والفقه، كغيره من العلوم والفنون، كان تدوينه فى العصور المختلفة لتحقيق الأغراض الآتية:
أولا: نقل المحفوظ فى الصدور، وقيده فى الأوراق، ليبقى محفوظا لا يذهب بذهاب أهله، ويكون مجموعا فى الأوراق بدلا من تفرق مسائله لدى الأفراد الذين يكون عند أحدهم ما لا يكون عند الآخرين. وهذا هو الغرض الأساسى لأصل التدوين.
ثانيا: ترتيب هذه المجموعات ترتيبا يجعل مسائلها متآلفة. ويكون منها مؤلفات متناسقة من غير تصرف فى عبارات واضعيها. كما وقع فى ترتيب كتب محمد بن الحسن وغيره من المؤلفين الأولين.
ثالثا: شرح هذه المؤلفات بإيضاح معانيها، وإيراد دلالتها من الكتاب والسنة، وذكر الروايات المختلفة فى المسائل.
رابعا: اختصار المؤلفات المبسوطة، بحذف ما تكرر فيها، وإيراد مسائله بعبارات موجزة جامعة، ليسهل على طلاب الفقه استيعابه فى غير ملل وتقصير.
خامسا: شرح هذه المختصرات شروحا مبسوطة أو متوسطة أو وجيزة على قدر الحاجة، وأخيرا التعليق على هذه المختصرات وشروحها بما يكشف عن غوامضها ويصحح أخطاءها، ويخصص عامها، ويقيد مطلقها، وغير ذلك مما يتعلق بها.
وعرفت هذه التعليقات باسم الحواشى لأنها كانت تكتب فى حواشى أوراق الشروح. ثم وجد أخيرا جدا بجانب الحواشى تقريرات هى تعليق على ما جاء بهذه الحواشى وشروحها.
سادسا: إصلاح المختصرات الأولى بمختصرات أخرى تقضى على ما أخذ على الأولى وتضيف إلى مسائلها ما قصرت فى إيراده أو ما حدث بعدها من المسائل. وكانت لهذه المختصرات شروحها والتعليق عليها، ثم ما اشتق منها من المختصرات.
سابعا: تدوين اختلاف الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقد يكون بإيراد المذاهب والأقوال مجردة أو مع إشارات موجزة للدلائل بدون توسع فيها.
ثامنا: العناية بآيات الأحكام والتأليف فى تفسيرها خاصة، وبيان آراء المجتهدين فيما استنبط منها. وكذلك العناية بأحاديث الأحكام والسير فى شرحها على هذه الشاكلة.
تاسعا:تدوين القواعد الكلية وأصول المسائل التى انبنى عليها التفريع فى المذاهب المختلفة، وكانت متفرقة فى كلام الأئمة المجتهدين، ومنشورة فى مختلف الأبواب.
عاشرا:الجمع بين المسائل المتشابهة مختلفة الأحكام وبيان ما بينها من الفروق التى دعت إلى اختلاف أحكامها. وهذه المؤلفات. هى المسماة يكتب الفروق.
حادى عشر: وحرصا على تثبيت الأحكام الدقيقة فى الأذهان، لم يكتفوا فى هذا بكتب الفروق ووضعوا هذه المسائل على صورة ألغاز، ودونوا فيها كتب الألغاز الفقهية.
ثانى عشر: الانتصار لرأى معين فى مسألة أو مسائل معينة، بتحقيق ما ورد عنها فى كتب مذهب بعينه أو فى الكتاب والسنة والآثار.
وقد كان هذا قديما فيما كان يسمى بالردود، كرد محمد على أهل المدينة، ورد الشافعى على محمد بن الحسن، ولكن هذا أخيرا كان فى رسائل، تعالج الرسالة منها مسألة حصل اختلاف بشأنها فى الإفتاء أو القضاء، أو اعتراض على رأى ذهب إليه مؤلف، وقد تكونت من هذه الرسائل على مر العصور مجموعات قيمة.
ثالث عشر: تدوين فتاوى مفت معين أو مفتين فى إقليم خاص. وكانت هذه الفتاوى أولا تشتمل على شىء من استنباط الأحكام ممن هم أهل لذلك من مجتهدى المذاهب، أو من أهل التخريج، وأصحاب الوجوه، أو تشتمل على ترجيح قول على آخر ممن هم أهل للترجيح، فكانت تجمع إلى الاجتهاد فى التطبيق اجتهادا أو تخريجا أو ترجيحا، وهذه هى التى كانت تعرف قديما بكتب الواقعات.
ولكن هذا النوع من فتاوى المتأخرين كان تطبيقا للأحكام فى الحوادث، ولم تشتمل على غير ذلك جهرة ، وإن لم تخل منه فى الواقع باسم الأخذ بما تقتضيه أقوال الفقهاء وما تدل عليه عبارات المؤلفات المعتبرة.
رابع عشر: وفى عصرنا وجد غرض آخر حمل على التأليف فى الفقه بعد ركوده ركودا تاما هو تيسير الأحكام الفقهية على من يتلقونه فى المدارس العليا ثم بالجامعات المصرية، الذين يصعب عليهم الرجوع إلى المؤلفات الفقهية التى دونها السابقون، فألفت لهم المؤلفات- سهلة العبارة واضحة المعانى- الملائمة لحياتهم العلمية.
خامس عشر: ولما أنشئت مدرسة القضاء الشرعى كان فى منهجها الدراسى دراسة بعض القضايا ذات المبادىء، واستمر ذلك فى تخصص القضاء بها وبكلية الشريعة وفى قسم إجازة القضاء بكلية الشريعة.
وهى دراسة تقوم على نقد الأحكام والتمهيد لذلك بإيراد الأحكام الفقهية والقانونية المتصلة بما فصل فيه الحكم. وهذا لون من التأليف الفقهى لم يكن موجودا من قبل إلا فى كتب المحاضر والسجلات التى أهملت من زمن بعيد.
وقد عنى بعض القضاه بجمع أحكامهم التى يرون أنها أحكام ذات قيمة قضائية. هذه هى الأغراض التى حملت من قبل على التأليف الفقهى وهى وما يماثلها من الأغراض هى التى ينبغى أن تحمل علية، أما إذا لم يأت التأليف بفائدة زائدة على ما جاء فى التأليفات السابقة، ولم يكن إلا نقل ما فيها " قص ولصق "، كما قال بعض أساتذة القانون، كان إراقة للمداد وإتلافا للأوراق، كما قال الفقيه ابن عرفة المالكى.
الهاء) طرائق التدوين:
تبينت، من الأغراض التى حملت وتحمل على تدوين الفقه والتأليف فيه، كثيرا من طرائقه فى العصور المختلفة، وننبه هنا على الطرائق التى كان عليها تدوين الفقه فى بدايته.
فقد دون أول ما دون مختلطا بالسنة وآثار الصحابة والتابعين، كما صنع ابن شهاب الزهرى فى كتبه، وأبو يوسف فى كتاب الآثار، ومحمد بن الحسن فى كتاب الآثار، ومالك فى الموطأ، وسفيان الثورى فى الجامع الكبير، والشافعى فى كتاب اختلاف الحديث، والطحاوى فى معانى الآثار، وفى مشكل الآثار.
وقد وجد بجانب ذلك تلوين الفقه مجردا عن ذلك لا على أنه حديث أو أثر ولا على أنه حجة ودليل، كالكتب والسنة المروية عن محمد بن الحسن، والمدونة التى رواها سحنون عن ابن القاسم، ومختصرات الطحاوى والمزنى وأمثالهما.
كما وجد بجانب ذلك نوع ثالث هو تدوين مسائل الفقه مع أدلتها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وسائر وجوه المعانى، كما تجد ذلك فى كتاب المبسوط " الأم " الذى رواه الربيع المؤذن عن الشافعى.
وقد وجدت هذه الأنواع الثلاثة من البداية، ثم انفصل كل من علم الحديث والفقه، فعنيت مؤلفات الأول بالصحيح من الحديث وروايته بأسانيده وطرقه المختلفة، وما فيها من زيادة ونقص، أو اختلاف عبارة، أكثر من عنايتها بما يدل عليه الحديث من الأحكام. أما الأخرى فإن عنايتها متجهة إلى الأحكام، وإنما يذكر الحديث للاستدلال.
فلا يصدق من يقول أن تدوين الحدث تأخر عن تدوين الفقه ليمهد لإفكه ومطاعنه المفتراه.
و) الوثوق بالمؤلفات:
كانت نشأة المسلمين الأولين نشأة تلق ورواية وحفظ، لهذا كانت عنايتهم بالرواية عظيمة فى كل شىء: فى الكتاب الكريم وطريقة أدائه، وفى الحديث والفقه، وفى الشعر والأدب وسائر الفنون.
وإنك لتجد هذا واضحا فى المؤلفات الأولى، فليس من الغريب إذن أنه تلقى رواية الكتب الفقهية حظها العظيم عند الأولين.
فكان لكل فقيه سنده فيما تلقى من الكتب الفقهية حتى يصل به إلى مؤلفيها أنفسهم، ورواية الكتب الفقهية لها فوق ما تثبته من صدور الكتاب عمن نسب إليه، مزية الوصول إلى ما أراده المؤلف من عباراته، ووصول الكتاب إلى من يتلقاه سليما من الزيادة والنقص، وتحريف النساخ وتصحيفهم، وقد تشدد الأولون فى أمر هذه الرواية حتى أن سائلا سأل القاضى بكارا أن يرد على ما جاء بمختصر المزنى مخالفا لمذهب العراقيين، فقال إننى لم أسمع هذا المختصر لا منه ولا ممن رواه عنه، فلا يحل لى أن أرد عليه، ولما عاد إليه وقد رواه عنه رواية موثوقا بها لديه، قال الآن حل لى أن أقول قال المزنى.
ورواية الكتب وما اشتملت عليه من المسائل مختلفة كرواية غيرها، ولذلك كانت الرواية المشهورة تكسب المروى قوه على ما كانت روايته نادرة أو رواية غير معول عليها ولذا ترى الحنفية يقدمون ما فى كتب ظاهر الرواية، كتب محمد الستة، على ما
يخالفه مما جاء فى كتب النوادر، لأن رواية الأولى رواية مشتهرة دون رواية الثانية.
ويقدم المالكية ما روى عن مالك فى مدونة سحنون على ما روى عنه فى غيرها.
ويقدم الشافعية ما روى عنه فى مبسوط الربيع المؤذن "الأم " على ما رواه الزعفرانى عنه.. لهذا السبب نفسه.
ولما تطاول الزمن قلت العناية بالرواية.، ووجد لون منها غريب عجيب، وهو أجازه الراوى بما رواه لآخر من غير أن يكون قد تلقاه منه، ثم توسعوا فى هذه الإجازة التى ليس منها فائدة أصلا، وكانت الإجازة بالمراسلة بين من لم يلتقيا أصلا، وكان هذا فى الفقه كما كان فى السنة نفسها.
وقد بين ابن حزم فساد هذه الإجازات وبطلانها مستندا إلى أمتن الحجج.
وبعد أمد آخر تحللوا من الرواية ومزاياها وقالوا إن نقل الأحكام إما أن يكون بالرواية، أو بالأخذ من الكتب المعروفة التى تداولتها الأيدى وكانت من التصانيف المشهورة لأنها بمنزلة الخبر المتواتر والمشهور.
ثم جاء من لم يلتزم ذلك أيضا وقال لا تشترط الشهرة ولا التواتر، وتكفى غلب الظن يكون ذلك الكتاب هو المسمى بهذا الاسم، بأن وجد العلماء ينقلون عنه، ورأى ما نقلوه عنه موجودا فيه، أو وجد منه أكثر من نسخة، فإنه يغلب على الظن أنه هو، وإلا لزم أنه لا يجوز النقل عن الكتب المطولة المشهورة أسماؤها ولكن لم تتداولها الأيدى حتى صارت بمنزلة الخبر المتواتر أو المشهور لكونها لا توجد إلا فى بعض المدارس أو عند بعض الناس، وفى هذا ضياع لكثير من المؤلفات المعتبرة.
وكلا الرأيين عجيب فان الرواية ليست إلا لإثبات نسبة الكتاب لصاحبه أولا ثم لإثبات أنه هو كما صدر عنه، لا نقض فيه ولا زيادة، ولا تصحيف ولا تحريف، ولا تغيير على أى وضع. وإذا كان للتداول فائدة فى المعنى الأول فإنه لا يغنى فيما عداه شيئا، أما غلبة الظن هذه فإنها لا تنفع فى شىء.
ولقد فتح هذا التهاون بابا واسعا من الشر حتى حمل التلمسانى والمقرى من فقهاء المالكية على القول باب كثرة التأليف قد أفسدت الفقه، لأن الرواية قد تركت وانقطعت سلسلة الاتصال، فكثر التصحيف، ونقلت الأحكام من كتب لا يدرى ما زيد فيها وما نقص، وقد كان أهل المائة السادسة وصدر من السابعة لا يجوزون الفتيا من كتاب التبصرة للخمى لأنها لم تصحح على مؤلفها ولم تؤخذ عنه وأكثر الناس اليوم لا يسيرون على هذا النمط: ولهذا كان التأليف سببا لفساد الفقه.
وإذا كانت الحملة على نفس التأليف قاسية، فإن ما قيل فى شأن المؤلفات غير المروية هو الحق عين الحق. وقد أصبحنا اليوم فى وضع لا يمكن تداركه إلا بالعناية بالمؤلفات ومراجعتها وتحقيقها تحقيقا تاما بالقد ر المستطاع، حتى يؤدى إحياؤها على هذا الوجه قسطا مما كانت تؤديه الرواية. ولقد عمت المصيبة اليوم فى ديارنا بأن تصدى لنشر بعض المبسوطات من لا صلة لهم بالفقه أصلا، ولا هم لهم إلا الربح التجارى ، فجمعت من أغاليط الطبع وتحريفاته، فوق ما كان فيها من تحريف الناسخين، ما لا يحصى ولا يعد.
وفى الرجوع إلى مبسوط السرخسى ومدونة سحنون ومقدمات ابن رشد، ما يغنى عن الإفاضة.
إن أول واجب دينى على العامة والرياسات الدينية فى الأقطار الإسلامية أن يقوموا بإحياء هذه المؤلفات على الود الذى ذكرت، وإن هم لم يقوموا بهذا فلا أقل من أن يقوموا بواجب الرقابة نحو ما ينشر من هذه المؤلفات.
والثقة بالكتاب الفقهى لا تقف عند الحاجة إلى الرواية أو ما يؤدى وظيفتها أو قريبا منها، بل هى فى حاجة ملحة إلى قدرة المؤلف وكفايته.
ولقد كان العهد بالمؤلفين الأولين فى الفقه ألا يقدموا على التأليف إلا بعد النضج التام، وبعد أن تكون لهم فى الفقه مكانة مرموقة، وكانوا لا يتعجلون فى إخراج ما شرعوا فيه إلا بعد تنقيح وتمحيص وبذل أقصى المجهود والعناية، مهما كلفهم ذلك من العناء وأبطأ بهم.
وإذا كان ما قيل عن الأزمنة التى ألف فيها أمثال " الهداية " من كتب الحنفية، و " مختصر خليل " من كتب المالكية...
تشتم منه رائحة المبالغة، فإن دلالته على العناية وبذل المجهود فى التنقيح لا يمكن إنكاره، وإذا كانت أمثال هذه المؤلفات لم تسلم من المآخذ فإنها جاءت من المؤلفات الفقهية الممتازة.
ولكن العهد قد تغير، ولم يحجم عن التأليف فى الفقه الطالب حين طلبه، والمتفقه قبل نضجه، ومن لا يحسن شيئا سوى الجمع والنقل على غير هدى، ولذلك اتفقت كلمة الفقهاء على تقسيم المؤلفات إلى مؤلفات معتبرة يصح الاعتماد عليها والأخذ عنها، وإلى كتب ضعيفة لا يصح التعويل عليها لأن مؤلفيها من الضعفاء الذين ينقلون الغث والثمين، ولا يميزون بين الصحيح وغير الصحيح، وهم فيما يؤلفون كحاطب ليل، وذكروا من هذا القبيل عددا كثيرا... وإنا لنرى حقا واجبا للفقه على الرياسات الدينية أن تقوم نحو التأليف الفقهى بواجب الرقابة التامة التى تعلن للناس فيما ينشر عنها، ما يكون من الأخطاء فيما يظهر من مؤلفات.
