في الخلاف العارض من جهة اشتراك الألفاظ
واحتمالاتها للتأويلات الكثيرة
والثاني: اشتراك في أحوالها التي تعرض لها من إعراب وغيره.
والثالث: اشتراك يوجبه تركيب الألفاظ وبناء بعضها على بعض.
فأما الاشتراك العارض في موضوع اللفظة المفردة فنوعان: اشتراك يجمع معاني مختلفة متضادة، واشتراك يجمع معاني مختلفة غير متضادة.
الأول كالقرء، ذهب الحجازيون من الفقهاء إلى أنه الطهر، وذهب العراقيون إلى أنه الحيض، ولكل واحد من القولين شاهد من الحديث واللغة.
أما حجة الحجازيين من الحديث فما روى عن عمر وعثمان وعائشة وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم قالوا: الأقراء: الأطهار.
وأما حجتهم من اللغة فقول الأعشى:
وفي كلّ عامٍ أنت جاشم غزوةٍ ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورّثةً مالا وفي الحي رفعةً ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وأما حجة العراقيين من الحديث فقول النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: " اقعدي عن الصلاة أيام أقْرَائِك " .
وأما حجتهم من اللغة فقول الراجز:
يا ربّ ذي ضغنٍ عليّ قارض ... له قروءٌ كقروء الحائض
وقد حكى يعقوب بن السكيت وغيره من اللغويين أن العرب تقول:
أقرأت المرأة إذا طهرت، ... وأقرأت إذا حاضت
وذلك أن القرء في كلام العرب معناه: الوقت، فلذلك صلح للطهر وللحيض معاً ويدل على ذلك قول الشاعر:
شنئت العقر عقر بني شليل ... إذا هبت لقارئها الرياح
وقد احتج بعض الحجازيين لقولهم بقوله تبارك وتعالى: ثلاثة قروء فأثبت الهاء في ثلاثة فدل ذلك على أنه أراد الأطهار، ولو أراد الحيض لقال ثلاث قروء، لأن الحيض مؤنثة. وهذا لا حجة فيه عند أهل النظر. إنما الحجة لهم فيما قدمناه.
وإنما لم تكن فيه حجة لأنه لا ينكر أن يكون القرء لفظاً مذكراً يعني به المؤنث، ويكون تذكير ثلاثة حملاً على اللفظ دون المعنى، كما تقول العرب: جاءني ثلاثة أشخص وهم يعنون نساء، والعرب تحمل الكلام تارة على اللفظ وتارة على المعنى، ألا ترى إلى قراءة القراء: " بَلَى قد جاءَتْكِ آياتي " بكسر الكاف وفتحها ووقوع الأسماء على المسميات في كلام العرب ينقسم أربعة أقسام: أحدها: أن يكون المسمى مذكراً واسمه مذكر كرجل مسمى بزيد أو عمرو والآخر: أن يكون المسمى مؤنثاً، واسمه مؤنث كامرأة تسمى فاطمة.
والثالث: أن يكون المسمى مؤنثاً، واسمه مذكر كامرأة تسمى: جعفر وزيد قال الشاعر:
يا جعفرٌ يا جعفرٌ يا جعفر ... إن أك دحداحاً فأنت أقصر
أو أك ذا شيب فأنت أكبر ... غرّك سربالٌ عليك أحمر
ومقنعٌ من الحرير أصفر ... وتحت ذاك سوأة لو تذكر
والرابع: أن يكون المسمى مذكراً، واسمه مؤنث كرجل يسمى طلحة أو وهذا لا يخص الأسماء الأعلام دون الأجناس والأنواع. وهكذا مذهب العرب في الصفة والموصوف، فربما كان الموصوف مطابقاً لصفته في التذكير والتأنيث، كقولهم: هذا رجل قائم، وهذه امرأة قائمة.
وربما كان مخالفاً لصفته في التذكير والتأنيث كقولهم رجل ربعة وعلامة ونسابة، وفي المؤنث امرأة حاسر وعاشق قال ذو الرمة:
فلو أنّ لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه ميٌّ حاسرا كاد يبرق
فقد تبين أنه لا حجة في دخول الهاء في ثلاثة.
ومن الألفاظ المشتركة الواقعة على الشيء وضده قوله تعالى: " فأَصبَحَتْ كالصَّريم " .
قال بعض المفسرين: معناه كالنهار المضئ، بيضاء لا شيء فيها: وقال آخرون كالليل مظلم سوداء لا شيء فيها وكلا القولين موجود في اللغة، أما من قال: كالنهار المضئ فحجته قول زهير:
بكرت عليه غدوة فرأيته ... قعوداً لديه بالصّريم عواذله
يعني الصباح وأما من قال كالليل فحجته قول الراجز:
تهوى هوىّ أنجم الصريم
وقال آخر:
كأنا والرحال على صوار ... برمل خزاق أسلمه الصريم
قال بعضهم معناه: انحسر عنه الرمل، وقال قوم معناه: خرج من الليل وأنجلى عنه كما قال النابغة.
حتى غدا في بياض الصبح منصلتاً ... يقرو الأماعز من لبنان والأكما
والمعنى أيضاً يشهد لكل واحد من القولين: لأن العرب تقول: لك بياض الأرض وسوادها، يعنون بالبياض ما لا عمارة فيه، وبالسواد ما فيه العمارة. فهذا ما يحتج به لمن ذهب إلى معنى البياض.
ومن ذهب إلى معنى السواد فإنما أراد أنها احترقت بريح صر أو نار كقوله تعالى: " فأَصابها إِعصار فيه نار فاحْتَرَقَتْ " ومن هذا النوع قول أبي بكر رضوان الله عليه: طوبى لمن مات في النأنأة.
فإنه يحتمل أن يريد أول الإسلام عند قوة البصائر وقبل وقوع الخلاف.
ويحتمل أن يريد آخر الإسلام إذا ضعفت البصائر، وكثرت البدع والخلاف، ويدل على صحة المعنيين جميعاً قوله صلى الله عليه وسلم: إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للعرباء والنأنأة عند العرب: الضعف لا يخص به الصغر دون الكبر قال امرؤ القيس:
لعمرك ما سعدٌ بخلّة آثمٍ ... ولا نأنأٍ يوم الحفاظ ولا حصر
وتأوله أبو عبيد على أنه أراد أول الإسلام، وليس في لفظ الحديث ما يقتضي ذلك. على أن بعض الرواة قد روى: في النأنأة الأولى. فإن كان هذا محفوظاً فالقول ما قال أبو عبيد.
ومن هذا النوع قوله صلى الله عليه وسلم: " قصوا الشوارب وأَعفوا اللحى " .
قال قوم معناه: وفروا وكثروا. وقال آخرون: قصروا وأنقصوا وكلا القولين له شاهد من اللغة.
أما من ذهب إلى التكثير فحجته قول الله عز وجل: " حتى عَفَوْا. " وقال جرير:
ولكنا نعضّ السيف منها ... بأسؤق عافيات اللحم كوم
وأما من ذهب إلى الحذف والتقصير فحجته قول زهير:
تحمّل أهلها منها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء
فهذه جملة من اللفظ المشترك الواقع على معان مختلفة متضادة.
وأما اللفظ المشترك الواقع على معان مختلفة غير متضادة فنحو قوله تعالى " إِنما جزاءِ الذين يحاربون اللّه ورسولَهُ وَيسْعَوْن في الأَرض فساداً " إلى آخر الآية ذهب قوم إلى أن أو ها هنا للتخيير كالتي في قولك جالس زيداً أو عمرا.
فقالوا السلطان مخير في هذه العقوبات يفعل بقاطع السبل أيها شاء.
وهو قول الحسن البصري وعطاء وبه قال مالك وذهب آخرون إلى أن أو ها هنا للتفصيل والتبعيض: فمن حارب وقتل وأخذ المال صلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله. وهو قول أبي مجلز وحجاج بن أرطاة عن ابن عباس، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، واحتجوا بحديث رواه عثمان وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم. لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفس بغير نفس.
واحتجوا من اللغة بأن العرب تستعمل أو للإفراد والتفصيل، فيقولون: اجتمع القوم فقالوا حاربوا أو صالحوا. أي قال بعضهم كذا، وبعضهم كذا ومنه قول الله تعالى: " وقالوا كونوا هوداً أَو نصارى تهتدُوا " وليس في الفرق فرقة تخير بين اليهودية والنصرانية وإنما المعنى أن بعضهم وهم اليهود قالوا كونوا هودا، وبعضهم وهم النصارى قالوا كونوا نصارى فهذا تفصيل لا شك فيه، والعرب تلف الكلامين المختلفين، وترمي بتفسيرهما جملة، ثقة بأن السامع يرد إلى كل مخبر عنه بكل ما يليق به، قال الله تعالى: " ومن رحمته جعل لكم الليلَ والنهارَ لتسكنوُا فيه ولتَبتَغُوا منْ فضله " .