ومما يذهب بالثقة بالمؤلف الفقهى المبالغة فى الاختصار الذى يؤدى إلى تغيير الأحكام وإيرادها على غير وجهها الصحيح، وإنك لتجد هذا فى كثير من الكتب المعروفة اليوم.
وقد اتفقت كلمة المتأخرين على أنه لا يصح الاعتماد على التقييدات وما يكتب بحواشى النسخ، التى لا يعرف من أين أخذت، ولا من أى مرجع نقلت، ومثال هذا ما ينقل على أنه فقه، ويقول ناقله إننى ظفرت بنقله، ولكن شذ عنى موضعه أو يقول وجدت بخط شيخنا فلان كذا، فكل هذا لا يصح الاعتماد عليه ولا يعتبر من الفقه.
كما اتفقت كلمتهم على أنه لا يعول فى نسبة حكم إلى مذهب من المذاهب الفقهية على نقله فى كتب مذهب آخر.
وإنهم لعلى الحق المبين فى هذا فالهداية مع أحكامها، ومع أن مؤلفها جليل القدر، قد وقع فيها ما يكفى للاقتناع بهذا. ولكن إذا كانت الكتب من كتب اختلاف الفقهاء، لا يمكن أن تعتبر كتب مذهب خاص، ولا أن يقال فيها مثل هذا القول، وإن كان مؤلفها من أتباع مذهب بعينه.
ز) لغة التدوين وطريقته:
لغة تدوين الفقه هى اللغة العربية الفصحى، وكان المؤلفون الأولون ممن عرفوا بالفصاحة والبلاغة، أمثال محمد بن الحسن، والشافعى، وإذا كان ما بين أيدينا اليوم من مؤلفاتهم يشوبه شىء، فليس منشؤه إلا ما أصابها من التحريف وما وقع من السقط.
ولما كثر الاختلاط وتطاول الأمد، ونشأ اللحن، كان لهذا أثره فى اللغة التى دون بها الفقه فيما بعد، التى ظهرت عليها مسحة من مسحات العجمة، وقد أدى هذا- وما لعلم الفقه من طبيعته الخاصة- إلى أن كان له أسلوب معين، وإن كانت به عبارات لا تتفق مع قواعد اللغة.
ومن الناس من حاول التكلف لتصحيحها ولكنه ركب شططا، أما من أنصفوا فأراحوا أنفسهم وقرروا أنها من العبارات الخاصة بالفقهاء.
وفى الأزمنة الأخيرة عرف يجانب التأليف بالعربية التأليف باللغات الأخرى ،كما يعرف من الرجوع إلى الفتاوى القاعدية ومعروضات المفتى أبى السعود وأمثالهما. والمؤلفات الفقهية الأولى كانت سهلة سلسلة العبارة، سواء فى ذلك كتب الأصول أو شروحها والمختصرات. وكان الشرح مبسوطا موسعا، وكان شرحا بالقول، يبدأ بالعبارة المشروحة يتلوها الشرح متصلا بها، فتبدو عباراته متسقة كأنها عبارات كتاب واحد مستقل، وكان يطلق على هذه الشروح أسماء الكتب المشروحة. فيقولون مثلا " الجامع الصغير، للصدر الشهيد " و " الجامع الكبير، لقاضيخان "، ولا يعنون بهذا إلا شروحهم لهذه الكتب. وكان من جمال هذه الشروح فوق هذا أن تشرح الكتب التى تحتاج إلى عناية " كالجامع الكبير " لمحمد بن الحسن، بأن تبدأ بذكر الأصول التى تنبني عليها، بأن تبدأ بالذى تشرحه وتتبعها بذكر كل مسألة مع بيان ابتنائها على هذه الأصول كما صنع كل من قاضيحان والحصيرى فى شرح " الجامع الكبير " لمحمد بن الحسن.
أما المتأخرون فمنهم من ألح عليهم حب الإيجاز وبالغوا فيه حتى خفيت معانى مختصراتهم وكاد بعضها يشبه الشفرة كمختصر خليل بن إسحاق المالكى. وقد عمد بعضهم إلى التعقيد فيما يأتى به من التعريفات حتى لا تكاد تفهم، كتعريفات ابن عرفة المشهورة.
أما شروحهم فأعرضت عن طريقة الشرح بالقول التى كان يجرى عليها المتقدمون وجعلوا عبارات المختصرات، المتون، تتخلل كلام الشروح مكتوبة بالحمرة وكلام الشارح مكتوبا بالسواد، ثم حلت الأقواس البوم محل الحمرة، وأصبح المداد فى الكتب المطبوعة كله واحدا. وهذه الطريقة فى الشرح تشوش الأفهام وتقطع أوصال الكلام، وقد زادها تشويشا عدم العناية بالحمرة والسواد فى الكتب المنسوخة، وبوضع الأقواس فى الكتب المطبوعة.
أما الحواشى فى الكتب المطبوعة فقد وضعت فى صلب الكتاب لطولها ووضعت الشروح بالحواشى.
ومن عنوا فى مؤلفاتهم من المتأخرين بذكر الخلاف المذهبى والأقوال والوجوه فى المذهب الواحد كانت لهم اصطلاحات أملاها حب الاختصار، كتخصيص جمل معينة بآراء كل فقيه، كما فعل ابن الساعاتى فى مجمع البحرين، أو بتخصيص كلمة (كلديه. وعنده. ورأيه) لكل فقيه، كما فعل الإسفرايينى فى الينابيع، أو بالرقم بالحروف فوق الكلمات إشارة للفقهاء كما صنع الغزالى فى الوجوه والمذاهب، وهذا النوع الأخير من الرموز ليس مأمون العاقبة ولا يمكن الاعتماد عليه.
وكذلك عمد كثير من المتأخرين إلى الرمز للكتب التى ينقلون عنها بحروف مركبة كما فى " قنية الزاهدى " و " جامع الفصول " وكثيرا ما يقع فيها التحريف والخلط ويضيع المقصود منها.
وإذا كان الأصل فى تدوين الكتب الفقهية هو النثر، فإنها نالت حظها من النظم فى كل المذاهب وفى أكثر العصور. ومن النظم الفقهى ما هو سلس مقبول ظاهر المعنى، ومنه ما هو غث ثقيل مملوء بالضرورات ه ولا يكاد يبين.
وقد عرفنا تقسيم الفقه إلى أنواع كالعبادات، والمعاملات إلخ... والكتب الفقهية ليست متفقة فى ترتيب هذه الأنواع إلا فى البدء بالعبادات وتختلف فيما وراء ذلك، وليس هذا خاصا بكتب المذاهب المختلفة، بل هو واقع فى كتب المذهب الواحد، لكل فريق ملحظه ومناسباته التى ارتضاها وكثيرا ما يكررونها فى أوائل كل كتاب أو باب.
ح) السرقات الفقهية:
من حق العلم والأمانة على كل مؤلف أن ينسب الرأى أو الفكرة إلى من أبداها، بهذا تقضى الفطرة السليمة كما تقضى به بداهة العقل، وهو ما يحترمه الناس فى جميع العصور وفى جميع الأقطار.
ولكن الفقه، كغيره، كانت فيه سرقات لبعض الآراء التى لم تنسب إلى أهلها، كما وقع من ابن هارون وابن عبد السلام فى شرحيهما لمختصر ابن الحاجب، فقد سرقا كلام ابن رشد ونسباه إلى أنفسهما، وقد أعلن هذا فى مواجهتهما ابن الحباب فلم يستطيعا أن يردا عليه.
والفقه قد وقعت فيه سرقات لا تعرت فى غيره، وهى سرقات كتب برمتها، فهذا رجل اسمه علاء الدين على بن خليل الطرابلسى الحنفى قاضى القدس المتوفى سنة 844 هجرية ، سرق تبصرة ابن فرحون المتوفى سنة 799 هجرية برمتها مع تغيير يسير فى بعض العبارات القليلة ونسبها إلى نفسه وسماها معين الحكام، ويظهر أن الذى جرأه على ذلك أن العهد قريب لم يسمح بانتشار التبصرة انتشارا يحول دون هذه السرقة التى لا تغتفر، لما فيها من جناية الكذب وانتحال ما للغير، وما هو أعظم من ذلك نحو الفقه، وهو أنه دس على الحنفية كتابا أكثر أحكامه لا تتفق مع ما فى مذهبهم، وكان من العجب أن ينقل عن هذا الكتاب بعض مؤلفى الحنفية.
وإذا اطلعت على شرح الرملى لمنهاج النووى وشرحه لابن حجر الهيتمى المكى وجدتهما متطابقين فى العبارات إلا فى النزر اليسير، ومن المحال أن يكون هذا من توافق الخواطر، لكن من هو السارق ومن هو المسروق منه؟ العلم عند الله.
أما شرح شمس الدين بن قدامة لمتن المقنع فهو صورة طبق الأصل من المغنى لعمه موفق الدين بن قدامة الذى شرح به مختصر الخرقى. ولست أدرى لم كلف ناشر الكتابين نفسه وطبعهما مع بعضهما، وهل فاته هذا؟ وكيف يفوته مع أن الأمر أوضح من الشمس الطالعة.
ومن السرقات الخفية أن يجد المرء فى البحث والتنقيب والجمع ثم يؤلف ويرشد إلى المراجع التى أخذ منها فيأتى الأخر فيأخذ ثمرة مجهوده دون أن يشير إليه بكلمة ويعزوها إلى مراجعها التى عزا إليها الباحث المطلع الحقيقى، وقد يكون هذا السارق المدلس لم ير هذه المراجع أصلا. وقد نقل مؤلف من كتاب مستشرق لم يذكره بتاتا وذكر المراجع التى ذكرها ومنها مخطوطات فى بلد أجنبى لم يدخله مؤلفنا فى حياته كما أن المخطوط لم يخرج من بلده، وهذه السرقة قد حملت بعض المؤلفين من الباحثين أن يغفلوا المراجع التى أخذوا عنها هربا من هؤلاء السراق المدلسين.
وللسرقات الفقهية ضروب أخرى لا حاجة بنا إلى الإطالة بذكرها.
ط) التدوين الجماعى:
تدوين المؤلفات الكثيرة التى توالى ظهورها على مر القرون المتطاولة كانت مجهود الأفراد، ويستوى فى ذلك المبسوطات والمختصرات وما بينهما، والكتب الخاصة بمذهب من المذاهب الفقهية وكتب اختلاف الفقهاء، ولا يعرف أن جماعة أوأكثر من واحد اشتركوا فى تأليف كتاب أو جمع مجموعة فقهية إلا فى أحوال نادرة جدا لا تكاد تستحق الذكر بإزاء هذا العمر المديد الذى عاشه الفقه الإسلامى وهو عمر بلغ أربعة عشر قرنا إلا يسيرا. والذى نعرفه من ذلك هو ما يأتى:
أ) الكتاب المعروف بالفتاوى الهندية أو العالمكيريه، وهو مجموعة الأحكام الفقهية فى مذهب أبى حنيفة، قام بجمعها جماعة من علماء الهند المشهورين يرأسهم المولى الشيخ نظام، وقد قاموا بهذا العمل بأمر من سلطان الهند أبو المظفر محى الدين محمد أورنك زيب بهادر عالم كيرشاه، الذى بذل لهم كل معونة تكفل لهم رواتبهم وتفتح لهم أبواب خزائن كتبه وبلغ ما أنفق فى هذا السبيل 200 ألف روبية، قاموا بهذا الجمع ليكون ميسورا على الناس أن يقفوا على الروايات والأقوال الصحيحة وما تجرى عليه الفتوى من أحكام هذا المذهب، وهى مجموعة ضخمة تقع فى ستة أجزاء كبار مطبوعة
وقد التزم ناقلوها إسناد كل حكم نقلوه إلى الكتاب الذى أخذ منه ولما يتصرفوا فى عبارات الفقهاء كما ختموا هذه المجموعة بكتاب المحاضر والسجلات وكتاب الشروط، وهما كتابان لا يوجدان إلا فى المبسوطات. وأحكام هذه المجموعة مجردة عن الدلائل غالبا وإن ذكر شىء منها كان يسيرا جدا.
ب) مجلة الأحكام العدلية، وهى كتاب فقهى وضع فى أحكام المعاملات ولم يتناول أحكام النكاح والطلاق والنسب والولاية على النفس والمال ولا أحكام الوصايا والمواريث، وصيغت أحكامها فى مواد على غرار مواد القوانين الوضعية، وقد بلغت ثلاثا وخمسين وأربعمائة وألف مادة تقع فى ستة عشر كتابا. وقد وضعت المجلة لجنة علمية ألفت بديوان العدلية بالآستانة يرأسها ناظر هذا الديوان أحمد جودت باشا.
وكان السبب فى وضعها أن الدولة العثمانية أنشأت محاكم تجارية وضع لها قانون خاص كالقوانين التجارية الأوروبية، وهى تحيل على القوانين المدنية فى بلا دها ولا سبيل إلى ذلك فى الدولة العلية، فالإحالة فيها تكون على مما يقابل القوانين المدنية وهو الأحكام الشرعية. كما أنه أنشئت بالدولة العثمانية محكمة للتمييز، ورجال كل من المحاكم التجارية ومحكمة التمييز لا يسهل عليهم معرفة الأحكام الشرعية من مراجعها فتيسيرا عليه وضعت هذه المجلة. وقد ألزمت الجمعية العلمية الأخذ بالأقوال الراجحة والمفتى بها من مذهب أبى حنيفة عدا بعض مسائل قليلة أخذت فيها بما ليس راجحا فى هذا المذهب الذى لم تخرج المجلة عن أحكامه كما بدأت كل كتاب بالقواعد والضوابط الملائمة، وأكثرها مأخوذ من كتاب " الأشباه والنظائر " لابن نجيم وكل ذلك مفصل بالتقرير الذى رفعة رئيس الجمعية العلمية إلى محمد أمين غالى باشا الصدر الأعظم فى غرة المحرم سنة 1286 هجرية.
وفى شرح يوسف آصاف آخر الكتاب السادس عشر أن تاريخ الإرادة السنية 26 من شعبان سنة 1293 هجرية.
ج) الأحكام التى تخيرتها لجنة بوزارة العدل المصرية وصدر بها القانون رقم 25 لسنة 1920م والقانون رقم 25 لسنة 1929 م وهى أحكام تخيرت من المذاهب الأربعة فى بعض مسائل الأحوال الشخصية.
والأحكام التى تخيرتها لجنة الأحوال الشخصية بمصر من المذاهب الأربعة ومذاهب الصحابة والتابعين ومذهب الطبرى ومذهب ابن حزم ومذهب الزيدية ، وأخذت فيها بمبدأ التلفيق، ووضعتها فى مواد صدر بها قانون المواريث رقم 77 لسنة 1943م وقانون الوقف رقم 48 لسنة 1946م وقانون الوصية رقم 71 لسنة 1946م.
هذا هو كل ما نعرفه حتى الآن عن التدوين الجماعى للفقه وهو يختلف عما يراد بالموسوعة التى يراد بها أن تكون جامعة لكل المذاهب الفقهية الباقية، وأن تكون مرتبة على حر وف المعجم فلا يكون تدوينها بطريقة صياغة المواد القانونية إذ أنها لا توضع للإلزام التشريعى.
ى) حاجة الفقه:
الفقه الإسلامى غنى بثروته الضخمة وما حواه من الأقوال والآراء وأعظم المبادىء، وهو فى الوقت نفسه غنى عن شهادة هؤلاء المحدثين الذين بدأوا ينزلون عن شىء من عصبيتهم وغرورهم وكبريائهم، ويشهدون له من أطراف أنوفهم، وأخذنا نطير فرحا بهذا ونتغنى به، هو غنى عن كل هذا، فهو من صنع العليم الخبير وما استنبط من صنعه، وقد شهد له من قبل تاريخه الطويل والحضارات الاجتماعية المتعاقبة، أيام أن كان أسلاف هؤلاء الشهداء يضربون فى الجمالات وينشرون الجور والظلم، وما هداهم الطريق السوى إلا ما وصل إليهم من شعاع المدنية الإسلامية، فما كان لهؤلاء أن يشهدوا ما كان لنا أن نعتز بما شهدوا.
حقا أن الفقه الإسلامى فى أشد الحاجة إلى شيئين:
أن تراثنا من المؤلفات الفقهية قد سلب وهلك الكثير منه- إن لم نقل الأكثر- لعوامل وأسباب كثيرة، والبقية الباقية منه إما حبيسة مكدسة فى أقبية المكتبات بالآستانة أو غيرها أو شبه معتقلة بدور الكتب الأخرى مع أن فيها من المبسوطات والمختصرات ما له أرفع القيمة وعظيم النفع، وإما متداولة منشورة النشر التجارى وبالطريقة الأولى التى تخلق الصعوبات لأهل هذا الفقه وغيرهم البعيدة عما وصل إليه العالم من طرق التحقيق والنشر. فالفقه أحوج ما يكون إلى بعث المقبور، ومسايرة أحدث أساليب النشر ليصبح الفقه الإسلامى ميسورا يسهل الوصول أليه لكل من يبتغيه.
تفرق المسلمون شيعا وأحزابا بسبب الحكم والإمامة والسياسة وأورثهم هذا التنازع الضعف والوهن والفشل والخذلان وتسلط أعدائهم عليهم وعلى ديارهم وأخذهم بنواصيهم ، فأماتوا فيهم أحكام ربهم وفرضوا عليهم شرائعهم التى لا تلائم فطرتهم ولا تقاليدهم. وفتنوا من فتنوا من أبنائهم فكانوا أولياءهم وأشد منهم حمية فى تعطيل أحكام الله وحدوده، فحق على المسلمين أن يفيقوا من غشيتهم، وأن يعتصموا بحبل الله جميعا وألا يتفرقوا ، وأن يميتوا أسباب خلاف قد انقضىعهده وأن يواجهوا عدوهم بوحدة الكلمة والعودة إلى سيرة السلف الصالح، وحق عليهم أن يعملوا على اجتماع كبار الفقهاء من جميع الأقطار وأئمة المذاهب الإسلامية للتقصى والباحث والتشاور وإعادة سنة الخلفاء الراشدين فى ذلك، ليواجهوا المحدثات من الواقعات والنوازل فيستنبطوا لها أحكامها مما أنزل الله وسنن رسوله واهتدى إليه أئمة الدين، وليتخيروا من كل هذا أصول المسائل والقواعد الكلية التى تكون مصدرا أساسيا لأى تشريع يصدر فى بلد إسلامى، ليعملوا جاهدين على إحياء تراثنا الفقهى المهدد من جميع نواحيه، وليراقبوا التأليف الفقهى المعاصر لينقضوه النقد العلمى الأمين، وليدفعوا بكل ما فيهم من قوة عن الفقه الإسلامى الهجوم الظالم المتواصل الذى أولع به الآخرون، وأن يقوموا بكل ما فيه خير هذا الفقه.
هذا هو ما يحتاج إليه الفقه الإسلامى، وهذا ما يحس به المسلمون فى جميع الأقطار وكان ولا يزال موضع الأحاديث، غير أن لكل من شئونه ما يفتنه ويغويه، أو ما يشغله ويلهيه، أو ما يخيفه ويثنيه. لذا كانت الأعمال قليلة والجهود ضئيلة منثورة. فقد قامت بحيدر أباد الدكن جمعية أحياء المعارف النعمانية ونشرت سلسلة من مؤلفات محمد بن الحسن والصدر الشهيد والسرخسى.
وقام بعض العلماء والموسرين من أهل نجد والحجاز بإحياء طائفة قيمة من المؤلفات الفقهية فى مذهب أحمد.
ونشر بعض اليمنيين شيئا من مؤلفات الفقه الزيدى، كما نشر المرحوم الشيخ محمد بن يوسف أطفيش شرحه لكتاب النيل فى فقه الإباضية.
أما جامعة القاهرة فكان حظها من ذلك أنها عنيت بإحياء كتاب الأصل محمد بن الحسن، وعهدت بذلك إلى الدكتور شفيق شحاته أستاذ القانون المدنى بكلية الحقوق التابعة لها، وعهدت إليه وحده بذلك فأخرج قسما مشتملا على البيع والسلم يقول أنه حققه وعلق عليه. هذا هو ما كان وكفى.
ك) موسوعة دمشق:
فى يونية سنة 1951 م عقدت شعبة الحقوق الشرقية من " المجمع الدولى للحقوق المقارنة" مؤتمرها الثانى فى كلية الحقوق بجامعة باريس للبحوث فى الفقه واطلع المؤتمرون على بحوث الفقهاء فى خمسة موضوعات فقهية كان المجمع قد عينها، وقد قرر المؤتمرون أنهم استخلصوا من هذه البحوث وما جرى حولها أمرين بينوهما وأعلنوا أملهم فى أن تؤلف لجنة لوضع معجم للفقه الإسلامى يسهل الرجوع إلى مؤلفات هذا الفقه فيكون موسوعة فقهية تعرض فيها المعلومات الحقوقية الإسلامية وفقا للأساليب الحديثة.
ومضت الأيام ولم ينشط أحد للعمل على تحقيق هذا الأمل حتى أسست كلية الشريعة بجامعة دمشق سنة 1955م فأقدمت على تحمل هذا العبء وألفت لجنة تقوم بوضع الموسوعة الفقهية، وعملت حتى صدر المرسوم الجمهورى السورى رقم 1711 فى 3 مايو سنة 1956م الذى ينص على أن تصدر كلية الشريعة الإسلامية بالجامعة السورية موسوعة(دائرة معارف) غايتها صياغة مباحث الفقه الإسلامى بمختلف مذاهبه وإفراغها فى مصنف جامع مرتب على غرار الموسوعات القانونية الحديثة بحيث يعرض مواد الفقه الإسلامى عرضا علميا حديثا ويسهل الرجوع إلى نصوصه فى كل موضوع للإفادة منها إلى أبعد حد، ويرشد الباحثين إلى مصادر هذا الفقه. وبين هذا المرسوم الأحكام المرتبطة بهذا الموضوع كما أقر تأليف لجنة للموسوعة.
وبعد الوحدة السورية المصرية صدر القرار الجمهورى رقم 1536 لسنة 1959 م الذى نصت المادة الأولى منه على تعديل الماد الثالثة من المرسوم سالف الذكر.
وقد سار العمل هناك بقدر ما تعين عليه السعة المالية.
12- المجلس الأعلى للشئون الإسلامية:
وخلال سنة 1960م كانت اتصالات عديدة بين رجال الموسوعة بدمشق وبين السيد وزير الأوقاف وأعوانه انتهت بنتائج حسنة بفضل النوايا الطيبة من الجانبين.
وتحقيقا لأهداف الثورة البناءة، واقتداء بتوجيهات زعيمها، وفق الله وزير الأوقاف - يومئذ- أحسن توفيق، فأنشأ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بلجانه الكثيرة التى تسد الكثير من النقص وتعمل على نصرة الإسلام من النواحى المختلفة، ومن لجان هذا المجلس لجنة لموسوعة الفقه الإسلامى بينت أهدافها وجميع ما يتعلق بها فى المواد (29-33) من القرار الوزارى رقم 1 لسنة 1961م.
وأعيد تشكيل اللجنة بالقرار الوزارى رقم 24 لسنة 1961 بتاريخ 18 يناير سنة 1961م من السوريين والمصريين.
ومنذ البداية صدر القرار الوزارى رقم 33 لسنة 1961م بتسمية الموسوعة التى تقوم اللجنة بوضعها " موسوعة جمال عبد الناصر فى الفقه الإسلامى " للمعانى القيمة التى أفصحت عنها المذكرة الإيضاحية لهذا القرار.
وقد سارت اللجنة بجد وإخلاص ورغبة صادقة، وكان من خطتها فى هذا العمل:
أ) أن تكون الموسوعة مدونة ترتب موادها ترتيب حروف المعجم، مراعى فى ذلك أول الكلمة والحروف التالية لها كما ينطق بها من غير نظر إلى أصلها.
ب) أن تكون أسماء أبواب الفقه مواد مستقلة - مصطلحات - توضع فى ترتيبها الهجائى، أما ما عدا ذلك فيتبع بشأنه ما تقرره لجنة المراجعة ثم اللجنة العامة.
ج) أن تكون الموسوعة جامعة لأحكام المذاهب الفقهية الثمانية التى ذكرت فيما سلف وجمع ما فى كل منها من الأقوال إلا الأقوال الشاذة ساقطة الفكرة.
د) أن يكون إيراد أدلة الأحكام فى الاعتدال وبمقدار ما تستبين به وجهة النظر.
الهاء) أن تتناول الموسوعة مسائل أصول الفقه والقواعد الفقهية لارتباطها الوثيق بالأحكام الفقهية.
و) أن وظيفة الموسوعة ليست الموازنة بين الشرائع ولا بين المذاهب الفقهية ولا ترجيح بعض الأقوال على بعض ولا نشر البحوث والآراء ، وإنما وظيفتها جمع الأحكام الفقهية وترتيبها ونقلها فى دقة وأمانة بعبارات سهلة تساير أحوالنا من المراجع الفقهية التى تلقاها الناس بالقبول حتى نهاية القرن الثالث عشر الهجرى، وذلك دون تفرقة بين احول به وغير المعمول به الآن، أما ما عدا ذلك مما ليس من وظيفتها الأصلية فيكون له ملحق خاص.
وإنا نسأله جلت قدرته أن يوفق العاملين فى هذه الموسوعة ويسدد خطاهم ويقيهم أسباب الفشل وشرور أنفسهم ليجاهدوا فى الله حق جهاده.
قال فى المصباح المنير: أبد الشىء من بابى ضرب وقتل نفر وتوحش فهو آبد على وزن فاعل.. وكذا قال فى لسان العرب: أبدت البهيمة توحشت.. وهذا المعنى هو ما صرح به ابن الأثير فى الجزء الأول من كتاب النهاية فى غريب الحديث.
والفقهاء يعبرون عن معنى الآبد بعبارات مختلفة ، كالمتوحش والناد.
أما حكمه فى التذكية فإنه يكفى عقره عند العجز عن الذبح فيما يذبح أو النحر فيما ينحر على تفصيل فى ذلك: انظر مصطلح (تذكية).
1- التعريف بالآبق، والفرق بينه وبين الضال:
الآبق فى اللغة من حصل منه الإباق، والإباق هو الهرب سواء كان الهارب عبدا أم حرا فقد قال تعالى:(وإن يونس لمن المرسلين. إذ أبق إلى الفلك المشحون) (1) أما فى الاصطلاح فكما يلى:
الحنفية:
يعرفه الحنفية بأنه انطلاق العبد تمردا والتمرد هو الخروج عن الطاعة وهذا يشمل ما إذا كان هروب العبد من سيده أو مستأجره أو مستعيره أو مودعه أو الوصى على من كان صغيرا وآل إليه العبد (2) فالآبق إذا هو الذى انطلق تمردا على من ذكروا. أما الضال فهو الذى ضل الطريق إلى منزل سيده أو غيره ممن ذكروا بلا قصد(3).. ويتحقق التمرد بأن يكون الانطلاق من العبد لغير ظلم ممن هو فى يده كما بين ذلك صاحب الجوهرة شرح القدورى نقلا عن الثعالبى (4).
المالكية:
يعرف المالكية الآبق بأنه من ذهب مختفيا بلا سبب وفرقوا بينه وبين الهارب بأن الهارب من ذهب مختفيا لسبب ولكن قد قال الدسوقي فى حاشيته على الشرح الكبير للدردير (5). بعد أن ذكر المعنى السابق ولعل هذا فرق بحسب الأصل وإلا فالعرف الآن أن من ذهب مطلقا أى لسبب أو غيره يقال له آبق وهارب. وقد بين الصاوى فى حاشيته على الشرح الصغير للدردير أن الآبق غير الضال فقد قال به عند تعليقه على عبارة الشرح الصغير فيما يتعلق بجعل من عادته رد الآبقين وأنه له جعل مثله إن اعتاده أى كمان عادته الإتيان بهم أو غيرهم فقد
قال الصاوى هنا " أو غيرها كالإتيان بالضوال " (6) فالضال إذن غير الآبق بناء على هذا.
الشافعية:
أما الشافعية فقد بينوا الفرق بين الآبق والضال فعرفوا الآبق بأنه من كان ذهابه من غير خوف ولا كد فى العمل فقد قال صاحب المغنى شرح المنهاج: " الضال لا يقع إلا على الحيوان إنسانا أو غيره، أما الآبق فقال الثعالبى: لا يقال للعبد آبق إلا إذا كان ذهابه من غير خوف ولا كد فى العمل وإلا فهو هارب، قال الأزرعى: لكن الفقهاء يطلقونه عليهما " (7).
الحنابلة:
الحنابلة جعلوا الآبق هو الهارب من سيده فقد قال فى كشاف القناع: يقال أبق العبد إذا هرب من سيده. ثم قال: وقال الثعالبى فى سر اللغة لا يقال للعبد آبق إلا إذا كان ذهابه من غير خوف ولا كد فى العمل وإلا فهو هارب (8) ولم يعقب صاحب كشاف القناع على كلام الثعالبى كما فعل الشافعية على ما تقدم ويظهر من هذا أن الآبق عنده هو الهارب مطلقا ولم يبين تعريف الضال.
الظاهرية:
يرى من صنيع ابن حزم الظاهرى فى كتابه المحلى ما يدل على أن الآبق غير الضال فقد قال فى المحلى كتاب اللقطة والضالة "وهى تشمل العبد الضال والآبق " ثم سرد الحكم فيها وجعل كل هذه الأصناف سواء فى الحكم من حيث أخذها والتعريف بها وإعطائها لصاحبها.. الخ ما ذكره. ولكنه لم يبين معنى الضال ولا معنى الآبق اعتمادا على اختلافهما فى اللغة على نحو ما روى عن الثعالبى وهو ما ذكرناه فيما تقدم قريبا عند الكلام عن مذهب الشافعية فى ذلك (9).
الشيعة والزيدية:
لم نعثر على نص صريح فى التفرقة بين الضال والآبق عندهم من حيث التعريف بهما.
الإباضية:
قد ذهب الإباضية إلى أن الآبق هو الهارب دون أن يقيدوا الهرب بأنه من غير خوف ولا كد فى العمل كما ذكر الثعالبى وسار عليه الحنابلة وغيرهم على ما تقدم فقد جاء فى النيل " وأبق بهمزة مفتوحة تليها باء مكسورة وهو الإنسان المملوك الهارب فى إباقته بكسر الهمزة " (10).
__________
(1) الآيتان: 139، 140 سورة الصافات
(2) المر المختار حاشية ابن عابدين " رد المختار عليه" ج 3 ص 355- 356 طبعة دار الكتب العربية.
(3) حاشية ابن عابدين على الدر المختار ج 3 ص 355 الطبعة السابقة.
(4) ج 1 ص 466.
(5) ج 4 ص 127طبعة دار إحياء الكتب العربية.
(6) ج 2 ص 257 طبعة المطبعة الخيرية.
(7) ج 2 ص 13 طبعة مصطفى الحلبى.
(8) كشاف القناع ج 2 ص420 المطبعة العامرية الشرقية سنه 1319.
(9) المحلى ج 8 ص 257 طبعة إدارة الطباعة المنيرية.
(10) النيل ج 4 ص 73.
الحنفية:
يرى الحنفية أن السن التى يعتبر فيها العبد آبقا هى السن التى يعقل فيها الإباق فقد قال فى الأنقروية نقلا عن مختصر التتارخانية " قال محمد فى الأصل: والحكم فى رد الصغير كالحكم فى الكبير إن رده من دون مسافة السفر، فله الرضخ وهو عطاء قليل غير مقدر وفى الكبير أكثر مما يردخ فى الصغير إن كان الكبير أشد مؤنة.