ونحوه قول امرئ القيس:
كأَن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العُنابُ والحَشَفُ البالي
ولو جاء هذا الكلام مفصلاً لقال: كأن قلوب الطير رطبا العناب، ويابسا الحشف البالي وكذلك الآية لو جاءت مفصلة لقال: جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبتغوا من فضله.
واختلفوا في النفي من الأرض ما هو ؟ فقال الحجازيون: ينفي من موضع إلى موضع. وقال العراقيون: يسجن ويحبس والعرب تستعمل النفي بمعنى السجن. قال بعض المسجونين:
خرجنا من الدنْيا ونحن من أَهلها ... فلسنا من الأَموات فيها ولا الأَحيا
إِذا جاءَنا السَّجَّانُ يوماً لحاجة ... عجبنا وقلنا جاءَ هذا من الدنيا
ومن هذا النوع قوله صلى الله عليه وسلم: " أسرعكُنَّ لَحَاقاً بي أَطولكن يدا " .
والعرب تقول: فلان أطول يداً من فلان إذا كان أكرم منه قال الشاعر:
ولم يك أكثر الفتيان مالاً ... ولكن كان أطولهم ذراعا
ويروى: أرحبهم. ومن هذا النوع قوله تعالى: " من أَجل ذلكَ كتبنَا عَلَى بني إِسرائيل " .
قال قوم معناه من سبب ذلك كما يقال: فعلت ذلك من أجلك وقال قوم معناه: من جناية ذلك وجريرته، يقال: أجل عليهم شراً يأجله أجلاً إذا جناه، واحتجوا بقول خوات بن جبير الأنصاري:
وأهل خباءٍ صالح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله
وهذا النوع كثير جداً وأما الاشتراك العارض من قبل اختلاف أحوال الكلمة دون موضوع لفظها فمثل قوله تعالى: " ولا يضارَّ كاتبٌ ولا شهيد " قال قوم مضارة الكاتب أن يكتب ما لم يمل عليه ومضارة الشهيد أن يشهد بخلاف الشهادة وقال آخرون مضارتهما أن يمنعا من أشغالهما، ويكلفا الكتابة والشهادة في وقت يشق فيه ذلك عليهما. وإنما أوجب هذا الخلاف أن قوله: ولا يضار يحتمل أن يكون تقديره ولا يضارر بفتح الراء فيلزم على هذا أن يكون الكاتب والشهيد مفعولاً بهما لم يسم فاعلهما، وهكذا كان يقرأ ابن مسعود بإظهار التضعيف وفتح الراء.
ويحتمل أن يكون تقديره ولا يضارر بكسر الراء فيلزم على هذا أن يكون الكاتب والشهيد فاعلين. وهكذا كان يقرأ ابن عباس رضي الله عنه بإظهار التضعيف وكسر الراء.
ومثل هذا قوله تعالى: " لا تضارَّ والدةٌ بولدهَا ولا مولودٌ له بولده " .
وأما الاشتراك العارض من قبل تركيب الكلام وبناء بعض الألفاظ على بعض، فإن منه ما يدل على معان مختلفة متضادة، ومنه ما يدل على معان مختلفة غير متضادة.
فمن النوع الأول قوله تعالى: " وما يتلَى عليكُم في الكتاب في يَتَامَى النساء اللاتي لا تؤتونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهن، وتَرغَبُون أَن تنكحوهن " .
قال قوم: معناه: وترغبون في نكاحهن لمالهن.
وقال آخرون: إنما أراد وترغبون عن نكاحهن لدمامتهن وقلة مالهن.
وإنما أوجب هذا الخلاف أن العرب تقول رغبت عن الشيء إذا زهدت فيه، ورغبت في الشيء إذا حرصت عليه. فلما ركب الكلام تركباً سقط منه حرف الجر احتمل التأويلين المتضادين فصار كقول القائل:
ويرغب أن يبني المعالي خالد ... ويرغب أن يرضى صنيع الألائم
وهذا البيت يحتمل أن يكون مدحاً، وأن يكون ذماً. فإن جعلت الرغبة الأولى مقدرة بفي، والثانية مقدرة بعن كان مدحاً.
وإن جعلت الرغبة الأولى مقدرة بعن والثانية مقدرة بفي كان ذماً. ومن هذا النوع قول علي رضي الله عنه: أيها الناس !! تزعمون أني قتلت عثمان، ألا وإن الله قتله، وأنا معه.
أراد علي رحمه الله أن الله قتله، وسيقتلني معه، فعطف أنا على الهاء من قتله، وجعل الهاء في معه عائدة على عثمان رضي الله عنه.
وتأولته الخوارج على أنه عطف أنا على الضمير في قتله، أو على موضع المنصوب بأن كما تقول: إن زيداً قائم وعمرو. فرفع عمراً عطفاً على موضع زيد وما عمل فيه وجعلوا المسير في قوله معه عائداً على الله تعالى، فأوجبوا عليه من هذا اللفظ أنه شارك في قتل عثمان رضي الله عنه، ولذلك قال كعب بن جعيل:
إذا سيل عنه حدا شبهةً ... وعمّى الجواب عن السائلينا
فليس براض ولا ساخط ... ولا في النّهاة ولا الآمرينا
ولا هو ساه ولا سرّه ... ولا بد من بعض ذا أن يكونا
وإنما قال هذا لأن علياً رضي الله عنه كان يقول: إذا ذكر له قتل عثمان رضي الله عنه: والله ما أمرت ولا نهيت، ولا رضيت، ولا سخطت، ولا ساءني ولا سرني.
ونظير هذا الضمير في احتماله التأويلين المتضادين معاً قول خالد بن عبد الله القسري على المنبر: إن أمير المؤمنين كتب إلي أن ألعن علياً، فالعنوه لعنه الله. فأوهم أن الضمير راجع إلى علي، وإنما هو عائد على الآمر له بلعنه، ولذلك أنكر على خالد ما جاء به من اللفظ المشترك، فكان بعد ذلك يصرح بلعنه بألفاظ لا اشتراك فيها. وهذا النوع من الضمائر كثير في الكلام. فمنه قوله تعالى:
يجوز أن يكون الضمير الفاعل الذي في يرفعه عائداً على الكلم، والضمير المفعول عائداً على العمل فيكون معناه: إن الكلم الطيب، وهو التوحيد يرفع العمل الصالح، لأنه لا يصح عمل إلا مع إيمان.
ويجوز أن يكون الضمير الفاعل عائداً على العمل، والمفعول عائداً على الكلم، فيكون معناه أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب. وكلاهما صحيح، لأن الإيمان قول وعقد وعمل، لا يصح بعضها إلا ببعض.
ولو جعلت في هذه الآية اسم الفاعل مكان الفعل لاختلف اللفظان، لأن اسم الفاعل يستتر فيه ضمير ما هو له، ويظهر ضمير ما ليس له، فكان يلزم إذا جعلت الرفع للكلم أن تقول: والعمل الصالح رافعه هو. وإذا جعلت الرفع للعمل قلت: والعمل الصالح رافعه، فيستتر الضمير الفاعل، ولا يظهر، كما تقول: هند زيد ضاربته هي، إذا جعلت الضرب لهند، لأنه جرى خبراً على غير من هو له. فإذا جعلت الضرب لزيد قلت: هند زيد ضاربها، ولم يحتج إلى اظهار الضمير لجريانه خبراً على من هو له.
ومن هذا النوع من الضمائر قول زهير:
نظرت إليه نظرة فرأيته ... على كل حال مرة هو حامله
يجوز أن يكون الحامل هو الغلام، والمحمول هو الفرس، ويجوز أن يكون الأمر بعكس ذلك.
ومن هذا النوع من الضمائر قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق آدم على صورته ذهب قوم إلى أن الهاء عائدة على آدم، وقوم إلى أنها عائدة على الله تعالى.
وسنتكلم على هذا الحديث في موضع إن شاء الله تعالى.
ومن الضمائر المشتركة قول حسان:
ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم ... وفينا نبيٌّ عنده الوحي واضعه
ذهب سيبويه إلى أن الهاء في واضعه ترجع إلى الوحي، وذهب غيره إلى أنها راجعة إلى الذي، وكلا القولين صحيح المعنى.