قالوا: وما ذكر فى الجواب فى الصغير محمول على صغير يعقل الإباق ، أما من لا يعقله فهو ضال وراد الضال لا يستحق الجعل " (1) وقد صاحب الكافى وشارحه السرخسى فى المبسوط ذلك بأن يكون قد قارب الحلم ، فقد جاء فى المبسوط: " وإذا أبقت الأمة ولها صبى رضيع فردها رجل فله جعل واحد لأن الإباق من الرضيع لا يتحقق ثم قال: وإن كان ابنها غلاما قد قارب الحلم فله جعلان ثمانون درهما لأن الإباق تحقق منهما (2) وقد علل الكمال ابن الهمام وجوب الجعل على من قارب الحلم فقال فى فتح القدير:" لأن من لم يراهق لم يعتبر آبقا " (3) ولكن ابن عابدين قال نقلا عن النهر أن قوله أى فى المبسوط قد قارب الحلم غير قيد لقول شارح الوهبانية:" اتفق الأصحاب ان الصغير الذى يجب الجعل برده فى قول محمد هو الذى يعقل الإباق وحاصله أنه لا يشترط كونه مراهقا فى وجوب الجعل برده سواء كان مع أحد أبويه أو وحده بل الشرط أن يعقل الإباق " (4).
المالكية:
يرى المالكية أن الآبق من كبيرا فقد قال الدسوقى فى حاشيته: على الشرح الكبير للدردير عند تعريف الدردير اللقطة بأنها مال معصوم: المال المعصوم يشمل الرقيق الكبير والاصطلاح أنه آبق لا لقطة:" نعم الرقيق الصغير لقطة " ولكنه لم يذكر حد الكبر " (5).
الشافعية:
لم نعثر فيما قرأنا من كتب للشافعية على نص يدل على السن التى يعتبر فيها العبد آبقا ، غير أنه جاء فى كتاب المنهاج ما قد يؤخذ منه هذا فإنه قد جاء فيه فى باب اللقطة ويجوز أن يلتقط عبدا غير مميز وعند هذه العبارة قال صاحب المغنى ولا يجوز التقاط المميز فى الأمن: " لا فى مفازة ولا غيرها لأنه يستدل فيه على سيده فيصل إليه " ومقتضى هذا أن المميز الذى يراد التقاطه يكون ضالا. وإذا اعتبر التمييز أولى.
الحنابلة:
لتحق الضلال فإنه يعتبر للإباق من باب لم نعثر فيما لدينا من كتبهم على سن محددة للآبق بحيث لو لم يبلغها يكون ضالا ولا يكون آبقا ولكن يمكن أن يؤخذ من جعلهم الآبق الهارب - أن السن فى الإباق هى التى يمكن معها الهرب وهى على الأقل سن التمييز فغير المميز ضال وليس بآبق وقد ذكرنا سابقا ما جاء فى كشاف القناع يقال أبق العبد إذا هربت من سيده (6).
الزيدية:
يرى الزيدية أن الإباق الذى يعتبر إباقا شرعا يرد به العبد المبيع إنما يكون إذا كان كبيرا قال صاحب البحر الزخار:" ولو أبق صغيرا ثم أبق عند المشترى كبيرا لم يرد ".
ثم نسب إلى الإمام حد الكبر.. فقال: " وحده أى حد الكبر البلوغ وقيل المراهقة قلنا البلوغ أضبط وأقيس (7) وعدم الرد إلا إذا أبق كبيرا عند المشترى يدل على أن الإباق فى الصغر عند البائع ليس عيبا فليس إباقا شرعا.
الظاهرية:
لم نعثر على سن يكون به العبد آبقا عندهم والذى يظهر أنهم لما اعتمدوا على اللغة فى الفرق بين الضال والآبق يكونون قد اعتبروا أن الإباق ملحوظ فيه الهرب عن الكد والإيذاء، ولا يكون هذا إلا من مميز فيكون التميز هو مناط الإباق.
الشيعة الإمامية:
لم نعثر على نص صريح عندهم بخصوص السن التى يكون بها الإباق، ولكنا وجدنا من النصوص ما يؤخذ منه أن الآبق يلزم أن يكون مميزا، فقد جاء فى كتاب شرائع الإسلام بصدد تقسيمه للملقوط بأنه إنسان أو حيوان أو غيره " اللقيط: وهو كل صبى ضائع لا كافل له ولا ريب فى تعلق الحكم بالتقاط الطفل (8) غير المميز وسقوطه فى طرف البالغ العاقل وفى الطفل المميز تردد أشبهه جواز التقاطه لصغره وعجزه عن دفع ضرورته " ثم قال فى شأن من التقط " ولو التقط مملوكا ذكرا و أنثى لزمه حفظه وإيصاله إلى صاحبه ولو أبق منه أو ضاع من غير تفريط لم يضمن ولو كان بتفريط ضمن ". فهذا النص يؤخذ منه أن اللقيط إذا أبق من آخذه لا يكون ضامنا واللقيط هو الصغير الذى لم يبلغ على ما ذكره هو فى أول كلامه والمعقول أن الهروب لا يكون من الصغير إلا إذا كان مميزا يعقل الهرب وليس بلازم أن يكون قد بلغ سن المراهقة فغير المميز ضال وليس بهارب.
الإباضية:
لم نعثر على نص عندهم فى هذا ولكنهم لما جعلوا الأبق هو الهارب كما تقدم فإنه يمكن أن يقال إن الآبق عندهم إنما يكون آبقا إذا كان ممن يتأتى منه الهرب وهذا إنما يتصور فى سن التمييز.
__________
(1) ج 1 ص 199 ، المطبعة الأميرية.
(2) ج 11 ص 24 ، طبعة الساسى.
(3) ج 4 ص 439 ، المطبعة الأميرية.
(4) رد المحتار ج 4 ص 358 ، دار الكتب العربية الكبرى.
(5) حاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج 4 ص 117 طبعة دار إحياء الكتب العربية.
(6) كشاف القناع ج 2 ص 420 المطبعة العامرية الشرقية 1319.
(7) البحر الزخار ج 2 ص 257 طبعة 1949.
(8) شرائع الإسلام ج 2 ص 173 طبعة دار مكتبة الحياة سنة 1930.
الحنفية:
إذا نظرنا إلى الحكم بمعنى الصفة الشرعية فإن أخذ واجده له أفضل من تركه إن كان يقدر على حفظه حتى يرد إلى مولاه وإن كان يعلم من نفسه العجز عن ذلك والضعف فلا، وذلك لأن الآبق هالك فى حق الموالى فيكون الرد إحياء له، ولكن ابن الهمام اختار أن يكون فيه التفصيل الذى فى اللقطة فقال: ويمكن أن يجرى فيه التفصيل الذى فى اللقطة بين أن يغلب على ظنه تلفه على المولى إن لم يأخذه مع قدرة تامة عليه فيجب أخذه وإلا فلا، وذلك بخلاف الضال وهو الذى لم. يهتد إلى طريق منزله فقد قيل أخذة فضل لما فيه من إحياء النفوس والتعاون على البر، وقيل تركه أفضل لأنه لا يبرح مكانه منتظرا لمولاه حتى يجده وقد جعل ابن الهمام هذا الحلاف فى الضال إذا لم يعلم واجد الضال مولاه ولا مكانه فقال: "ثم لا شك أن محل هذا الخلاف إذا لم يعلم وأجد الضال مولاه ولا مكانه أما إذا علمه فلا ينبغى أن يختلف فى أفضلية أخذه ورده (1) وإذا أخذه وجب عليه فى اختيار شمس الأئمة السرخسى أن يأتى به إلى السلطان أو القاضى فيحبسه منعا له عن الإباق لأنه لا يستطيع هو أن يحفظه أما شمس الأئمة الحلوانى فإنه يختار أن الآخذ بالخيار أن شاء حفظه بنفسه إن كان يقدر على ذلك وإن شاء دفعه إلى الأمام (2). أما الحكم بمعنى الأثر المترتب على الأخذ فان الآخذ للآبق إن كان قد أشهد عند أخذه أنه أخذه ليرده تكون يده عليه يد أمانة فلا يضمن إلا بالتعدى فإذا هلك أو أبق لا يضمن وكذا إذا حبسه عن صاحبه بعد أن وصل إليه رادا له حتى يستوفى الجعل فأبق أو هلك ولكنه فى هذه الحال لا جعل له (3) ، أما إذا لم يشهد يكون قد أخذه لنفسه، وأخذ ملك الغير بدون إذنه غصب ، فيكون ضامنا له إذا هلك أو أبق كذا يضمنه إذا استعمله فى الطريق فى حاجة نفسه ثم ابق منه ولا جعل له فى هذه الحال (4).
المالكية:
أما حكمه بمعنى الصفة الشرعية فإنه يندب لمن وجد آبقا وعرف ربه أن يأخذه له لأنه من باب حفظ الأموال إذا لم يخش ضياعه فإن خشى ضياعه وجب عليه أن يأخذه لسيده حتى وإن علم الواجد خيانة نفسه، وعليه أن يترك الخيانة اللهم إذا خاف على نفسه ضررا من السلطان إذا أخذه ليخبر صاحبه به فإن خاف على نفسه هذا حر م عليه أن يأخذه وإذا كان لا يعرف ربه يكره له أخذه لاحتياجه إلى الإنشاد والتعريف فيخشى أن يصل إلى علم السلطان فيأخذه وإذا أخذه وهو لا يعرف صاحبه رفعه إلى الأمام لرجاء من يطلبه منه(5) وأما حكمه بمعنى الأثر المترتب عليه فإن يده عليه يد أمانة لا يضمن إلا بالتقصير فى حفظه أو التعدى ولذا إذا أبق من عنده بعد أخذه أو أنه مات عنده أو تلف فلا ضمان عليه لربه إذا حضر حيث لم يفرط لأنه أمين ولا يمين عليه، أما إذا فرط كما لو أرسله فى حاجة يأبق فى مثلها فأبق فإنه يضمن (6) ، وكذلك يضمنه الملتقط إن أرسله(أى أطلقه) بعد أخذه ولو كان ذلك لخوف من شدة النفقة عليه أى يضمن قيمته يوم الإرسال لربه إذا إن كان هلك وسواء فى ذلك ما إذا كان قد أرسله قبل مضى السنة التى يجب عليه تعريفه فيها أو بعده إلا أن يكون قد أرسله لخوف منه أن يقتله أو يؤذيه فى نفسه أو ماله أو لخوف من السلطان بسبب أخذه أن يقتله أو يأخذ ماله أو يضربه ولو كان الضرب ضعيفا لذى مروءة بملأ، والظاهر أن عدم الضمان إذا أرسله لخوف منه محله إذا لم يكن رفعه للأمام وإلا رفعه ولا يرسله فإن أرسله مع إمكان رفعه ضمن ومحله أيضا إذا كان لا يمكنه التحفظ منه بحيلة أو بحارس ولو بأجرة وإلا فلا يرسله ارتكابا لأخف الضررين، والظاهر رجوعه بأجرة الحارس كما يرجع بالنفقة لأنها من متعلقات حفظه (7).
الشافعية:
جاء فى كلام الشافعية ما يدل على أن حكم الأخذ بمعنى الصفة الشرعية غير جائز بدون رضا المالك فقد جاء فى المنهاج وشرحه المغنى " وإن عمل بلا إذن كأن عمل قبل النداء فلا شىء له، لأنه عمل متبرعا وإن كان معروفا برد الضوال. ودخل العبد - مثلا- فى ضمانه كما جزم الماوردى (8) ".
وجاء فيه أيضا وألحق الأئمة بقول الأجنبى: من رد عبد زيد فله على كذا " قوله: فله كذا، وإن لم يقل على لأن ظاهره التزام، فإن قيل: لا يجوز لأحد بهذا القول وضع يده على الأبق بل يضمن ، فكيف يستحق الأجرة؟ أجيب بأنه لا حاجة إلى الإذن فى ذلك لأن المالك راض به قطعا، أو بأن صورة ذلك أن يأذن المالك لمن شاء فى الرد (9) 0 "، فهذان النصان يدلان على أنه لا يجوز أخذ الآبق بدون إذن صاحبه: كأن ينادى بجعل لمن يرد آبقه أما قبل الإذن فلا يصح التقاطه، وقد جعلوا نداء الأجنبى كإذن المالك، لأن المالك يرضى بالرد والجعل قطعا. وأما حكمه بمعنى الأثر المترتب على الأخذ- فهو أن من أخذه بدون رضا المالك بصورة ما يكون ضامنا له، لأنه فى حكم الغاصب حينئذ، أما إذا أخذه بعد إذنه فإنه يكون أمينا لا يضمن إلا بالتقصير أو التعدى، فقد جاء فى المغنى " يد العامل على ما يقع فى يده (والآبق داخل فى ذلك) إلى أن يرده يد أمانة فإن خلاه بتفريط ضمن لتقصيره(10) ".
الحنابلة:
يرى الحنابلة أن حكم أخذ الآبق - بمعنى صفته الشرعية- جائز فقد جاء فى كشاف القناع " وليس لواجده بيعه ولا تملكه بعد تعريفه، لأن العبد يتحفظ بنفسه فهو(أى الآبق) كضوال الإبل، لكن جاز التقاطه لأنه لا يؤمن لحاقه بدار الحرب (11) " والذى يدل على أن المراد بالعبد فى عبارة كشاف القناع هو الآبق- كما فسرته- ما جاء فى المغنى لابن قدامة: " ويجوز أخذ الآبق لمن وجده.. ثم علل ذلك بقوله: وذلك لأن العبد لا يؤمن لحاقه بدار الحرب وارتداده واشتغاله بالفساد، بخلاف الضوال التى تحتفظ بنفسها (12) ولم يستدل من كتب المذهب على المراد بالجواز عندهم: هل هو الاستحباب أو الإباحة؟ ولعله الإباحة لأنهم قابلوه بما لا يجوز أخذة، وهو الضوال التى تحتفظ بنفسها، لاختلافه عنها بأنه يخشى لحاقه بدار الحرب أو اشتغاله بالفساد.
أما حكم الأخذ بمعنى الأثر المترتب عليه - فهو أن الآبق أمانة: لا يضمن أخذه إلا بالتقصير أو التعدى. فقد جاء فى المغنى لابن قدامة فإن أخذه فهو أمانة فى يده إن تلف بغير تفريط فلا ضمان عليه وإن وجد صاحبه دفعه إليه إذا أقام البينة أو اعترف العبد أنه سيجده، وإن لم يجد سيده دفعه للأمام أو نائبه فيحفظه لصاحبه ثم قال: وليس لملتقطه بيعه و لا تملكه بعد تعريفه لأن العبد يحتفظ بنفسه(أى لا يتلف) فهو كضوال الإبل (13) ".
الزيدية:
يرى الزيدية أن ضبط العبد الآبق من حيث الحكم بمعنى الصفة الشرعية مستحب فقد جاء فى حواشى شرح الأزهار " والعبد الآبق كالضالة، فيستحب ضبطه وينفق عليه من كسبه إن كان، وإلا فكالضالة (14) ".
أما حكمه بمعنى الأثر المترتب على أخذه فإن يد آخذه يد أمانة فلا يضمن إلا بالتقصير أو التعدى فقد جاء فى البحر الزخار فى كتاب الضالة " ولا يضمن الملتقط إجماعا إلا لتفريط أو جناية إذ هو أمين حيث لم يأخذ لغرض نفسه فإن جنى أو فرط فالأكثر يضمن (15) ".
وقوله هنا فى هذا النص: حيث لم يأخذ لغرض نفسه يريد منه إذا لم يأخذ للتملك لأنه قد قال فى الضالة وإن أخذها ليملك فهو غاصب، وقوله الأكثر يريد منه العترة والأئمة الأربعة والآبق كالضالة من حيث جواز الالتقاط فيأخذ حكمها من حيث ضمان الأخذ وعدم ضمانه. وكذلك يضمن إذا أخذها بنية الرد ، ولكنه أعادها إلى حيث كانت فقد جاء فى البحر الزخار " ومن أخذ لمجرد نية الرد لم يضمن ما تلف، فإن ردها إلى حيث كانت ضمن للتفريط (16).
الظاهرية:
يرى ابن حزم الظاهرى أن حكم أخذ الآبق من حيث صفته الشرعية أنه فرض، فقد جاء فى كتابه المحلى (والإباق من العبيد والإماء، وما أضل صاحبه منها، والغنم التى تكون ضوال بحيث لا يخاف عليها الذئب ولا إنسان وغير ذلك كله ففرض أخذه وضمه وتعريفه أبدا، فإن يئس من معرفة صاحبها أدخلها الحاكم أو واجدها فى جميع مصالح المسلمين (17). ثم استدل على أخذ الإباق والضوال من الحيوان والضال من العبيد بقوله، (18) وبقى حكم الحيوان كله حاشا ما ذكرنا (19) موقوفا على قوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى (20) ،، ومن البر والتقوى إحراز مال المسلم أو الذمى وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" فلا يحل لأحد مال أحد إلا ما أحله الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أما حكم أخذ الأبق من حيت الأثر المترتب عليه فإنه يجب على من أخذه أن يعرفه أبدا فإن يئس من معرفة صاحبه أدخلها الحاكم أو الواجد فى جميع مصالح المسلمين ولا يملكه الواحد أبدا وقد ظهر لك هذا من النقل الذى نقلناه عن المحلى فى أول الكلام عن هذا الموضوع ولكنه يجب عليه قبل التعريف أن يشهد عند أخذه كما يظهر ذلك من قوله: من وجد مالا فى قرية أو مدينة أو صحراء فى أرض العجم أو أرض العرب العنوة أو الصلح مدفونا أو غير مدفون، إلا أن عليه علامة أنه ضرب مدة الإسلام أو وجد مالا قد سقط أى مال كان فهو لقطة وفرض عليه أخذة وأن يشهد عليه عدلا واحدا فأكثر ثم يعرفه ولا يأتى بعلامته وتعريفه هو أن يقول فى المجامع التى يرجو وجود صاحبها فيها أو لا يرجو: من ضاع له مال فليخبر بعلامته هذا كله إذا لم يعرف صاحبها أما إذا عرف فيقول ابن حز م الظاهرى فيه: وأما ما عرف ربه فليس ضالة لأنها لم تضل جملة بل هى معروفة وإنما الضالة ما ضلت جملة فلم يعرف صاحبها أ ين هى ولا عرف أتجدها لمن هى وهى التى أمر عليه السلام أتنشدها (21).
ومقتضى هذا النص أنه لا يجب عليه نشدها أى التعريف ولكن يجب عليه أخذها ليردها إلى صاحبها من حيث ذكر فى الآبق وا لضال سابقا وجوب أخذه ونشده إلى أن ييأس من معرفة صاحبه، فإذا انتفى منا وجوب نشده لمعرفة صاحبه، بقى وجوب أخذه والرد على صاحبه.
الشيعة الإمامية:
يرى الشيعة عدم أ خذ العبد الذى ليس فى يد صاحبه إن كان بالغا أو مراهقا، ولم يفرقوا بين الضال والآبق وجعلوه كالضالة الممتنعة من السباع والإنسان وتحتفظ بنفسها، فقد جاء فى شرائع الإسلام: إذا وجد مملوكا بالغا أو مراهقا لم يؤخذ، وكان كالضالة الممتنعة (22).
هذا هو الحكم بمعنى الصفة الشرعية أما الحكم بمعنى الأثر المترتب على أخذ الآبق فإنه يكون ضامنا له ولا يبرأ لو أ رسله بعد أخذه ويجب عليه أن يسلمه لصاحبه أو إلى الحاكم، وقد بين هذا صاحب شرائع الإسلام حينما أ حال حكم أخذ الآبق إلى حكم الضالة الممتنعة فى النص السابق، وإننا حينما ننظر إلى حكم الضالة الممتنعة نجده يقول: " فالبعير لا يؤخذ إذا وجد فى كلأ وماء أو كان صحيحا لقوله - صلى الله عليه وسلم - " خفه حذاؤه وكرشه سقاؤه فلا تمتحه " أى لا تأخذه، فلو أخذه ضمنه ولا يبرأ لو أرسله ويبرأ لو سلمه لصاحبه فإن فقده أى لم يجد صاحبه أو لم يعرفه سلمه إلى الحاكم لأنه منصوب للمصالح، فإن كان له (أى الحاكم) حمى أرسله فيه، وإلا باعه وحفظ ثمنه لصاحبه (23). ومراده بالضالة الممتنعة التى تمتنع على صغار السباع كالإبل القوية والبقر الكبار والغزلان المملوكة، وفى النص السابق ذكره أنه أخذ عبدا مملوكا بالغا أو مراهقا ولم يفصل بين ما إذا كان ضالا أو آبقا فيكون مقتضاه أن حكمهما واحد، وأن الأبق مثل الضال وضالة الإبل القوية ونحوها مما ذكرنا.
ما يجب أن يفعله أخذ الأبق عند أخذه:
الحنفية:
يرى الحنفية أنه يجب على آخذ الأبق أن يشهد عند أخذه أنه أخذه ليرده على مالكه، لأنه يجب عليه أن يفعل ذلك عند أخذ اللقطة إذ الآبق حكمه فى ذلك حكم اللقطة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم- " من وجد لقطة فليشهد ذوى عدل، وليحفظ عفاصها ووكاءها، فإن جاء صاحبها فلا يكتم فهو أحق بها، وإن لم يجىء صاحبها فهو مال الله يؤتيه من يشاء ". رواه أحمد وابن ماجه. " والعفاص: الوعاء الذى تكون فيه النفقة من جلد أو خرقة، والوكاء هو الرباط الذى تربط به. وهذا عند أبى حنيفة ومحمد، أما أبو يوسف فإنه يذهب إلى أن الإشهاد ليس بواجب، بل مستحب (24) " 0
وبعد هذا الإشهاد يجب عليه أن يأتى به إلى السلطان إذا كان لا يقدر على حفظه بنفسه، أما إذا كان يقدر على ذلك فإنه مخير بين أن يأتى به إلى السلطان ليحفظه وبين أن يحفظه بنفسه، وهذا التفصيل هو ما اختاره شمس الأئمة الحلوانى أما شمس الأئمة السرخسى فإنه يختار أن يأتى به إلى السلطان لأن الآخذ لا يقدر على حفظه عادة من الإباق بعد أخذه إياه والسلطان أو القاضى هو الذى يستطيع أن يحبسه منعا له عن الإباق مرة أخرى (25) فإذا أخذه السلطان حبسه تعذيرا إلى أن يجىء صاحبه (26).
المالكية:
يرى المالكية أنه إذا أخذه وكان يعرف صاحبه يرده عليه، وإن لم يكن يعرفه وأخذه مع إن ذلك مكروه وجب عليه أن يرفعه إلى الحاكم لرجاء من يطلبه منه ويجب عليه عند أخذه سواء أكان يعرف صاحبه أم لم يعرفه أن يشهد عند التقاطه وإن يستمر فى تعريفه سنة وإذا خاف على نفسه أو ماله منه دفعه إلى الحاكم (27).
الشافعية:
ذهب الشافعية إلى أنه لا يجب على آخذ الآبق الإشهاد ككل لقطة، فقد جاء فى المنهاج والمذهب أنه لا يجب الإشهاد على الالتقاط (28). وإذا أشهد يذكر فى الأشهاد بعض صفات اللقطة ليكون فى الأشهاد فائدة ثم قال ولا يستوعبها لئلا يتوصل إليها كاذب 0
الحنابلة:
يذهب الحنابلة إلى أن آخذ الآبق يحفظه وهو أمانة فى يده إن تلف بغير تفريطه ، وعليه أن يعرفه وليس لملتقطه بيعه ولا تملكه بعد تعريفه، لأن العبد يتحفظ بنفسه فهو كضوال الإبل فإذا جاء صاحبه دفعه إليه إذا أقام صاحبه البينة أو اعترف العبد أنه سيده وإن لم يجد سيده دفعه للأمام أو نائبة فيحفظه لصاحبه أو يبيعه إن رأى المصلحة فى بيعه ونحو ذلك (29).
الزيدية:
لم نجد كلاما خاصا بالآبق عندهم فى هذا الموضوع ولكنهم يجعلونه فى الالتقاط وفى الضمان كالضالة واللقطة فالظاهر أنه عندهم كذلك فيما يجب أن يفعله آخذه، وقد جاء فى مفتاح الأزهار شرح المنتزع وحواشيه أنه لا يلزمه أن يدفعها للأمام فقد قال فيه " وهى (أى اللقطة بمعنى الضالة) كالوديعة إلا فى أربعة أحكام ثم ذكر منها وتصييرها إلى الإمام غير واجب بل إذا أحب ذلك وإلا فالولاية إليه ". ثم قال ويجب التعريف وقت الالتقاط بما لا يتسامح بمثله (30).
الظاهرية:
يؤخذ من كلام ابن حزم الظاهرى الذى نقلنا نصه فى حكم آخذ الآبق أنه يجب عليه بعد أخذه أن يشهد عليه على الوضع الذى سبق ذكره.
الشيعة الجعفرية:
قد ذكرنا فيما تقدم فى حكم (أخذ الآبق) أن الشيعة الجعفرية يرون ألا يؤخذ المملوك إذا كان بالغا أو مراهقا وأن حكمه حكم الضالة الممتنعة.
__________
(1) البداية وشرح الهداية وفتح القدير والعناية ج 4 ص 434 الطبعة الأميرية.
(2) العناية شرح الهداية وفتح القدير ج 4 ص 424(المطبعة الأميرية) ،والمبسوط ج11 ص 19 (طبعة الساسى).
(3) الأنقروية نقلا من البزازية ج1 ص 198 ، المطبعة الأميرية.
(4) المصدر السابق.
(5) الشرح الكبير وحاشية الدسوقى علية ج 4 ص 127 طبعة دار إحياء الكتب العربية.
(6) حاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج 4 ص 128 ، طبعة دار إحياء الكتب العربية.
(7) الشرح الكبير وحاشية الدسوقى علية ج 4 ص 128 طبعة دار إحياء الكتب العربية.
(8) ج 2 ص 429 طبعة مصطفى الحلبى.
(9) المرجع السابق ج 2 ص 430.
(10) المعنى شرح المنهاج ج 2 ص 434 الطبعة السابقة.
(11) كشاف القناع ج 2 ص 421 الطبعة العامرية الشرفية 1319.
(12) المرجع السابق ج 6 ص 357 طبعة المنار 1346.
(13) المغنى شرح المنهاج ج 2 ص 434 الطبعة السابقة.
(14) شرح الأزهار ج4 ص 68 الطبعة الثانية لسنة 1358.
(15) المرجع السابق ج 4 ص 281.
(16) المرجع السابق ج 4 ص 28.
(17) المحلى ج 8 ص 270، 271، طبعة دار الطباعة المنيرية.
(18) والذى ذكره هو الإبل القوية على الرعى وورود الماء فإنها لا يحل أخذها ، والغنم التى يخاف عليها الذئب أو غيره فإنها تؤخذ وتصير حلالا لأخذها ولو جاء صاحبها وجدها حية أو مذبوحة.
(20) سورة المائدة: 2.
(21) المحلى ج 8 ص 257.
(22) المحلى ج 8 ص 271.
( 23) شرائع الإسلام ج 2 ص 177 نشر مكتبة الحياة ببيروت.
(24) المرجع السابق ج2 ص 176.
(25) الزيلعى (تبيين الحقائق) ج 3 ص 309 فى باب الآبق ، وص 302 فى باب اللقطة ، وحاشية الشلبى على الزيلعى ج 3 ص 302 المطبعة الأميرية.
(26) العناية شرح الهداية على هامش فتح القدير ج 4 ص 434 المطبعة الأميرية.
(27) الزيلعى (تبيين الحقائق) ج 3 ص 308 ، المطبعة الأميرية.
(45) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقى عليه ج 4 ص 126 ، 127 ، وطبعة دار إحياء الكتب العربية.
(28) المنهاج وشرح المغنى عليه ج2 ص 407 طبعة شركة مكتبة مصطفى البابى الحلبى وأولاده سنة 1377 - المغنى الصفحة السابقة.
(29) المغنى لابن قدامة ج 6 ص 257 طبعة المنار سنة 1347.
(30) شرح الأزهار ، شرح المنتزع وحواشيه ج 4 ص 61 ، 62 ،64 -الطبعة الثانية لسنة 1358.
مقدار الجعل ومتى يستحق ومتى يكون عليه الجعل:
الجعل هو المقدار المعين من المال الذى يستحقه من رد الآبق أو الضالة وكلامنا عليه هنا يكون فى مقداره، ومتى يستحق وعلى من يكون، وللفقهاء فى هذا آراء نذكرها فيما يأتى:
الحنفية:
مقدار الجعل عند الحنفية كان بتقدير الشارع وهو قول الرسول - عليه السلام- " جعل الآبق أربعون درهما " وهو أربعون درهما إذا رده من مسافة قصر للصلاة وهى ثلاثة أيام بلياليها فأكثر فإن رده لأقل من ذلك فقولان، قول بأن الجعل يكون بحسب المسافة التى رد منها منسوبة للأربعين درهما أى أنه إذا رده لربع مسافة القصر يكون له عشرة دراهم وإذا رده لنصفها يكون له عشرون درهما وهكذا، وقول بأنه يرضخ له أى يعطى قليلا غير كثير فإن اتفقا على الرضخ فيها، وإن اختلفا قدره الإمام وكذلك إذا رده فى المصر يكون بحسابه أو يرضخ له بناء على الرأيين السابقين وروى عد أبى حنيفة أنه لا شىء له إذا رده فى المصر، ولكن الرضخ هو المفتى به على ما ذكر صاحب الدر المختار وجعله صاحب رد المحتار ابن عابدين نقلا عن صاحب البحر أنه الصحيح (1) ولا فرق فى إيجاب الأربعين بين ما إذا كانت قيمة الآبق أقل من أربعين أو أربعين فأكثر على الرأى المشهور عند الحنفية وهو رأى أبى يوسف، لأن تقديره ثبت بالنص بلا تعرض لقيمته فيمنع النقصان كما تمنع الزيادة ولذا يكون الصلح بأكثر منه غير جائز بخلاف الصلح على الأقل لأنه حط للبعض ولو حط الكل كان جائزا فكذا البعض، أما محمد فقد قال: تجب قيمته إلا درهما لأن وجوبه ثبت إحياء لحقوق الناس نظرا لهم ولا نظر فى إيجاب أكثر من قيمته، وقد روى أيضا عن كل من محمد وأبى يوسف مثل رأى صاحبه وروى عن أبى يوسف أيضا أنه ينقص منه قدر ما تقطع اليد (2) ، وأما أبو حنيفة فرأيه كرأى محمد كما ذكر الشهاب الشلبى فى حاشيته على كتاب تبيين الحقائق للزيلعى على الكنز نقلا عن شرح الطحاوى (3) وكذا ذكره الكمال ابن الهمام فى فتح القدير (4) ، وقد ثبت الجعل للراد استحسانا وإن لم يشترط لأن القياس يقضى بأنه لا شىء له إلا بالشرط كأن يقول مالكه: من رد عبدى على فله كذا لأنه فى حالة عدم الشرط يكون متبرعا بمنفعته، ووجه هذا الاستحسان هو ما روى عن عمرو بن دينار أنه قال: لم نزل نسمع أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: " جعل الآبق أربعون درهما " فقد جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم- لرد الآبق جعلا، أما الضال فلا جعل فى رده لأنه لم يسمع عنه - صلى الله عليه وسلم - جعلا فى رده فيلزم الاقتصار فى ذلك على مورد النص ولأن إيجاب الجعل فى رد الآبق حامل لوا جده على رده إذ الحسبة نادرة فتحصل صيانة أموال الناس والحاجة إلى صيانة الضال أقل من الحاجة إلى صيانة الآبق، لأن الآبق يختفى عن أعين الناس هربا من الرجوع إلى سيده، أما الضال فإنه يظهر ليرده الناس (5).