فيكون معنى وضع النبي صلى الله عليه وسلم للوحي على قول سيبويه، أنه وضعه للناس بأمر الله عز وجل، فسن السنن، وفرض الفروض، ورتب الأشياء مراتبها، ويكون معناه على قول غيره: إن الوحي يضع عنده ما يصنعون. أي يبين له ما ترومونه، وتريدونه، ويظهر له ما تخفونه من مكركم. فتقدير الكلام على هذا: وفينا نبي الوحي واضع ما صنعتم عنده. وهذا القول عندي أظهر من قول سيبويه.
ويجوز أن يكون من الوضع الذي هو الإسقاط والإطراح فيكون معناه: إن الوحي يسقط الذي تصنعونه ويبطله.
ومن هذا النوع المشترك التركيب قوله تعالى: " حُرِّمَت عليكم أَمهاتكم... الآية " فإن هذه الآية في بعضها خلاف، وفي بعضها وفاق: فمن قوله تعالى: " حرمت عليكم أُمهاتكم " إلى قوله: " وأَخواتكم من الرضاعة تحريمُ مبهم متفق عليه " . وقوله تعالى: " وربائِبُكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن. تحريم غير مبهم " . ورفع قوله تعالى: " وأَمهاتُ نسائكم " . متوسطاً بين التحريمين. فجعل قوم أمهات النساء من التحريم المبهم، وجعله آخرون من التحريم غير المبهم، وقالوا إذا تزوج المرأة ولم يدخل بها لم تحرم عليه أمها وإنما أوجب هذا الخلاف أنه تبارك وتعالى أعاد في هذه الآية ذكر النساء مرتين، ثم قال على إثر ذلك: اللاتي دخلتم بهن. فمن جعل أمهات النساء من التحريم المبهم ذهب إلى أن اللاتي صفة للنساء المتصلات بالربائب خاصة دون النساء المتصلات بالأمهات. ومن جعلهن من التحريم غير المبهم ذهب إلى أن اللاتي دخلتم بهن. صفة للنساء المذكورات في الموضعين معاً. فصار خلاف الفقهاء في هذه الآية مبنياً على خلاف النحويين في جمع الصفة وتفريق الموصوف.
وذلك أن هذا الباب منه ما قد أجمع النحويون على جوازه، ومنه ما قد جمعوا على منعه، ومنه ما اختلفوا فيه.
فالذي اتفقوا على جوازه أن يتفق الموصوفان في الإعراب والعامل معاً كقولك مررت بزيد وأخيك العاقلين.
والذي اتفقوا على منعه أن يختلف الإعرابان والعاملان معاً كقولك: مررت بزيد، وهذا أبوك. لا يجيزون: العاقلان ولا العاقلين على الصفة. لكن على القطع، والنصب باضمار أعنى، والرفع بإضمار مبتدا كأنه قال: هما العاقلان.
والذي اختلفوا في جوازه أن يتفق الإعرابان ويختلف العاملان كقولك مررت بغلام زيد ونزلت على عمرو العاقلين. فقوم يجيزون أن يجعلوا العاقلين صفه لزيد وعمرو. وقوم يمنعون ذلك.
فلما كانت النساء الأول من قوله تعالى وأمهات نسائكم العامل فيهن الإضافة، والنساء الاخر العامل فيهن: من. اختلف العاملان فوجب ألا تكون اللاتي: خلتم بهن صفة لهما معاً على ما قلناه.
ولكن من أجازه من الفقهاء يمكنه أن يحتج بشيئين: أحدهما: أن يكون على مذهب من أجاز ذلك من النحويين والآخر: أن قوله تعالى: اللاتي. اسم مبني لا يظهر فيه الإعراب فيمكن أن يكون منصوباً بإضمار أعنى أو مرفوعاً بإضمار مبتدا. ولو ظهر الإعراب فيه أيضاً لم يمتنع أن يحمل على الإضمار لا على الصفة، فيكون نحو ما أنشده سيبويه من قول الشاعر:
أمن عمل الجرّاف أمس وظلمه ... وعدوانه أعتبتمونا براسم
أميري عداءٍ إن حبسنا عليهما ... بهائم مال أو ديا بالبهائم
ألا ترى أن قوله أميري عداء لا يجوز أن يكون بدلاً من الجراف وراسم لاختلاف العاملين، ولكنه على إضمار أعنى.
وكذلك قول الراجز:
إنّ بها أكتل أو رزاما ... خوير بين ينقفان الهاما
فخوير بين لا يجوز أن يكون مردوداً على أكتل ورزام لأنه أوجب أحدهما لدخول أو التي للشك بينهما. ألا ترى أنه لا يجوز رأيت زيداً أو عمراً منطلقين.
فهذا ونحوه من التركيب المشترك الذي يحتمل المعنى وضده، ونظيره من الشعر قوله:
قبيّلةٌ لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
ألا تراه قد أخرج هذا الكلام مخرج الهجو، ولولا أن في غير هذا البيت دليلاً على ذلك لكان من الثناء والمدح. وكذلك قول الآخر:
يجزون من ظلم أهل العلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
وأما التركيب الدال على معان مختلفة غير متضادة فكقوله تعالى: " وما قتلوه يقينا " .
فإن قوماً يرون الضمير من قتلوه عائداً إلى المسيح. وقوماً يرونه عائداً إلى العلم المذكور في قوله " ما لهم به من عِلم إِلا اتباع الظن " . فيجعلونه من قول العرب: قتلت الشيء علما ومن هذا النوع قوله تعالى: " يا أَيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " .
فإن الناس اختلفوا في هذا التشبيه من أين وقع ؟ فذهب قوم إلى أن التشبيه إنما وقع في عدد الأيام، واحتجوا بحديث رووه: إن النصارى كان فرض عليهم في الإنجيل صوم ثلاثين يوماً كالتي فرضت علينا، وإن ملوكهم زادوا فيها تطوعاً حتى صيروها خمسين، وذهب قوم آخرون إلى أن التشبيه إنما وقع في الفرض لا في عدد الأيام. وهذا القول هو الصحيح وإن كان القولان جائزين في كلام العرب، ألا ترى أنك إذا قلت: أعطيت زيداً كما أعطيت عمراً احتمل أن تريد تساوي العطيتين واحتمل أن تريد تساوي الاعطاءين، وإن كنت أعطيت أحدهما خلاف ما أعطيت الآخر وهذا يكثر إن تتبعناه، وقد أوردنا منه جملة تنبه على الغرض الذي قصدناه، وبالله التوفيق.
في الخلاف العارض من جهة الحقيقة والمجاز
وإنما كلامنا فيه على مذهب من أثبته، لأنه الصحيح الذي لا يجوز غيره، لقوله تعالى: " وما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُول إِلاّ بِلَسانِ قَوْمِه " . وقوله: " بلسان عربي مبين " . ولا وجه لإطالة القول في الرد على من أنكره، لأنا لم نقصد في كتابنا هذا مناقضة أحد من أهل المقالات، وإنما قصدنا الكلام في أصول الخلاف. فأقول والله الموفق إن المجاز ثلاثة أنواع: ونوع يعرض في أحوالها المختلفة عليها من إعراب وغيره.
ونوع يعرض في التركيب وبناء بعض الألفاظ على بعض.
مثال النوع الأول: الميزان، فإنه يكون المقدار الذي تعارفه الناس في معاملاتهم، ويكون العدل: تقول العرب: وازنت بين الشيئين إذا عادلت بينهما ورجل وازن: إذا كانت له حصافة ومعرفة قال كثير:
رأتني كأشلاء اللّجام وبعلها ... من القوم أبزى بادنٌ متباطن
فإن أك معروق العظام فإنني ... إذا ما وزنت القوم بالقوم وازن
ويروى أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عرض عليه عود غناء، وقيل له: ما هذا؟ فقال هذا هو الميزان الرومي، أراد أنه ميزان الغناء.
وقال بعض الشعراء يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
قد غيّب الدافنون اللّحد إذ دفنوا ... بدير سمعان قسطاس الموازين
فشبه عمر رضي الله عنه بالميزان لعدله.
ومن ذلك: السلسلة، فإن العرب تستعملها حقيقة، وتستعملها مجازاً على ثلاثة أوجه: الأول: أن يزيدوا بها الإجبار على الأمر والإكراه، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عجبت لقوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل.