ويستوى فى وجوب الجعل كل رقيق أبق ولو كان فيه شائبة الحرية كالمدبر وأم الولد إلا المكاتب، فإنه لا جعل له، لأن المدبر وأم الولد وإن كان فيهما شائبة الحرية لتحرر المدبر بموت سيده متى خرج من الثلث وأم الولد تعتق بموت سيدها- إلا أنهما مملوكان للسيد ويستكسبهما كالقن، فيحصل بالرد إحياء المالية من هذا الوجه.
والجعل إنما كان لإحياء المالية، أما المكاتب فإنه أحق بمكاسبه، فلا يوجد فيه إحياء لمال المولى وهذا فيما إذا رد المدبر وأم الولد فى حياة المولى. أما إذا ردا بعد وفاته فلا جعل للراد بخلاف ما إذا رد القن بعد وفاته، وذلك لأن المدبر إن خرج من الثلث يعتق، ولا جعل فى الحر، وإن لم يخرج فكذلك عند الصاحيين، لأنه حر عليه دين، إذ العتق لا يتجزأ عندهما، وهو عند الإمام مكاتب ولا جعل على المكاتب، وأما أم الولد فإنها تعتق بموت سيدها، فلا جعل فيها لحريتها بعد موت سيدها ولا جعل فى الحر أما القن الذى جاء بها الراد بعد موت سيده ففيه الجعل، لأنه لا يزال رقيقا (6).
أما متى يستحق الجعل فإن الراد يستحقه برده لسيده، فلو مات أو أبق منه قبل الرد فلا جعل له،ويعتبر متسلما له إذا باعه من الراد عند حضوره وقبل أن يقبضه بيده لسلامة البدل وهو الثمن له أى للسيد وكذا لو اعتقه فى هذه الحال لأن الإعتاق منه قبض وكذا إذا وهبه لابنه الصغير لأن هبة الآبق لصغيره جائزة لأنه باق فى يده حكما فيصير قابضا للصغير باليد الحكمى الذى بقى له أما إذا وهبه لغير صغيره ولو كان للراد نفسه لا يكون قابضا قبل الوصول إلى يده (7) وهذا مشروط بأن يصدقه السيد فى الإباق فإذا أنكر المولى إباقه كان القول له مع يمينه إلا إذا شهد شهود أنه أبق من مولاه أو يشهده على إقرار المولى بإباقه (8) ولكنه يلزم مع ما تقدم لاستحقاق الجعل أن يشهد عند أخذه أنه أخذه ليرده على سيده متى تمكن من الإشهاد وإلا فلا يشترط الإشهاد ويكون القول قوله فى أنه لم تمكن وإن لم يشهد عند أخذه مع التمكن لا يكون له الجعل لأنه يكون آخذا لنفسه فيكون غاصبا، ولو كان الراد قد اشتراه من وا جده وأشهد حين اشتراه أنه قد اشتراه ليرده على سيده يكون له الجعل لأنه لا يقدر على رده إلا بالشراء ولكنه يكون متبرعا بالثمن وكذلك يلزم الاستحقاق الراد الجعل ألا يكون ممن يجب عليه ذلك ولا ممن يعمل متبرعا فليس للسلطان أو نائبه ولا لحافظ المدينة ولا للخفير جعل، لأن ذلك مما يجب عليه ولا لوصى اليتيم المالك للعبد ولا لعائله جعل لأن من شأنه حفظ ماله، وكذا من استعان به السيد فى رده كان يقول له السيد: إن وجدته فخذه فقال: نعم لأن ذلك متبرع بالإعانة ، ومثله كل من جرت العادة بأنه يرده عليه تبرعا كأحد الزوجين أو أحد الأبناء أو أحد الشركاء أو من يكون فى عياله بأن يكون ممن يعوله المالك ويمونه فلا جعل للأب أو الأم إذا رد عبد الابن إذا كان فى عيال الابن (9) أما إذا لم يكن أحد الأبوين فى عيال الابن فله الجعل لأن خدمة الابن غير مستحقة عليه (10).
واشتراط إشهاد الراد- عند أخذ الآبق- أنه أخذه ليرده حتى يستحق الجعل هو المشهور عند الحنفية لم وهو رأى أبى حنيفة ومحمد، أما أبو يوسف فإنه يذهب إلى أنه يستحق الجعل وإن لم يشهد ما دام قد أخذه ليرده لا لنفسه، لأن الإشهاد غير واجب عليه عنده، بل مستحب (11) أما من يكون عليه الجعل فهو السيد فيما ذكرنا: من القن والمدبر وأم الولد، وكذا إذا كان مأذونا ولم يركبه دين، أما إذا كان مأذونا وركبه دين فإنه يكون على السيد إذا اختار قضاء دينه، وعلى الغرماء إذا اختار بيعه فى الدين. وحينئذ يأخذ الراد جعله من الثمن، وما بقى يعطى لأصحاب الديون لأنه مؤنة الملك فيجب على من يستقر له الملك ويكون على صاحب الخدمة إذا أوصى سيده برقبته لشخص وبخدمته لأخر يدفعه المخدوم فى الحال ولكنه يرجع به على صاحب الرقبة عند انتهاء الخدمة أو يباع العبد فيه إن لم يدفع صاحب الرقبة الجعل، لأن الموصى له بالرقبة فى حكم المالك ويكون على المرتهن إذا كانت قيمته مساوية للدين أو أقل أما إذا كانت أكثر فعليه بقدر دينه والباقى على الراهن لأن حقه: أى المرتهن، بالقدر المضمون منه أى من العبد وهو قيمة الدين فلو كانت قيمته أربعمائة والدين ثلاثمائة يكون على المرتهن ثلاثون وعلى الراهن عشرة لأن الجعل المقدر شرعا أربعون درهما وإن اصطلحا على أقل يكون بهذه النسبة (12) ويكون على من سيصير إليه إذ كان العبد قد جنى خطأ قبل الإباق أو بعده قبل أن يأخذه الراد فيكون على المولى إن اختار فداءه وعلى أولياء الجناية إن اختار دفعه إليهم ، ولو اختار المولى الدفع ثم قضى عليه بدفع العبد إلى أولياء الجناية كان له الرجوع على المدفوع إليه الجعل، وإنما كان الجعل على المولى إن اختار فداءه لأنه طهره عن الجناية باختياره فصار كإنه لم يجن وأحيا الراد ماليته بالرد عليه، وأما كون الجعل على أولياء الجناية إن اختار المولى دفعه بها فلأن الراد برده قد أحيا حقهم (13).
أما الموهوب له هذا الآبق فقد جاء عنه فى الزيلعى " فإن الجعل عليه وإن رجع الواهب فى هبته بعد الرد لأن الموهوب هو المالك وزوال ملكه فى حالة رجوع الواهب بعد الرد إنما كان بتقصير منه وهو بتركه التصرف فيه فلا يسقط عنه ما وجب عليه بالرد، أما إذا كان الآبق مغصوبا فإن جعله على الغاصب لأن ضمان جناية العبد المغصوب تكون على الغاصب، وإذا كان الأبق ملكا لصبى فجعله فى ماله لأنه مؤنة ملكه (14) " وما دام الجعل يكون على المالك فى بعض الأحوال. " فإنه إذا كان الآبق مشتركا بين شخصين يكون على كل واحد من الجعل بقدر نصيبه فلو كان أحدهما غائبا فأعطى الحاضر الجعل كله للراد لا يكون متبرعا بنصيب الغائب لأنه لا يمكن أن يأخذه حتى يعطى تمام الجعل فيكون له الرجوع على الغائب بما أصابه من الجعل لأنه مضطر فيما أعطاه للراد إذ أنه لا يصل إلى نصيبه إلا بذلك (15) ".
المالكية:
مقدار الجعل عندهم هو ما سماه الجاعل وسمعه العامل مباشرة أو بالواسطة وليس عندهم قدر معين شرعا فى الجعل كما هو عند الحنفية على نحو ما ذكرنا عنهم فقد قال الدردير فى الشرح الكبير: من سمع قائلا يقول: من يأتينى بعبدى الآبق مثلا فله كذا فأتاه به من غير تواطؤ فإنه يستحق ما التزمه الجاعل (16).
وقد ينتقل الجعل من المسمى إلى جعل المثل فقد قال الدسوقى: لا يشترط العلم بالمجعول عليه بل تارة يكون مجهولا كالآبق فإنه لا بد فى صحة الجعل على الإتيان به ألا يعلم مكانه فإن علمه ربه فقط لزمه الأكثر مما سمى وجل المثل وإن علمه العامل فقط كان له بقدر تعبه عند ابن القاسم، وقيل لا شىء له وإن علماه معا فينبغى أن له جعل مثله نظرا لسبق الجاعل بالعداء (17) وكذلك يستحق جعل المثل إذا لم يسمع العامل - ولو بالواسطة- الجاعل حينما سمى جعلا فى رد آبقه إذا كان هذا العامل من عادته رد الإباق فقد قال الدسوقى: " ولمن لم يسمع الجاعل أى لا مباشرة ولا بالواسطة وإلا استحق المسمى بتمام العمل وحاصله أنه إذا قال المالك من أتى بعبدى الآبق فله كذا فجاء شخص لم يسمع كلام ربه لا مباشرة ولا بالواسطة أو أن ربه لم يقل شيئا فجاء به شخص فانه يستحق جعل المثل سواء كان جعل المثل أكثر من المسمى أو أقل منه أو مساويا له بشرط كون ذلك الشخص الآتى به من عادته طلب الإباق فإن لم يكن عادته ذلك فلا جعل له وله النفقة فقط (18) ، والمراد من النفقة التى ذكرها هو ما أنفقه فى سبيل تحصيله فقد قال الدسوقى نفسه: أى فله ما أنفقه حال تحصيله على نفسه وعلى العبد من أجرة دابة أو مركب اضطر إليها بحيث لم يكن الحامل على صرف تلك الدراهم إلا تحصيله لأن تلك الدراهم بمثابة ما فدى به من ظالم، أما ما شأنه أنه ينفقه العامل على نفسه فى الحضر كالأكل والشرب فلا يرجع به على ربه، ثم قال تعليقا على كلام الدردير: وما أنفقه عليه من أكل وشرب الأولى إسقاط ذلك لأن نفقة الطعام والشرب والكسوة على ربه ولو وجب للعامل جعل المثل أو المسمى فإذا قام بها العامل رجع بها عليه (19) أما إذا سمعه من شأنه رد الإباق ولو بالواسطة فلا شىء له إلا المسمى وفى حالة ما إذا لم يسمعه يكون لرب الآبق أن يترك عبده للعامل فقد قال الدردير: ولربه - أى الآبق- تركه للعامل حيث لم يسمع من عادته طلب الضوال وأتى به لربه كانت قيمته قدر جعل المثل أو أقل أو أكثر ولا مقال له، بخلاف ما إذا سمعه سمى شيئا ولو بالواسطة فله ما سماه ولو زاد على قيمة العبد لأن ربه ورطه (20) وكذلك يكون له جعل المثل إن اختلفا فى الجعل وتحالفا ولم يشهد الظاهر لقول أحدهما، فقد جاء فى الشرح الكبير للدردير بعد أن ذكر أن جعل المثل يكون لمن لم يسمع ولكنه معتاد لطلب الإباق: كحلفهما أى المتجاعلين بعد تخالفهما أى بعد اختلافهما فى قدر الجعل بعد تمام العمل ولم يشبها أى لم يشبه أحدهما فى قوله ظاهر الأمر فيقض له بجعل المثل (21) وإن جاء به اثنان يكون الجعل بنسبة ما سمى لكل منهما فقد جاء فى حاشية الدسوقى على الشرح الكبير أن رب الآبق إذا جعل لرجل درهما على أن يأتيه بعبده الآبق وجعل لأخر نصف، درهم على أن يأتيه بعبده فأتيا به معا فإنهما يشتركان فى ذلك الدرهم، إذ هو غاية ما يلزم رب العبد بنسبة ما سماه لكل منهما بمجموعة التسميتين فيأخذ الأول ثلثه ويأخذ الثانى ثلثه لأن نسبة نصف الدرهم إلى درهم ونصف: ثلث، ونسبة الدرهم كذلك ثلثان. ثم ذكر أن هذا هو المشهور وهو قول ابن القاسم ، وآن ابن نافع وأبن عبد الحكم قالا أن لكل واحد منهما نصف ما جعل له، ورجحه التونسى واللخمى (22).
هذا ما يتعلق بمقدار الجعل أما متى يستحق الجعل فإنه يكون عند تسليم الراد الآبق لسيده وذلك يكون بتمكينه منه أو أن يكون الآبق قد استحق لشخص آخر أو حرره سيده بعد وصوله إلى بلد صاحب الآبق وقبل قبضه له. فقد جاء فى شرح الدردير وحاشية الدسوقى عليه " يستحقه أى الجعل السامع من الجاعل ولو بواسطة أن ثبت أنه قاله بالتمام للعمل بتمكين ربه منه وذلك بأن يمكن ألمجاعل عليه رب الشىء المجاعل عليه منه فإن أبق قبل قبضه بعد مجىء العامل به لبلد ربه لم يستحق العامل جعلا" (23).
وقال الدردير أن من أتى بالعبد الآبق فاستحقه شخص أو استحق بحرية فإنه يستحق الجعل على الجاعل ولو لم يقبضه لأنه ورطه فى العمل ولولا الاستحقاق لقبضه واستولى علية ولا يرجع الجاعل بالجعل على المستحق عند ابن القاسم وهو المشهور وقد بين الدسوقى وقت الاستحقاق للآبق الذى لا يسقط به الجعل فقال: " وإن استحق أى بعد وصول المجاعل للبلد وقبل قبض ربه أما لو أستحق منه وهو فى الطريق قبل إتيانه للبلد فلا جعل له كما ارتضاه البنانى (24) ".
واشترطوا لاستحقاق الجعل عند التسليم أو الاستحقاق بعد وصول البلد أن يكون هناك عقد جعالة بين سيد العبد وبين الراد وذلك يكون بإيجاب وقبول أو بأن يقول رب العبد من رد عبدى فله كذا وسمع الراد ذلك مباشرة أو بالواسطة إن ثبت أنه قاله كما قدمنا أما إذا كان راد الآبق ممن اعتادوا رد الإباق فإنه يستحق جعل المثل إن لم يتعاقد معه أو لم يسمع ولو بالواسطة 0 أما إذا تعاقد معه فلا يستحق إلا ما سمى متى مكنه منه كما قدمنا وأما من يكون عليه الجعل فهو الملتزم له من المتجاعلين لأنه نشأ عن تعاقد.
قال الدردير فى الجعل المعلوم يستحقه السامع من الجاعل ولو بواسطة أن ثبت أنه قاله (25) وقال فى حالة ما إذا استحق الآبق قبل تسليمه لصاحبه فإنه أى العامل يستحق الجعل على الجاعل ولو لم يقبضه ثم قال ولا يرجع الجاعل بالجعل على المستحق عند ابن القاسم وهو المشهور 0
وقد علق الدسوقى على هذا فبين الرأى الآخر غير المشهور فقال أى خلافا لمحمد بن المواز القائل للجاعل أن يرجع على المستحق بالأقل من المسمى ومن أجر المثل (26).
الشافعية:
أما مقدار الجعل عندهم فهو ما اتفق عليه بين الإذن بالعمل والعامل فقد جاء فى الأم للشافعى: " ولا جعل لأحد جاء بآبق ولا ضالة إلا أن يكون جعل له فيه فيكون له ما جعل له وسواء فى ذلك من يعرف بطلب الضوال ومن لا يعرف به (27) " فهم يحالفون المالكية فى جعل من عرف بطلب الضوال واعتاده من حيث أنهم لا يجعلون له جعلا إلا بالتسمية بخلاف المالكية كما يعلم مما تقدم ولكن قد ينتقل من الجعل المسمى إلى جعل أزيد أو أنقص قبل الفراغ من العمل بناء على اتفاق (28).
والجعل يقبل التجزئة عندهم على قدر العمل فقد جاء فى المنهاج والمغنى ولو قال شخص بناء على صحة الجعالة على عمل معلوم من رد عبدى مثلا من بلد كذا فله كذا فرده العامل من مكان أقرب منه فله قسطه.
أى قسط الأقرب من الجعل، لأنه جعل كل الجعل فى مقابلة العمل، فبعضه فى مقابلة البعض فإن رده من نصف الطريق مثلا استحق نصف الجعل ويجب فرضه كما قال ابن الرفعة فيما إذا تساوت الطريق سهولة وحزونة، فإن تفاوتت بأن كانت أجره نصف المسافة ضعف أجرة النصف الآخر فيقابله ثلثا الجعل (29).
وأما متى يستحق الراد الجعل؟ فإن الراد يستحقه بتمام العمل فقد جاء فى المنهاج وشرحه المغنى " ولو تلف المردود قبل وصوله كأن مات الآبق بغير قتل المالك له فى بعض الطريق ولو بقرب دار سيده أو غصب، أو تركه العامل، أو هرب ولو فى دار المالك قبل تسليمه له، فلا شئ للعامل وإن حضر الآبق لأنه لم يرده ".
ثم قال " وإذا رده: أى الآبق العامل على سيده فليس له حبسه لقبض الجعل، لأن الاستحقاق بالتسليم، ولا حبس قبل الاستحقاق (30) ".
ومن هذا النص يؤخذ أن الرد الذى يستحق به الجعل هو نفس التسليم، ولا تكفى موجهته له.
ويشترط لاستحقاق الراد الجعل أن يأذن رب الآبق وغيره بالعمل، فقد جاء فى المغنى " فلو عمل بلا إذن، أو أذن لشخص فعمل غيره فلا شىء له. ولو قال أجنبى: من رد عبد زيد فله كذا استحقه الراد على الأجنبى، لأنه التزمه.
وإن قال الأجنبى: قال زيد: من رد عبدى فله كذا- وكان الأجنبى كاذبا- لم يستحق العامل عليه: أى على الأجنبى، لعدم التزامه، ولا على زيد إن كذب القائل (31) ".
أما من يكون عليه الجعل فإنه يؤخذ من النصوص السابقة أنه يكون على الملتزم: وسواء فى ذلك أن يكون رب العبد وأن يكون أجنبيا، ولكن لا يعتبر ولى الصغير أجنبيا يكون عليه الجعل فى ماله هو إذا طلب رد الآبق من مال موليه، بل يكون فى مال الصغير، فقد جاء فى المغنى: " قد يفهم تعبير المصنف كغيره بالأجنبى " أى فى قوله: ولو قال أجنبى: من رد عبد زيد فله كذا استحقه الراد على الأجنبى " أنه لو قال الولى ذلك عن محجور على وجه المصلحة بحيث يكون الجعل قدر أجرة مثل ذلك العمل أن الراد يستحقه فى مال المالك بمقتضى قول وليه، قال بعض المتأخرين وهو واضح، ولم أر من تعرض له (32) ".
ولو كان مغصوبا فإن الجعل يكون على الغاصب، فقد جاء فى المنهاج وشرحه المغنى: " وعلى الغاصب الرد للمغصوب عند التمكن وإن عظمت المؤنة فى رده ولو كان غير متمول كحبة بر أو كلب يقتنى، للحديث المار: على اليد ما أخذت حتى تؤديه (33) ".
الحنابلة:
مقدار الجعل عندهم هو ما سمى، فإن لم يسم فله ما قرره الشارع، فقد جاء فى المحرر: " ولا يستحق الجعل بغير شرط إلا فى رد الآبق خاصة فإن له الجعل بالشرع: دينارا أو اثنى عشر درهما. وعنه (أى عن أحمد) إن رده من خارج المصر فله أربعون درهما (34) ".
ولكن هل إذا سميا جعلا يكون اللازم ما سميا؟ قد بين هذا صاحب كشاف القناع فقال: " إذا كان المسمى ليس أكثر من المقدر شرعا فإنه حينئذ يكون له ما قدره الشارع وتلغى التسمية، قطع بهذا الحارثى وصاحب المبدع، لأن من أوجب عليه الشارع شيئا مقدرا من المال عند وجود سببه استقر عليه كاملا بوجود سببه (35) ".
ومقتضى هذا النص أنه إذا سمى أقل من المقدر شرعا يكون لة المقدر أما إذا لم يسم جعل فإن الجعل يكون ما قدره الشارع كما يفهم من عبارة المحرر السابقة.
وكما روى عن أحمد روايتان فى المقدر شرعا كما يفهم من عبارة المحرر السابقة فيما إذا جاء به من خارج المصر، فقد روى عنه فيما إذا جاء به من المصر نفسه أنه عشرة دراهم أو دينار (36).
وقد روى عنه أيضا أنه لا جعل فى رد الآبق فقد جاء فى المغنى: " وقد روى عن أحمد أنه لم يكن يوجب ذلك: أى جعلا إذا لم يوجد شرط ".
قال أبو منصور: " سئل أحمد عن جعل الآبق فقال: لا أدرى، تكلم الناس فيه، لم يكن فيه عنده حديث صحيح. فظاهر هذا أنه لا جعل فيه، وهو ظاهر قول الخرقى ثم علل ذلك بقوله: لأنه عمل لغيره عملا من غير أن يشرط له عوضا (37) ".
والجعل المتفق عليه، أو المقدر شرعا إن لم يكن شرط جعل يستحقه العامل على الرواية الراجحة. وإن زاد على قيمة العبد. وسواء فى ذلك أن يكون الراد معروفا برد الإباق أولا فقد جاء فى المغنى: " ولا فرق عند إمامنا بين أن يزيد الجعل على قيمة العبد أو ينقص.. ثم علل ذلك بقوله: ولنا عموم الدليل (أى الأدلة التى وردت عن السلف بتقدير الجعل الذى لم يشترط). ولأنه جعل يستحق فى رد الآبق، فاستحقه وإن زاد على قيمته كما لو جعله صاحبه ... ثم قال إذا ثبت هذا فلا فرق بين كونه من المعروفين برد الإباق أو لم يكن (38) ".
وبهذا يخالفون المالكية فى أنه لا يكون جعل فى حالة عدم الشرط إلا لمن اعتاد رد الإباق.
وقد ينتقل الجعل عندهم من المسمى إلى أجره المثل، وذلك إذا فقد شرطا من شروط صحة الجعل.
فقد جاء فى المغنى: " متى شرط عوضا مجهولا كقوله: إن رددت عبدى فلك ثوب أو فلك سلبه، أو شرط عوضا محرما كالخمر والحر، أو غير مقدور عليه كقوله: " من رد عبدى فله ثلثه، أو من رد عبدى فله أحدهما فرده إنسان- استحق أجر المثل، لأنه عمل عملا بعوض لم يسلم له، فاستحق أجره كما فى الإجارة (39) ".
أما من يكون له الجعل فإنه الراد إن كان هو الذى اتفق معه سيد الأبق أو كان السيد لم يعين أحدا، فقد جاء فى المغنى لابن قدامة: " ويجوز أن يجعل الجعل فى الجعالة لواحد بعينه فيقول له: إن رددت عبدى فلك دينار، فلا يستحق الجعل من يرده سواه. ويجوز أن يجعله لغير معين فيقول من رد عبدى فله دينار، فمن رده استحق الجعل (40) ".
ولا فرق عندهم فى الراد من حيث استحقاق الجعل أن يكون من ولد المالك، أو زوجا، أو غير ذلك، فقد جاء فى كشاف القناع: " وسواء (أى فى استحقاق الجعل) كان الراد زوجا للرقيق الآبق، أو ذا رحم فى عيال المالك أولا، لعموم ما سبق " يريد مما سبق الأدلة الدالة على استحقاق الجعل (41).
وقد يكون للراد جزء من الجعل المسمى بقدر نصيبه فى العمل، وذلك بأن يشترك فى العمل أكثر من واحد من المبدأ إلى النهاية فقد جاء فى المغنى: " فإن قال: من رد لقطتى فله دينار، فردها ثلاثة فلهم الدينار بينهم أثلاثا، لأنهم اشتركوا فى العمل الذى يستحق به الجعل، فاشتركوا فى العوض، كالأجرة فى الإجارة (42) ".
والآبق عندهم كاللقطة فى هذا لأن الكلام قبل هذه العبارة فى جواز جعل الجعل لواحد. فقد جاء فى المغنى فى نفس الموضوع " ويجوز أن يجعل الجعل لواحد بعينه فيقول له: إن رددت عبدى فلك دينار استحق الجعل " ثم ذكر حالة ما إذا لم يجعله لواحد بعينه كما فى العبارة السابقة وفى نفس الصفحة.
وكذلك إذا حدد السيد مكانا فرده الراد من منتصف طريق هذا المكان مثلا، فقد جاء فى المغنى (43) " وإن قال: من رد عبدى من بلد كذا فله دينار فرده إنسان من نصف طريق ذلك البلد استحق نصف الجعل ". هذا إذا جعل جعلا واحدا. أما إذا جعل أجعالا مختلفة فإن كل واحد يأخذ من جعله بنسبة عمله، فقد جاء فى المغنى: " فإن جعل لواحد فى ردها دينارا، ولآخر دينارين، ولثالث ثلاثة فرده الثلاثة- فلكل واحد منهم ثلث ما جعل له لأنه عمل ثلث العمل فاستحق ثلث المسمى (44) ".
و أما متى يستحق الجعل ؟ فإنهم لا يجعلونه إلا بالرد بشرط أن يكون العمل بعد النداء بالرد ، وسواء فى ذلك ما إذا كان قد شرط أو لم يشرط ، لأنه حينئذ يستحق المقدر شرعا ، فقد قال الخرقى فى المختصر: " وإن كان التقطها قبل ذلك (أى قبل نداء صاحبها بالجعل) فردها لعلة الجعل لم يجز له أخذه (45) ".
وجاء فى المغنى:" أما العبد الآبق فإنه يستحق الجعل برده وإن لم يشترط له (46) ".
والجعل حينئذ هو المقدر شرعا، وقد سبق أن ذكرناه.
وليس للعامل حبس الآبق حتى يسترد الجعل ، فقد جاء فى كشاف القناع: " وإذا رد العامل اللقطة أو العبد أو نحوهما لم يكن له الحبس، أى حبس المردود على الجعل، وإن حبسه عليه وتلف ضمنه (47) ".
أما من يكون عليه الجعل فإنه يكون على السيد ولو مات، فقد جاء فى المغنى: " ويستحقه إن مات سيده فى تركته (48) " ومقتضاه أنه على صاحب العبد.
وهذا إذا أبق من يد سيده، أما إذا أبق من يد مستأجره فإن ما ينفقه عليه فى سبيل الرد يكون على المالك، فقد جاء فى المغنى: " وقياس المذهب أن له الرجوع (أى الرجوع بما أنفق على الجمال التى استأجرها وهرب مالكها) لقولنا يرجع بما أنفق على الأبق وعلى عيال الغائب وزوجاته والدابة ألمرهونة (49) ".
وكذلك إذا كان مرهونا، فقد جاء فى المغنى: " أن مؤنة الرهن من طعامه وكسوته ومسكنه وحافظه وحر زه ومخزنه وغير ذلك على الراهن (50) ".
ثم قال: " وإن أبق العبد فأجرة من يرده على الراهن".
وأما إذا كان مغصوبا فإن أجرة رده تكون على غاصبه، فقد جاء فى المغنى لابن قدامة: " فإن المغصوب متى كان باقيا وجب عليه (أى الغاصب) رده، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: " على اليد ما أخذت حتى ترد "... ثم قال: " فإن غصب ثمينا فبعده لزم رده وأن غرم عليه أضعاف قيمته، لأنه جنى بتبعيده فكان ضرر ذلك عليه (51) ".
الزيدية:
الجعل عندهم ما شرطه المتجاعلان فى الجعالة، أو ما سماه الجاعل، كأن يقول: من رد عبدى أو ضالتى فله كذا. ويكون هذا المسمى هو الجعل. ويستحقه من سمع النداء وفعل، لا من لم يسمع (52).
ومقتضى قولهم: لا من لم يسمع صادق بصورتين: ألا ينادى صاحب الآبق بجعل، أو ينادى ولكن لم يسمعه الراد. وعلى هذا لا بد أن يكون هناك جعل مسمى، وأن يسمع الراد تسميته.
وقد ينتقل الجعل من المسمى إلى أجرة المثل، وذلك فيما إذا اختلفا فى مقدار الجعل، فقد قال صاحب البحر الزخار: " وأما فى قدر الجعل (أى إذا اختلفا عليه) فالأجرة (53) ".
وحكم الأجرة إذا اختلفا جاء فى قول صاحب البحر الزخار: " وإذا اختلفا فى قدر الأجرة أو جنسها ولا بينة تحالفا وبطل العقد، وتجب أجرة المثل بعد العمل (54) ".
ومقتضى هذا أنه إذا لم توجد بينة يتحالفان، ويبطل العقد ، ويكون للراد أجرة مثل عمله. أما إذا بينا فقد قال فيه صاحب البحر الزخار: " فإن بينا فبينة مستحقها أولى، إذ هو الخارج " ثم قال قلت: القياس أن القول للمستأجر كالمشترى (55) ".
ومقتضى هذا ان بينة الراد تقدم، ولكن صاحب البحر الزخار اختار أن تقدم بينة رب العبد.
وكذلك يكون له أجر المثل، إذا كان المسمى مجهولا، فإذا جاء فى البحر الزخار (56): " فإن عقدا على أن الحاصل بينهما أى شركة فسد العقد لجهالة الأجرة كجهالة الثمن... ثم قال ومتى فسد العقد لجهالة الأجرة من ، أصله لزمت أجرة المثل بعد استيفاء المنافع أو بعضها،كتفويت العين المملوكة ". وقد نسب هذا إلى العترة من الزيدية، وارتضاه.
ويعتبر الجعل الأخير هو الجعل المسمى إذا سمى اجعالا مختلفة فى أزمان مختلفة فقد جاء فى البحر الزخار: وتدخلها، " أى الأجرة المجعولة " الزيادة والنقص، كمن رد ضالتى فله مائة، ثم قال من ردها فله خمسون، ونحو ذلك- ويستقر الأخير منهما (57).
والجعل الذى يستقر يستحقه الراد، أو يستحق منه بقدر عمله إذا كان رب العبد قد عين مكان الأخذ فقد جاء فى البحر الزخار: ولو قال: من رد عبدى من مكة فرده من نصف الطريق استحق النصف وكذا ما أشبهه، ولو رد من غير جهتها لم يستحق شيئا وإن كان أبعد (58) ، وأما وقت استحقاق الجعل فإنهم قالوا إنما يستحق الجعل بعد تمام العمل فلو هرب الآبق بعد إيصاله إلى باب المالك سقط الجعل.
وظاهر من عبارة (فلو هرب... الخ) أن تمام العمل يكون بقبض ربه له. ولكن هل يلزم قبضه وتسلمه بالفعل، أو يكفى التمكين من قبضه؟ الظاهر من فروعهم أن التمكين من قبضه يكفى، لأنهم قالوا يصح للراد أن يحبس الآبق ولا يسلمه لربه حتى يستوفى النفقة، والجعل حقه كالنفقة، وقد جاء بخصوص النفقة على الآبق فى البحر الزخار: " وينفق عليه (أى على الآبق) من كسبه إن كان، وإلا فكالقطة (59).
وجاء فيما يتعلق بنفقة اللقطة قوله: ويرجع بما أنفق عليها أو لنقلها ... ثم قال: وله حبسها حتى يستوفى بما أنفق (60). وأما من يكون عليه الجعل فإنه يكون على مالكه إذا أبق من يده، فإن أبق من يد غيره فإن كان مستأجرا فأبق من يد مستأجره فلا جعل عليه فقد جاء فى البحر الزخار من المبادئ ما يدل عليه وإن لم يكن نصا فيه إذ جاء فيه أن يد المستأجر يد أمانة، فقد قال: ويضمن بالتضمين، ويصير كالمستأجر على الحفظ ببعض المنافع فصح كتضمين العارية (61).