والثاني: أن يريدوا بها المنع من الشيء والكف عنه كقول أبي خراش:
فليس كعهد الدار يا أُمّ مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السّلاسل
يريد بالسلاسل حدود الإسلام وموانعه التي كفت الأيدي الغاشمة عن غشمها. ومنعت من سفك الدماء إلا بحقها. ومن هذا قول الله تعالى: " إِنَّا جعلنا في أَعناقِهم أَغْلالاً فَهي إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُقْمَحُونَ " والثالث: أن يريدوا بها ما تتابع بعضه في إثر بعض واتصل كقولهم: تسلسل الحديث، وتسلسل الماء، ويقال ماء سلسل وسلسال وسلاسل. قال أوس بن حجر:
وأشبرّ نيه الهالكيّ كأنه ... غديرٌ جرت في متنه الريح سلسل
وقالوا سلاسل البرق، وسلاسل الرمل. قال ذو الرمة:
لأُدمانةٍ من وحش بين سويقة ... وبين الجبال العفر ذات السّلاسل
ومن هذا النوع قولهم فلان على الجبل، وعلى الدابة أي فوق كل واحد منهما فهذه حقيقة، ثم يقولون: علاه دين، وفلان أمير على البصرة يريدون بذلك القهر والغلبة. وكذلك قولهم: فلان في الدار وفي البيت. ثم يقولون: أنا في حاجتك، وإنما يريدون: أن حاجتك قد شغلتني فلم تدع في فضلاً لغيرها، فشبهوا ذلك بالمكان الذي يحيط بالمتمكن من جهاته الست، فلا يدع منه فضلاً لغيره.
وهذا كثير جداً في اللغة يكثر إن تتبعناه، فمنه قوله عز وجل: " فأَتى اللّه بنيانهم من القواعد " .
ذهب قوم إلى أن البنيان هنا حقيقة، وأنه أراد الصرح الذي بناه هامان لفرعون، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله: " وقَال فِرعَوْنُ يا هامانُ ابنِ لي صرحاً لعلي أَبلغ الأَسبابَ " .
وذهب آخرون إلى أنه كلام خرج مخرج التمثيل والتشبيه. قالوا: ومعناه أن ما بنوه من مكرهم، وراموا إثباته وتأصيله أبطله الله وصرفه عليهم، فكانوا بمنزلة من بنى بنياناً يتحصن به من المهالك، فسقط عليه فقتله، وشبهوه بقوله تعالى: " ولا يَحِيقُ المكرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بأَهلِه " .
والقولان جميعاً جائزان على مذهب العرب، ألا تراهم يقولون: بنى فلان شرفاً، وبنى مجداً، وليس هناك بنيان في الحقيقة قال عبدة بن الطبيب:
فما كان قيسٌ هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما
ويشبه هذا المعنى الذي ذهبوا إليه قول ابن أحمر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريّاً ومن جال الطوّىّ رماني
ويروى من جول الطوى والجال والجول ناحية البئر من أسفلها إلى أعلاها ومعناه: رماني بأمر رجع عليه مكروهه، فكأنه رماني من قعر البئر فرجعت رميته عليه فأهلكته. هكذا رواه قوم، وفسروه والمعروف: ومن أجل الطوى. وإنما كان يخاصمه في بئر يدعيها كل واحد منهما. فقال: رماني بأمر أنا ووالدي بريئان منه من أجل ما بيني وبينه من الخصام في الطوى، وعلى هذا يدل الشعر لأن قبله:
فلما رأى سفيان أن قد عزلته ... عن الماء مرمى الحائم الوحدان
ومن هذا النوع قوله عز وجل: " وإِنْ كانَ مكرُهم لِتَزُولَ مِنهُ الجبالُ " .
قوم يرون الجبال ها هنا حقيقة، وأنه أراد بذلك ما كان من صعود نمروذ بن كنعان في التابوت نحو السماء، فلما كر منحدراً نحو الأرض ظنته الجبال أمراً من عند الله، فكادت تزول من مواضعها.
وقوم آخرون يقولون: الجبال ها هنا تمثيل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أي إنهم مكروا به ليزيلوا أمره الذي قد رسخ رسوخ الجبال التي لا يستطاعه على إزالتها من مواضعها. والعرب تشبه الشيء الثابت بالجبل الشامخ، والصخرة الراسية، ألا ترى إلى قول زهير:
إلى باذخ يعلو ... على من يطاوله
وقال السموءل بن عادياء:
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النّجم فرعٌ لا ينال طويل
وقال الأعشى:
كناطح صخرة يوماً ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
فهذا كلام العرب. ومن هذا الباب قوله تعالى: " يَا بَني آدَمَ قَدْ أَنزلْنا عليكم لِباساً يوارِي سَوْآتكم " ومعلوم أن الله لم ينزل من السماء ملابس تلبس، وإنما تأويله والله أعلم أنه أنزل المطر فنبت عنه النبات، ثم رعته البهائم، فصار صوفاً وشعراً ووبراً على أبدانها، ونبت عنه القطن والكتان، فاتخذت من ذلك أصناف الملابس، فسمى المطر لباساً، إذ كان سبباً لذلك على مذاهب العرب في تسمية الشيء باسم الشيء إذا كان منه بسبب، وهذا يسميه أصحاب المعاني: التدريج.
ونحوه قولهم للمطر سماء لأنه ينزل من السماء، وللنبت ندىً لأنه عن الندى يكون، وللشحم ندىً، لأنه عن النبت يكون قال ابن أحمر:
كثور العذاب الفرد يضربه الندى ... تعلّى الندى في متنه وتحدّرا
وقال معاوية بن مالك معود الحكماء:
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
نحوه قول الراجز:
الحمد للّه العزيز المنّان ... صار الثريد في رؤوس العيدان
يريد السنبل.
ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟.
جعلته المجسمة نزولاً على الحقيقة تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً وقد أجمع العارفون بالله تعالى على أنه لا ينتقل، لأن الانتقال من صفات المحدثات. ولهذا الحد تأويلان صحيحان لا يقتضيان شيئاً من التشبيه: أحدهما: أشار إليه مالك بن أنس رضي الله عنه، وقد سئل عن هذا الحديث، فقال: ينزل أمره في كل سحر، فأما هو عز وجل فإنه دائم لا يزول.
وسئل عنه الأوزاعي فقال: يفعل الله ما يشاء. وهذا تلويح يحتاج إلى تصريح، وخفى إشارة يحتاج إلى بين عبارة.
وحقيقة الذي ذهبنا إليه أن العرب تنسب الفعل إلى من أمر به كما تنسبه إلى من فعله وباشره بنفسه، فيقولون: كتب الأمير لفلان كتاباً، وقطع الأمير يد اللص، وضرب السلطان فلاناً ألف سوط، وهو لم يباشر شيئاً من ذلك بنفسه. إنما أمر به، ولأجل هذا احتيج إلى التأكيد الموضوع في الكلام، فقيل: جاء زيد نفسه، ورأيت زيداً نفسه.
فمعناه على هذا أن الله تعالى يأمر ملكاً بالنزول إلى السماء الدنيا، فينادي بأمره، وقد تقول العرب جاء فلان، إذا جاء كتابه ووصيته، ويقولون للرجل: أنت ضربت زيداً، وهو لم يضربه إذا كان قد رضى بذلك وشايع عليه قال الله تعالى: " فلِمَ تقتلون أَنبياءَ اللّه ؟ " . والمخاطبون بذلك لم يقتلوا نبياً، ولكنهم لما رضوا بذلك، وتولوا قتلة الأنبياء، وشايعوهم على فعلهم نسب الفعل إليهم، وإن كانوا لم يباشروه.
وعلى نحو هذا يتأول قوله تعالى: " فأَتى اللّهُ بُنْيانَهُم مِنَ القَواعِد " .
فهذا تأويل كما قال صحيح جاء على فصيح كلام العرب في محاوراتها، والمتعارف من أساليبها، وهو شرح ما أراده مالك والأوزاعي رحمهما الله.
ومما يقوى هذا التأويل، ويشهد بصحته أن بعض أهل الحديث رواه. ينزل الله، بضم الياء وهذا واضح.
والتأويل الثاني أن العرب تستعمل النزول على وجهين أحدهما حقيقة، والآخر مجاز واستعارة.
فأما الحقيقة فانحدار الشيء من علو إلى سفل كقوله تعالى: " ويُنَزِّل مِنَ السَّماءِ من جبال فيها من بَرَد " .
وكقول امرئ القيس:
هو المنزل الألاّف من جوّ ناعطٍ ... بنى أسد حزناً من الأرض أوعرا
وأما الاستعارة والمجاز فعلى أربعة أوجه: أحدها: الإقبال على الشيء بعد الإعراض، والمقاربة بعد المباعدة يقال: نزل البائع في سلعته إذا قارب المشتري بعد مباعدته، وأمكنه منها بعد منعه، ويقال: نزل فلان عن أهله: أي تركها وأقبل على غيرها، ومنه قول الشاعر:
أنزلني الدهر على حكمه ... من شاهق عال إلى خفض
فأما الأقسام الباقية من معنى النزول فلا مدخل لها في هذا الحديث، وإنما نذكرها لتوفية معنى النزول ولأنها مما يحتاج إليه في غير هذا الحديث.
فمنها ما يراد به ترتيب الأشياء ووضعها مواضعها اللائقة بها، كقوله تعالى: " ونَزَّلْنَاه تَنْزِيلا " . أي رتبناه مراتبه ووضعناه مواضعه، ومن ذلك قولهم: نزل فلان عند الملك منزلة حسنة، أو منزلةً قبيحة، ومنه قول الشاعر:
أنزلوها بحيث أنزلها اللّه ... بدار الهوان والإتعاس
ومنها ما يراد به الإعلام والقول كقوله تعالى: " ومَنْ قَال سَأُنزِلُ مثل ما أَنزلَ اللّهُ " . أي أقول مثل ما قال الله وأعلم بمثل ما أعلم. ومن هذا إنزال الوحي إنما معناه أن جبريل تلقاه عن الله تعالى وأداه إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو راجع إلى معنى الإقبال الذي قدمناه.
ومنها ما يراد به الانحطاط عن المرتبة والذلة كقولهم: نزلت منزلة فلان عند الملك. أي انحطت، ويجوز أن يكون قوله:
أنزلني الدهر على حكمه
من هذا المعنى.
وقد تستعمل العرب النزول في النماء والزيادة، وهو ضد ما ذكرناه قبل هذا، فيقولون: طعام له نزل، أي بركة ونماء، وأرض نزلة. إذا كانت كثيرة الكلأ وتركت القوم على نزلاتهم إذا كانوا في خصب وحسن حال.
وقد يستعملونه أيضاً على معنىً آخر يقولون: نزل القوم إذا أتوا منىً، ويقال لمنى المنازل قال الشاعر:
أنازلة يا أسم أم غير نازله ... أبيني لنا يا أسم ما أنت فاعله
فجميع مواضع هذه الكلمة سبعة. فهذه وجوه النزول في كلام العرب.
ومما غلطت فيه المجسمة أيضاً قوله تعالى: " اللّهُ نُورُ السمواتِ والأَرضِ " .
فتوهموا أن ربهم نور تعالى الله عن قول الجاهلين وإنما المعنى: الله هادي أهل السموات والأرض، والعرب تسمى كل ما جلى الشبهات، وأزال الالتباس، وأوضح الحق نوراً.
قال الله تعالى: " وأَنْزَلْنا إِليكم نوراً مُبيناً " .
يعني القرآن. وعلى هذا المعنى سمى نبيه صلى الله عليه وسلم سراجاً منيراً.
وقال العباس بن عبد المطلب يمدحه:
وأنت لما ظهرت أشرقت ... الأرض وضاءت بنورك الأُفق
وعلى هذا مجرى كلام العرب. قال امرؤ القيس:
أقرّ حشى امرئ القيس بن حجر ... بنو تيمٍ مصابيح الظّلام
وقال النابغة الذبياني:
لا يبعد اللّه جيراناً تركتهم ... مثل المصابيح تجلو ليلة الظّلم
وقال الآخر:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النّجوم التي يسري بها السّاري
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. ولو منحت المجسمة طرفاً من التوفيق، وتأملت الآية بعين التحقيق لوجدت فيها ما يبطل دعواهم دون تكلف تأويل، ومن غير طلب دليل، لأنه قال تعالى بعقب الآية: " ويَضرِبُ اللّهُ الأَمثالَ للنَّاسِ واللّه بكل شَيْءٍ عليمٌ " فأخبرنا أن ما ذكره في الآية العزيزة من النور والمشكاة والمصباح والزجاجة والزيتونة والشجرة أمثال مضروبة بعقلها عن الله تعالى من وفق لفهمها وكشفت له الحجب عن مكنون سرها وعلمها كما قال تعالى: " وتِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها للنَّاسِ وَمَا يَعْقِلها إِلا العالِمون " .
فإن قلت: كيف وقع هذا التمثيل، وما المراد به ؟ فالجواب أنه شبه صدر المؤمن بالمشكاة، وقلبه بالزجاجة، ونور الهدى الذي يضعه في قلبه بالمصباح، وشبه مادة الهدى المنبعثة من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم التي تزيد في بصائر المؤمنين، وتحفظ نور الإيمان عليهم، وتمنعه من أن يغلب عليه الشك فيطمسه بمادة الزيت التي تمد المصباح لئلا يطفأ نوره، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم بالزيتونة، إذ كان الهدى إنما ينبعث من قبله كانبعاث الزيت من الزيتونة. وجعل الزيتونة لا شرقية ولا غربية لأن ظهوره ومبعثه إنما كان بمكة، ومكة متوسطة بين المشرق والمغرب.
فهذا ونحوه من الحقيقة والمجاز العارضين في موضوع الكلمة. وأما الحقيقة والمجاز العارضان فيها من قبل أحوالها فإنهما كثيران أيضاً ككثرة النوع الأول فمن ذلك قولهم: مات زيد فيرفعونه كما يرفعون قولهم أمات الله زيداً وأحدهما حقيقة والآخر مجاز ومنه قوله تعالى: " فإِذَا عَزمَ الأَمرُ " . والأمر لا يعزم وإنما يعزم عليه قال النابغة:
وإن الدّين قد عزما
ويقولون: أعطى ثوب زيداً، وإنما الوجه أعطى زيد ثوبا، لأن زيداً هو الآخذ للثوب والمتناول له. وولد له ستون عاماً. والمعنى ولد له الأولاد في ستين عاماً.
ونحوه قوله تعالى: " بل مَكْرُ الليلِ والنَّهَارِ " وإنما المراد بل مكركم في الليل والنهار، وأنشد سيبويه:
أما النهار ففي قيدٍ وسلسلةٍ ... والليل في قعر منحوت من السّاج
وتقول العرب: نهارك صائم، وليلك قائم وقال جرير:
لقد لمتنا يا أُمّ غيلان في السّرى ... ونمت وما ليل المطيّ بنائم
وقال حميد بن ثور الهلالي:
ومطويّة الأقراب أمّا نهارها ... فسبتٌ وأما ليلها فذميل
وأما المجاز والحقيقة العارضان من طريق التركيب وبناء بعض الألفاظ على بعض فنحو الأمر يرد بصيغة الخبر، والخبر يرد بصيغة الأمر، والإيجاب يرد بصيغة النفي، والنفي يرد بصيغة الإيجاب، والواجب يرد بصيغة الممكن أو الممتنع، والممكن والممتنع يردان بصيغة الواجب، والمدح يرد بصورة الذم، والذم يرد بصورة المدح، والتقليل يرد بصورة التكثير، والتكثير يرد بصورة التقليل، ونحو ذلك من أساليب الكلام التي لا يقف عليها إلا من تحقق بعلم اللسان.
وكل نوع من هذه يقصد به غرض من أغراض البيان، ونحن نذكر من كل نوع من هذه الأنواع أمثلة تشهد بصحة ما قلناه ليحتذى فيما لم نذكره على ما ذكرناه إن شاء الله تعالى.
أما الأمر الوارد بصيغة الخبر فكقولهم: حسبك درهم، فإن صيغة هذا الكلام كصيغة قولك أخوك منطلق، وأبوك زيد، ومعناه معنى الأمر لأن تقديره لكفك درهم، أو اكتف بدرهم قال امرؤ القيس:
وحسبك من غنىً شبعٌ وريٌّ
ومن هذا قولهم في الدعاء: غفر الله لزيد، ورحمك الله، وسلام عليك. ومنه قوله تعالى: " والْوَالِداتُ يُرْضِعْنَ أَولادَهُن حَوْلَين كامِلَين لمن أَرادَ أَنْ يتمَّ الرضاعة " .
وإنما المعنى ليرضع الوالدات أولادهن لم يخبرنا وإنما أمرنا. وأما الخبر الوارد بصيغة الأمر فكقولهم في التعجب: أحسن بزيد، فإن صيغته كصيغة قولك أحسن إلى زيد، وأحدهما خبر، والآخر أمر، لأن معنى أحسن بزيد: ما أحسن زيداً فإنما أنت مخبر لا آمر، ومكان الباء وما عملت فيه رفع، ومكان إلى وما عملت فيه نصب. ومنه قوله تعالى: " أَسْمِع بِهِم وأَبصِرْ " أي ما أسمعهم وأبصرهم.
وأما الإيجاب الوارد بصيغة النفي فكقولهم: ما زال زيد عالماً. فإن صيغته كصيغة قولك ما كان زيد عالماً، الأول إيجاب، والثافي نفي، فإذا أدخلت على هذه الجملة إلا التي للإيجاب، فقلت ما زال زيد إلا عالماً صارت صيغته صيغة الموجب، ومعناه معنى النفي، والعلة في ذلك أن قولك: زال زيد عالماً لو كان مما يستعمل لكان معناه النفي، لأن معناه زال عن العلم وانتفى منه، فإذا أدخلت عليه ما النافية رجع إيجاباً، لأن النفي الثاني يبطل النفي الأول، فإذا أدخلت إلا بطل النفي الثاني الذي أوجبته ما، وعاد النفي الأول إلى حاله، فصار قولك ما زال زيد إلا عالماً بمنزلة قولك: زال زيد عالماً.
فمن النحويين من يرى أن قولك ما زال زيد إلا عالماً إنما امتنع من الجواز لأن دخول ما في صدر المسألة يوجب له العلم، ودخول إلا في آخرها تنفي عنه العلم، فتصير نافياً مثبتاً للخبر في حال واحدة.
ومنهم من يقول إنما استحال لأن دخول إلا عليه تبطل ما لأنها مناقضة لها فكأنك قلت: زال زيد عالماً، وهذا غير جائز، لأن العرب لم تستعمل زال الداخلة على الابتداء والخبر إلا مع ما.
ومنهم من يقول: إنما استحال لأن قولك ما زال زيد عالماً كلام موجب وإن كان بصورة النفي، فلما كان كذلك لم يجز دخول إلا عليه، لأن إلا إنما وضعت لتوجب ما كان منفياً قبل دخولها، فإذا كان الكلام موجباً بنفسه استغنى عنها.
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلّت
قال أصحاب المعاني: معناه لم يشيموا سيوفهم إلا وقد كثرت القتلى بها حين سلت. فمعناه كما ترى إيجاب، وصيغته وظاهره نفي، وإنما وجب هذا لأن قوله: ولم تكثر القتلى ليس بجملة منقطعة من الجملة التي قبلها. معطوفة عليها على حد عطف الجمل على الجمل، وإنما هي في موضع نصب على الحال من السيوف، وتقدير الكلام: لم يشيموا سيوفهم غير كثيرة القتلى بها حين سلت.
فصار بمنزلة قولك: لم يجئ زيد ولم يركب فرسه. إذا جعلت قولك: ولم يركب فرسه في موضع الحال من زيد. تقديره: لم يجئ زيد غير راكب فرسه، فمحصول أنه جاء راكباً فرسه. فظاهره نفي، ومعناه إيجاب.
وقد يجوز في المسألة أن يريد أنه لم يجئ، ولم يركب فتنفي الفعلين معاً، وتجعلهما جملتين ليست إحداهم متعلقة بالأخرى إلا على جهة العطف فقط.
وأما النفي الوارد بصورة الإيجاب فنحو قولهم لو جاءني زيد لأكرمته. فصورته صورة كلام موجب، لأنه ليست فيه أداة من أدوات النفي، وهو منفي في المعنى لم يقع المجئ ولا الإكرام، فإذا دخل عليه حرف النفي، فقيل: لو لم يشتمني زيد لم أضربه صارت صورته صورة النفي، ومعناه معنى الواجب، ومن أجل هذا قال النحويون في قول امرئ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
إن نصب القليل ها هنا محال، لأنه لو نصبه لأوجب أنه قد طلب قليلاً من المال، وهذا خلاف ما أراده الشاعر، ألا تراه يقول بعد هذا:
ولكنما أسعى لمجد مؤثّل ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي
فأخبر ببعد همته وعلوها، وأنه إنما يطلب الملك والرياسة، ألا ترى أن النحويين قد جعلوا قوله: ولم أطلب قليلاً بالنصب إيجاباً وظاهره نفي. وإنما عرض هذا من قبل دخول لو في أول البيت. وقد أعلمتك أن إيجابها نفي ونفيها إيجاب.
ومن هذا قوله تعالى: " ولو شئنا لآتينا كلَّ نفس هُداها " .
" ولو شاءَ ربك لآمن من في الأَرض كلهم جميعاً " وأما ورود الواجب بصورة الممكن فكقوله تعالى: " فعسى اللّه أَن يأَتي بالفتح " وقوله تعالى: " عسى أَن يبعثك ربك مقاماً محموداً " .
وهذا واجب ثابت، وصورته صورة الممكن المشكوك فيه، والعرب تفعل هذا تحريراً للمعاني واحتياطاً عليها، ومنه قول الشاعر:
لعلّي إذا مالت بي الريح ميلةً ... على ابن أبي زيّان أن يتندّما
فأخرج كلامه مخرج الإمكان، وإنما يريد أنه يتندم لا محالة.
وأما ورود الممتنع بصورة الممكن فكقول امرئ القيس:
وبدّلت قرحاً دامياً بعد صحة ... لعلّ منايانا تحوّلن أبؤساً
وتحول المنايا أبؤسا من الممتنع الذي لا يمكن وقد جعله كما ترى في صورة الممكن على العلم منه أنه ليس كذلك تقللاً بذلك واستراحة مما كان فيه من عظيم البلاء.
ونحوه قول كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه:
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
فقلت ادع أُخرى وارفع الصوت دعوةً ... لعل أبا المغوار منك قريب
يجبك كما قد كان يفعل إنه ... نجيبٌ لأبواب العلاء طلوب
وقال النابغة يرثي النعمان:
فإن تحي لا أملل حياتي وإن تمت ... فما في حياةٍ بعد موتك طائل
ومن هذا قول الرجل المحرق لبنيه: " إِذا أَنا مِتُّ فَأَحرقوني، ثم اذرُوا رمَادِي في اليَمِّ، فلَعَلِّي أُضِلُّ اللّهَ، فواللّه لَئِن قَدَر اللّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنيِّ عذاباً شديداً " .
ألا ترى أنه قد أخرج ما قد تحقق أنه لا يكون مخرج ما يرجى أن يكون، تقللاً بذلك، واستراحة إليه، كما فعل امرؤ القيس حين اشتد به البلاء في قوله: لعل منايانا تحولن أبؤساً.
وهو لا يشك في أن الذي رجا ممتنع.
ومن أبين ما في ذلك قول الآخر:
أخادع نفسي بالأماني تعلّلاً ... على العلم منيّ أنّها ليس تنفع
وأما قوله: فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً شديداً، فمعناه فوالله لئن ضيق الله علي طرق الخلاص ليعذبني. وليس يشك في قدرة الله، ولو شك في قدرته لكان كافراً. وإنما هو كقوله تعالى: " فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيهِ " وقوله:
ويجوز أن يكون من القدر الذي هو القضاء، فيكون معناه: " فواللّه لئن قَدَّرَ اللّه علي لَيُعذِّبَنِّي العذابَ " فحذف المفعول اختصاراً كما قال النابغة الجعدي:
حتى لحقنا بهم تعدي فوارسنا ... كأننا رعن قفٍّ يرفع الآلا
أراد تعدي قوارسنا الخيل.
وقد يجوز أن يكون قوله: فوالله لئن قدر الله علي من القدرة على الشيء. فإن قيل: كيف يصح هذا. ودخول الشرط عليه قد جعله من حيز الممكن الذي يجوز أن يكون، ويجوز أن لا يكون، وهذه خاصة الشرط ؟ ألا ترى أنك إذا قلت: إن جاءني زيد أكرمته فممكن أن يقع ذلك، وممكن ألا يقع. وهذا شك محض في قدرة الله تعالى ؟؟ فالجواب أن العرب قد تستعمل إن التي للشرط بمعنى إذا كما تستعمل إذا بمعنى إن. وإذا تقع على الشيء الذي لا يشك في كونه كقولك إذا كان الليل فأتني، وكون الليل لا بد منه. وكقوله تعالى: " إِذا السماءُ انْفَطرتْ " فمعناه على هذا: فوالله إذا قدر الله علي ليعذبني عذاباً شديداً.
وإنما جاز وقوع إن التي للشرط موقع إذا الزمانية لأن كل واحدة منهما تحتاج إلى جواب، والشيئان إذا تضارعا جاز أن يقع كل واحد منهما موقع صاحبه، فمما وقعت فيه إن موقع إذا قوله تعالى: " لَتَدْخُلُنَّ المسْجدَ الحرام إِنْ شاءَ اللّهُ آمنين " وقول النبي صلى الله عليه وسلم حين وقف على القبور: " وإِنَّا إِنْ شاءَ اللّهُ بكم لاحِقُونَ " يريد إذا شاء الله.
ومنه قول الشاعر:
فإن لا يكن جسمي طويلاً فإنّني ... له بالفعال الصالحات وصول
معناه: فإذا لم يكن جسمي طويلاً فإنني أطيله بالأفعال الحسان ولا يصلح الشرط ها هنا لأن قصر جسمه شيء قد كان ووقع، فالشرط هنا محال، ومثله قول الآخر.
فإن أك قد فارقت نجداً وأهله ... فما عهد نجد عندنا بذميم
وأما وقوع إذا بمعنى إن فكقول أوس بن حجر:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليماً أو أصابك جاهل
والإعراض عن الخنا ممكن أن يكون، وممكن أن لا يكون، فليس هذا من مواضع إذا إنما هو من مواضع إن.
وأما ورود المدح في صورة الذم فكقولهم: أخزاه الله ما أشعره !! ولعنه الله ما أفصحه، وكقول كعب بن سعد الغنوي:
هوت أُمّه ما يبعث الصبح غادياً ... وماذا يردّ الليل حين يؤوب
وذكر ابن جني أن أعرابياً رأى ثوباً، فقال ماله محقه الله ؟ قال: فقلت له: لم تقول هذا ؟ فقال: إنا إذا استحسنا شيئاً دعونا عليه.
وأصل هذا أنهم يكرهون أن يمدحوا الشيء، فيصيبونه بالعين، فيعدلون عن مدحه إلى ذمه. وأما ورود الذم في صورة المدح فكقوله تعالى: " إِنَّكَ لأَنْتَ الحلِمَ الرشيدُ " .
وقول الشاعر:
وقلت لسيّدنا يا حليم ... إنّك لم تأس أسواً رفيقا
وأما التقليل الوارد بصورة التكثير فنحو قوله: كم بطل قتل زيد، وكم ضيف نزل عليه !! وأنت تريد أنه لم يقتل بطلاً قط، ولا قرى ضيفاً، ولكنك تقصد الاستهزاء به، كما تقول للبخيل يا كريم، وللأحمق يا عاقل.
وأما التكثير الوارد بصورة التقليل فنحو قولك: رب ثوب حسن قد لبست، ورب رجل عالم قد لقيت، فتقابل ما لبست من الثياب، ومن لقيت من العلماء تواضعاً ليكون أجل لك في النفوس، لأن الرجل إذا حقر نفسه تواضعاً ثم اختبر فوجد أعظم مما وصف به نفسه عظم في النفوس، وإذا تعاظم، وأنزل نفسه فوق منزلتها ثم اختبر فوجد أقل مما قال. استخف به، وهان على كل من كان يعظمه.
وقد يستعمل تقليل الشيء وهو كثير في الحقيقة لضروب من الأعراض والمقاصد، كالرجل يهدد صاحبه فيقول له: لا تعادني فربما ندمت، وهذا مكان ينبغي أن تكثر فيه الندامة، وليس بموضع تقليل، وإنما تأويله أن الندامة على هذا لو كانت قليلة لوجب أن يتجنب ما يؤدي إليها، فكيف وهي كثيرة ؟ فصار فيه من معنى المبالغة ما ليس في التكثير لو وقع ها هنا.
ومن هذا قوله تعالى: " رُبَما يَوَدُّ الذين كَفرُوا لو كانوا مسلمين " .
وإنما تأتي رب بمعنى التكثير في مواطن الافتخار، والوجه في ذلك أن المفتخر يريد: أن الأمر الذي يقل وجوده من غيره يكثر وجوده منه فيستعير لفظ التقليل في موضع التكثير إشارة إلى هذا المعنى، وليكون أبلغ في الافتخار.
فمن مشكل هذا الباب قول أبي كبير الهذلي:
أزهير إن يشب القذال فإنني ... رب هيضل مرس لففت بهيضل
ورب هنا مخففة من رب.
وقول أبي عطاء السندي:
فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود
والمراد بهذين البيتين التكثير، ولكن خرجا مخرج التقليل ليكون أمدح، والمعنى أن هذا لو كان قليلاً لكان فيه فخر لصاحبه، فما ظنك به وهو كثير.
ويحتمل قول أبي عطاء السندي أن يكون أراد تقليل مدة حياة المرثي التي كثرت عليه فيها الوفود. فعلى نحو هذه التأويلات يتأول ما ورد مخالفاً للأصول، وملاك هذا الباب معرفة الحقيقة والمجاز، وهو باب يدق على من لم يتمهر في هذه الصناعة، فلذلك ينكر كثيراً مما هو صحيح، ولله در أبي الطيب حيث يقول:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدر القرائح والعلوم
ومن طريق المجاز العارض من طريق التركيب إيقاعهم أدوات المعاني على السبب، ومرادهم المسبب تارة، وتارة يوقعونها على المسبب ومرادهم السبب، وإنما يفعلون هذا لتعلق أحدهما بالآخر.
فمثال الأول قوله تعالى: " فلا تَموتُنَّ إِلاَّ وأَنتم مسلمون " .
فأوقع النهى على الموت في اللفظ، والموت ليس بفعل لهم فيصح نهيهم عنه، وإنما نهاهم عن مفارقة الإسلام، فمعناه لا تفارقوا الإسلام حتى تموتوا عليه. فأوقع النهى على الموت لأنه السبب الذي من أجل توقعه وخوفه يلزم الإنسان أن يستعد لوروده، ويتأهب له بصالح عمله.
والثاني مثل قوله تعالى: " فما تَنفعُهم شفاعةُ الشَّافِعِين " .
وليس المراد إثبات شفاعة غير نافعة، لأنه لا شفاعة هناك في الحقيقة بدليل قوله تعالى: " فما لَنا مِنْ شافِعِين ولاَ صَديق حَمِيم " .
فأوقع النفي على المنفعة التي هي المسبب، ومراده تعالى الشفاعة التي هي السبب، فكأنه قال: ما تكون شفاعة، فتكون منفعة.
ونحوه قولك: ما نفعني كلام زيد. فهذا كلام يحتمل معنيين: أحدهما: أن تريد إثبات الكلام ونفى المنفعة وحدها.
والثاني: أن تريد نفيهما معاً أي لم يكن منه كلام، فتكن منه منفعة.
ومثله قول امرئ القيس:
على لا حب لا يهتدى بمناره
ولم يرد إثبات المنار، ونفى الهداية، ولو كان ثم منار لكانت ثم هداية، وإنما المعنى ليس به منار فتكون هداية.
ومن هذا قول العرب: لا أرينك ها هنا أي لا تكون ها هنا فإني أراك، فالمراد بالنهى الكون لا الرؤية.
ونحوه قول النابغة:
لا أعرفن ربربا حوراً مدامعها ... كأن أبكارها نعاج دوّار
فعلى هذا مجرى الباب.
في الخلاف العارض من جهة الإفراد والتركيب
فإن كل واحدة من هذه الآيات قائمة بنفسها، مستوفية للغرض المراد منها فكذلك الأحاديث الواردة كقوله عليه السلام: الزعيم غارم، والبينة على المدعي واليمين على المدعي عليه.
وربما وردت الآية غير مستوفية للغرض المراد من التعبد، وورد تمام الغرض في آية أخرى، وكذلك الحديث. كقوله عز وجل:
فظاهر هذه الآية أن من أراد حرث الدنيا أوتي منها، ونحن نشاهد كثيراً من الناس يحرصون على الدنيا ولا يؤتون شيئاً منها. فهذا كلام محتاج إلى بيان وإيضاح.
ثم قال في آية أخرى: " مَنْ كانَ يُريدُ العاجِلَةَ عَجَّلْنا له فيها ما نشاءُ لمن نُريدُ " .
فإذا أضيفت هذه الآية إلى الآية الأولى بان مراد الله تعالى، وارتفع الإشكال.
وكذلك قوله تعالى: " وإِذا سأَلك عبادي عني فإِني قريبٌ أُجِيبُ دعوة الداع إِذا دعان " .
ثم قال في آية أخرى: " بَلْ إِيَّاه تَدْعُونَ، فيكشفُ ما تَدْعُون إِليه إِن شَاءَ " .
فدل اشتراط المشيئة في هذه الآية الثانية على أنه مراد في الآية الأولى. وربما وردت الآية مجملةً ثم يفسرها الحديث، كالآيات الواردة مجملة في الصلاة والزكاة والصيام والحج، ثم شرحت السنة والآثار جميع ذلك.
وكقوله تعالى: " والَّلاتِي يَأَتِينَ الفاحِشةَ مِنْ نِسائِكمْ فاسْتَشْهِدُوا عليهن أَربعةً منكم، فإِن شَهدُوا فأَمُسِكُوهنَّ في البيوت حتَّى يَتَوفَّاهُنَّ الموتُ، أَو يجعلَ اللّه لَهُنَّ سَبيلاً " .
ثم قال صلى الله عليه وسلم خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.
ولأجل هذا صار الفقيه مضطراً في استعمال القياس إلى الجمع بين الآيات المفترقة، والأحاديث المتغايرة، وبناء بعضها على بعض ووجه الخلاف العارض من هذا الموضع أنه ربما أخذ بعض الفقهاء بمفرد الآية وبمفرد الحديث، وبنى آخر قياسه على جهة التركيب الذي ذكرناه بأن يأخذ بمجموع آيتين أو بمجموع حديثين، أو بمجموع آيات، أو بمجموع أحاديث، فتفضى بهما الحال إلى الاختلاف فيما ينتجانه، وربما أفضت بهما الحال إلى التناقض، فأحل أحدهما ما يحرمه الآخر، وربما أفضى بهما الأمر إلى اختلاف العقائد فقط، وربما أفضى بهما إلى الاختلاف في الأسباب فقط، كاختلافهم في سبب تحريم الخمر. فإن قوماً يستدلون على وجوب تحريمها بمجرد قوله عز وجل: " وما آتاكم الرسُولُ فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " وقوم يستدلون على وجوب تحريمها لمجرد قوله: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان إلى قوله: فهل أنتم منتهون.
وقوم يرون ذلك بطريق التركيب، وبناء الألفاظ بعضها على بعض وذلك أنه لما قال تبارك وتعالى: " يسأَلونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إِثم كبير ومنافع للناس " . ثم قال في آية أخرى: " قل إِنَّما حرَّمَ ربِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهرَ مِنْها وما بَطَن والإِثمَ " .
تركب من مجموع الآيتين قياس أنتج تحريم الخمر، وهو أن يقال: كل اثم حرام، والخمر إثم، فالخمر إذاً حرام.
ومثل هذا قوله تعالى فيما حكاه عن قوم لوط " أَتأَتون الفاحشة ما سبقكم بها من أَحد من العالمين " . ثم قال في هذه الآية التي ذكرناها: " قل إِنما حرَّم ربيَ الفواحِشَ ما ظهرَ منها وما بَطَن " .
فركب من مجموع الآيتين قياس وهو: كل فاحشة حرام، وفعل قوم لوط فاحشة، ففعل قوم لوط إذاً حرام.
فعلى مثل هذا أنتجت النتائج، وركبت القياسات، ووقع بين أصحاب القياس الخلاف بحسب تقدم القائس أو بحسب تأخره.
وخالفهم قوم آخرون لم يروا القياس، ورأوا الأخذ بظاهر الألفاظ، فنشأ من ذلك نوع آخر من الخلاف.
ومما اختلفت فيه أقوال الفقهاء لأخذ كل واحد منهم بحديث مفرد اتصل به ولم يتصل به سواه، ما روى عن عبد الوارث بن سعيد أنه قال: قدمت مكة فألفيت فيها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة، فأتيت أبا حنيفة، فقلت ما تقول في رجل باع بيعاً وشرط شرطاً ؟؟ فقال: البيع باطل والشرط باطل.
فأتيت ابن أبي ليلى، فسألته عن ذلك، فقال: البيع جائز، والشرط باطل، فأتيت ابن شبرمة، فسألته عن ذلك فقال: البيع جائز، والشرط جائز. فقلت في نفسي: يا سبحان الله !! ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على مسألة !! فعدت إلى أبي حنيفة، فأخبرته بما قال صاحباه فقال: ما أدري ما قالا لك ؟ حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، فالبيع باطل، والشرط باطل.
قال: فعدت إلى ابن شبرمة فأخبرته بما قال صاحباه، فقال ما أدري ما قالا لكن حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر. قال: بعت النبي صلى الله عليه وسلم بعيراً، وشرط لي حملانه إلى المدينة. البيع جائز والشرط جائز.
وقد ترد الآية والحديث بلفظ مشترك يحتمل تأويلات كثيرة، ثم ترد آية أخرى وحديث آخر بتخصيص ذلك اللفظ المشترك، وقصره على بعض تلك المعاني دون بعض كقوله عز وجل: " ووجدك ضَالاًّ فهدى " .
فإن لفظة الضلال لما كانت مشتركة تقع على معان كثيرة توهم قوم ممن لم يكن لهم فهم صحيح بالقرآن، ولا معرفة ثاقبة باللسان، أنه أراد الضلال الذي هو ضد الهدى، فزعموا أنه كان على مذهب قومه أربعين سنة. وهذا خطأ فاحش نعوذ بالله من اعتقاده فيمن طهره الله لنبوته، وارتضاه لرسالته، ولو لم يكن في القرآن العزيز ما يرد قولهم لكان فيما ورد من الأخبار المتواترة ما يرد عليهم. ذلك لأنه قد روى أنهم كانوا يسمونه في الجاهلية الأمين، وكانوا يرتضونه حكماً عليهم، ولهم. وكانت عندهم أخبار كثيرة يروونها وإنذرات من أهل الكتاب والكهان بأنه يكون نبياً.
ولولا أن كتابنا هذا ليس موضوعاً لها لاقتصصناها، فكيف والقرآن العزيز قد كفانا هذا كله، فقوله عز من قائل في سورة يوسف: " نحنُ نقصُّ عليك أَحسن القصص بما أَوحينا إِليك هَذَا القرآن وإِنْ كنت من قبله لمن الغافلين " .
فهذا نص جلي قد شرح ما وقع في تلك الآية من الإبهام وبين أنه إنما أراد الضلال الذي هو الغفلة كما قال في موضع آخر: " لا يَضِلُّ ربِّي ولا يَنْسَى " أي لا يغفل.
وقال: " أَن تضل إِحداهما فتذكر إِحداهما الأُخرى " أي تغفل وتنسى.
وقالت الصوفية معناه: ووجدك محباً في الهدى فهداك، فتأولوا الضلال ههنا بمعنى المحبة. وهذا قول حسن جداً. وله شاهد من القرآن واللغة، أما شاهده من القرآن فما حكاه الله تعالى من قول إخوة يوسف لأبيهم: " تاللّه إِنك لفي ضلالك القديم " .
إنما أرادوا بالضلال ههنا إفراط محبته في يوسف صلى الله عليه وعلى جميعهم.
وأما شاهده من اللغة فإنه جائز في مذاهب العرب أن تسمى المحبة ضلالاً، لأن إفراط المحبة تشغل المحب عن كل غرض وتحمله على النسيان والإغفال لكل واجب مفترض، ولذلك قيل: الهوى يعمى ويصم. فسميت المحبة ضلالاً إذ كانت سبب الضلال على مذاهبهم في تسمية الشيء باسم الشيء إذا كان منه بسبب.
ومن هذا الباب قوله تعالى في سورة نوح عليه السلام: " أَن اعبدوا اللّه واتقوه وأَطيعون. يغْفِرْ لكم من ذنوبكم ويؤخرْكُمْ إِلى أَجل مسمى " .
والأجل قد علمنا أنه لا تأخير فيه، وقد بين ذلك بقوله تعالى في عقب الآية: " إِن أَجل اللّه إِذا جاءَ لا يؤخر " وقال في موضع آخر " فإِذا جاءَ أَجلهم لا يستأَخرون ساعة ولا يستقدمون " . فوجب أن ينظر في معنى هذا التأخير ما هو ؟.
ثم وجدنا هذه الآية المبهمة المجملة قد شرحتها آية واضحة مفصلة كفتنا التأويل، ولم تحوجنا إلى طلب الدليل، وهو قوله تعالى في أول سورة هود عليه السلام " وَأَن اسْتَغْفروا رَبَّكُم ثم تُوبُوا إِلَيه يُمَتِّعكم متاعاً حسناً إِلى أَجل مسمَّى " فدلت هذه الآية على أنه إنما أراد بتأخير الأجل التمتيع الحسن، لأن التمتيع الحسن يجتمع فيه الغنى والسلامة من الآفات والعز والذكر الحسن. والعرب تسمى هذه الأشياء كلها زيادة في العمر، وتسمى أضدادها وخلافها نقصاناً من العمر.
وقد جاء في بعض الحديث أن موسى عليه السلام شكا إلى الله تعالى بعدو له، فأوحى الله إليه: إني سأميته. فلما كان