ومقتضاه أن العين المؤجرة أمانة فى يده، وهو لا يضمنها- إن لم يضمن- إلا بتقصير أو تعد فأولى ألا يلتزم بجعل ردها. وأما إذا كان مرهونا فإن كان هو الذى جاعل على ردها يكون عليه أن يدفع الجعل للعامل، لأن المطالب بالجعل هو المجاعل.
والظاهر من مبادئهم أنه يرجع به على المالك فقد جاء فى البحر الزخار " ومؤن الرهن كنفقته وتجهيزه وتكفينه... ونحو ذلك- على الراهن (62) ".
وأما إن كان مغصوبا فعلى غاصبه، فقد جاء فى البحر الزخار: " ويجب الرد على موضع ألغصب وإن كان له مؤنة لوجوب رده كما أخذه، وهذا من صفاته ".
وقد نسب هذا إلى أبى طالب الآملى أحد علماء العترة. والقاضى زيد الجيلى علامة الزيدية (63).
أما إذا أبق من الوصى فالجعل فى مال المالك القاصر، لأن يد الوصى يد أمانة.
الظاهرية:
يقول أبن حزم الظاهرى: " لا يجوز الحكم بالجعل على أحد، فمن قال لآخر (أى أجير): إن جئتنى بعبدى الآبق فلك على دينار، أو قال إن فعلت كذا وكذا فلك على درهم أو ما أشبه هذا فجاءه بذلك أو هتف وأشهد على نفسه: من جاءنى بكذا فله كذا فجاءه به- لم يقض عليه بشىء ويستحب لو وفى بوعده- وكذلك من جاءه بآبق فلا يقضى له بشئ (أى من غير ان يهتف ويشهد بالجعل) سواء عرف بالمجىء بالإباق أو لم يعرف بذلك. إلا أن يستأجره على طلبه مدة معروفة، أو ليأتيه به من مكان معروف فيجب ما استأجره به (64) ". وقد علل ذلك بأن هذا فرض عليه حيث يقول: " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم (65) ".
ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال. وقال تعالى: " وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (66) " ففرض على كل مسلم حفظ مال أخيه إذا وجده. ولا يحل له أخذ ماله بغير طيب نفسه، فلا شئ لمن أتى بآبق، لأنه فعل فعلا هو فرض عليه كالصلاة والصيام ولو أعطاه بطيب نفسه لكان حسنا ولو أن الإمام يرتب لمن فعل ذلك عطاء لكان حسنا (67).
الشيعة الإمامية:
أما من حيث مقدار الجعل فإنهم يرون أنه هو ما سماه الجاعل على رد الآبق، ولو لم يسم كان له ما قدره الشارع، وهو دينار إذا أخذه من مصره، فإذا أخذه مصره كان أربعة دنانير، فقد جاء فى شرائع الإسلام للمحقق الحلى: " إذا بذل جعلا فإن عينه فعليه تسليمه مع الرد، وإن لم يعينه لزم مع الرد أجرة المثل إلا فى رد الآبق على رواية أبى سيار عن أبى عبد الله - عليه السلام - أن النبى - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - جعل فى الآبق دينارا إذا أخذ فى مصره، وإن أخذ فى غير مصره فأربعة دنانير وقال الشيخ هذا على الأفضل لا على الوجوب. والعمل على الرواية ولو نقصت قيمة العبد... أما لو أستدعى الرد ولم يبذل أجرة لم يكن للراد شئ، لأنه تبرع بالعمل ".
وقد يأخذ الواحد بنسبة عمله من المسمى، كما إذا قال من رد عبدى فله كذا فرده جماعة قال فى شرائع الإسلام: إذا قال: من رد عبدى فله دينار فرده جماعة كان الدينار لهم جميعا بالسوية لأن الرد حصل من الجميع... ثم قال: " لو جعل لكل واحد من ثلاثة جعلا أزيد من الآخر فجاءوا به جميعا كان لكل واحد ثلث ما جعل له "... ثم قال: " لو جعل لبعض الثلاثة جعلا معلوما ولبعضهم مجهولا (كأن يقول: أن جئتنى به فلك ثوب أو دابة) فجاءوا به جميعا، كان لصاحب المعلوم ثلث ما جعل له. وللمجهول ثلث أجرة مثله (68).
ولا جعل إلا لمن سمى له، وإن شاركه غيره كان متبرعا- فقد جاء فى شرائع الإسلام (69): " لو جعل لواحد جعل على الرد فشاركه أخر فى الرد كان للمجعول له نصف الأجرة، لأنه عمل نصف العمل، وليس للأخر شئ ، لأنه تبرع وقال الشيخ: يستحق نصف أجرة المثل، وهو بعيد ".
ثم قال: " لو جعل جعلا معينا على رده من مسافة معينة فرده من بعضها كان له من الجعل بنسبة المسافة (70) ".
والتسمية الأخيرة تكون هى المعتبرة، فقد جاء فى شرائع الإسلام " ولو عقب الجعالة على عمل معين بأخرى وزاد فى العوض أو نقص عمل بالأخيرة (71) ".
أما متى يستحق الجعل- فإن الجعل، عنده يستحق بالتسليم، فقد جاء فى شرائع الإسلام " ويستحق الجعل بالتسليم، فلو جاء به إلى البلد ففر لم يستحق الجعل، ويشترط لاستحقاق الجعل عند التسليم أن يبذله أى يسميه الجاعل أولا، فلو استولى عليه إنسان قبل بذل الجعل لزمه التسليم ولا شىء له. فقد جاء فى شرائع الإسلام: " لا يستحق العامل الأجرة إلا إذا بذلها الجاعل أولا، ولو حصلت الضالة، (ومثلها الآبق فى هذا) فى يد إنسان قبل تسمية الجعل لزمه التسليم، ولا أجرة، وكذا لو سعى فى التحصيل تبرعا (72) ".
ومن السعى فى التحصيل تبرعا ما لو نادى برد آبقه ولم يسم جعلا. فقد قال فى شرائع الإسلام: " أما لو استدعى الرد ولم يبذل أجرة لم يكن للراد شئ، لأنه تبرع بالعمل (73) ".
وتسليم الآبق حتى يستحق الجعل يتحقق بالتخلية (74).
وأما من يكون عليه الجعل- فهو الجاعل ولو كان أجنبيا، أما الجعل المالك فلأنه التزم دفع الجعل، والجعالة لازمة من طرف الجعل، وأما الأجنبى فقد قال فى شرائع الإسلام: " ولو تبرع أجنبى بالجعل وجب عليه الجعل (75) ".
هذا إذا أبق من المالك، أما إذا أبق من يد غيره ففيه تفصيل: إن كانت يد من أبق منه يد ضمان كالغاصب فقد جاء فى شرائع الإسلام: " يجب رد المغصوب ما دام باقيا ولو تعسر (76) ،.
وقال أيضا: " إذا نقل المغصوب إلى غير بلد الغصب لزم إعادته. ولو طلب المالك الأجرة على إعادته لم يلزم الغاصب، لأن الحق هو النقل (77) ".
أما إذا كانت اليد يد أمانة فإنه لا يلزم بالجعل إلا إذا فرط فى حفظه أو تعدى تعديا "تسبب فى الإباق فقد جاء فى تهذيب الأحكام للطوسى " إذا ارتهنت عبدا أو دابة فماتا فلا شىء عليك وإن هلكت الدابة أو أبق الغلام فأنت ضامن. فالمعنى فيه أيضا أن يكون سبب هلاكه إباقة شيئا من جهة المرتهن فأما إذا لم يكن بشىء من جهته لم يلزمه شىء، وكان حكمه حكم الموت سواء (78) ".
وما دام لا شىء عليه إذا لم يقصر تكون نفقة رده بما فيها من جعل ليست على المرتهن، وحينئذ فعلى من تكون؟ يظهر هذا ما جاء فى شرائع الإسلام (79): " إذا وجد مملوكا بالغا أو مراهقا لم يؤخذ وكان له حكم الضوال الممتنعة ".
وقال فى الضوال التى يأخذها الآخذ وإن كان لا يجوز له الأخذ: " إذا لم جد الآخذ سلطانا ينفق على الضالة انفق من نفسه ورجع به، وقيل لا يرجع، لأن عليه الحفظ، وهو لا يتم إلا بالإنفاق، والوجه الرجوع دفعا لتوجه الضرر بالالتقاط (80) ".
الإباضية:
جاء فى كتاب النيل: " وإن قال: من جاءنى بعبدى أو غيره من الحيوان- وقد هرب فله كذا جاز عند بعض، وقيل: له العناء. وإن استأجر اثنين أو أكثر بإجارة مختلفة فوجده أحدهما فله ما سمى له، وللآخر عناؤه ".
وأن وجدوه جميعا فلكل واحد منهم نصف ما سمى له. وقيل لكل واحد ما سمى له، وقيل لكل واحد عناؤه (81) ".
وإذا كان مرهونا يكون الجعل فى رده على الراهن، فقد جاء فى كتاب النيل: " وإذا كان الرهن رقيقا أو بهيمة لزمه ما احتاج إليه من ختان ومداواة الختان أو احتجا م... من ماله لا منه: أى لا من الرهن أيضا، وكذا نكاح الرقيق وطلاقه وفداؤه وارتجاعه وكفنه ودفنه وغسله إن مات بيده: أى فى بلده أو أميال، دون المرتهن أو المسلط عليه، فإنهما لا يلزمهما شىء من ذلك (82) ".
وكذا إذا كان فى يد وصى فأبق منه فإن جعل رده يكون فى مال المولى عليه، إذ يد أتوصى يد أمانة، فلا يضمن إلا بالتقصير أو التعدى، فقد جاء فى كتاب النيل: " فإن قبلها: أى قبل الوصى الوصية لزمته حالة كونها أمانة فى عنقه، وليجتهد فى إنفاذها لوجوب أداء الأمانة إلى أهلها (83) ".
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار ج 3 ص 358 ، 359 طبعة دار الكتب العربية.
(2) الزيلعى " تبيين الحقائق " على الكنز ج 3 ص 208 الطبعة الأميرية.
(3) الزيلعى ج 3 ص 308.
(4) فتح القدير ج 4 ص 436 الطبعة الأميرية.
(5) الزيلعى ج3 ص 308 الطبعة الأميرية.
(6) الزيلعى ج3 ص 309.
(7) المبسوط ج11 ص 22 طبعة السا سى والعناية وفتح القدير والهداية ج 4 ص 438 الطبعة الأميرية.
(8) فتح القدير والهداية ج4 ص 438.
(9) الدر المختار ورد المحتار (ابن عابدين) ج3 ص 357 طبعة دار الكتب العربية الكبرى.
(10) العناية على هامش فتح القدير ج 4 ص 437 الطبعة الأميرية.
(11) حاشية الشلبى على شرح الزيلعى للكنز ج 3 ص 302 الطبعة الأميرية.
(12) الزيلعى على الكنز ج 3 ص 309 ، 310 الطبعة الأميرية وفتح القدير ج 4 ص 439 الطبعة الأميرية.
(13) الدر المختار وشرحه رد المحتار (ابن عابدين) ج 3 ص 359 طبعة دار الكتب العربية والزيلعى على الكنز ج 3 ص 310 الطبعة الأميرية.
(14) الزيلعى على الكنز ج 3 ص 310.
(15) الفتاوى الأنقروية ج 1 ص 199 الطبعة الأميرية.
(16) الدردير على الشرح الكبير ج 4 ص 60 ’ 61 طبعة دار إحياء الكتب العربية.
(17) حاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج4 ص 61 طبعة دار إحياء الكتب العربية.
(18) حاشية الدسوقى على الشرح الكبير للدردير ج 4 ص 64 طبعة دار إحياء الكتب العربية.
(19) المرجع السابق ص 65 الطبعة السابقة.
(20) المرجع السابق ص64، 65 الطبعة السابقة.
(21) حاشية الدسوقى على الشرح الكبير للدردير ج 4 ص 64 الطبعة السابقة.
(22) المرجع السابق ص 65 الطبعة السابقة.
(23) حاشية الدسوقى والشرح الكبير ج 4 ص 61.
(24) حاشية الدسوقى والشرح الكبير ج 4 ص 62 الطبعة السابقة.
(25) الشرح الكبير للدردير ومتنه ج 4 ص 60 ، 61 الطبعة السابقة.
(26) الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه ج 4 ص 62 الطبعة السابقة.
(27) الأم للشافعى ج 4 ص 69 طبعة شركة الطباعة الفنية المتحدة ونشر مكتبة الكليات الأزهرية.
(28) المنهاج وشرحه المغنى ج 4 ص 433 ، 434 طبعة مصطفى البابى الحلبى.
(29) شرح المغنى ج 2 ص 431 طبعة مصطفى الحلبى.
(30) ج 2 ص 434 الطبعة السابقة.
(31) ج 2 ص 430 الطبعة السابقة.
(32) ج 2 ص 430 الطبعة السابقة.
(33) ج 2 ص 276 ، 277 الطبعة السابقة.
(34) ج 1 ص 372 طبعة مطبعة أنصار السنة المحمدية.
(35) ج 2 ص 417 الطبعة الشرقية ص 1319.
(36) المغنى ج 6 ص 356 طبعة المنار سنة 1347.
(37) ج 6 ص 355 الطبعة السابقة.
(38) ج 6 ص 356 ، 357 طبعة المنار سنة 1347.
(39) ج 6 ص 354 الطبعة السابقة.
(40) ج 6 ص 352 الطبعة السابقة.
(41) ج 2 ص 419 طبعة العامرية الشرقية عام 1319.
(42) ج 6 ص 352 الطبعة السابقة.
(43) ج 6 ص 353 الطبعة السابقة.
(44) ج 6 ص 353 الطبعة السابقة.
(45) المغنى ج 6 ص 358 الطبعة السابقة.
(46) ج 6 ص 355.
(47) ج 3 ص 418 طبعة المطبعة العامرية الشرقية.
(48) ج 6 ص 356 طبعة المنار سنة 1347.
(49) ج 6 ص 98 الطبعة السابقة.
(50) ج 4 ص 495 الطبعة السابقة.
(51) ج 5 ص 423 طبعة دار المنار سنة 1947.
(52) انظر البحر الزخار ج 4 ص 62 - 63 الطبعة الأولى سنة 1949.
(53) ج 4 ص 63 الطبعة السابقة.
(54) ج4 ص 61 الطبعة السابقة.
(55) ج4 ص 61 الطبعة السابقة.
(56) البحر الزخار ج 4 ص 33 الطبعة السابقة.
(57) ج 4 ص 63 الطبعة السابقة.
(58) ج 4 ص 63 الطبعة السابقة.
(59) ج 4 ص 279 - 280 الطبعة السابقة.
(60) ج4 ص 282 الطبعة السابقة.
(61) ج4 ص 33 الطبعة السابقة.
(62) ج4 ص 120 طبعة سنة 1949م.
(63) ج4 ص 179 الطبعة السابقة.
(64) ج 8 ص 204 طبعة إدارة الطباعة المنيرية.
(65) سورة الفتح: 29
(66) سورة المائدة: 2
(67) ج 8 ص 210 طبعة إدارة الطباعة المنيرية.
(68) ج 2 ص 117 - 118 نشر مكتبة الحياة ببيروت.
(69) ج 2 ص 118 نشر المكتبة السابقة.
(70) ج 2 ص 118 نشر مكتبة الحياة ببيروت.
(71) ج 2 ص 117 نشر مكتبة الحياة ببيروت.
(72) ج 2 ص 117 نشر مكتبة الحياة ببيروت.
(73) ج 2 ص 118 نشر مكتبة الحياة ببيروت.
(74) ج 1 ص 173 نشر مكتبة الحياة ببيروت.
(75) ج2 ص 117 نشر مكتبة الحية ببيروت.
(76) ج2 ص 152 نشر مكتبة الحية ببيروت.
(77) ج2 ص 157 نشر مكتبة الحية ببيروت.
(78) ج7 ص 173 مطبعة النعمان بالنجف.
(79) ج2 ص 177 نشر مكتبة الحية ببيروت.
(80) ج ص 176 - 177 الطبعة السابقة.
(81) ج 5 ص 96.
(82) ج 5 ص 531.
(83) ج 6 ص 493.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق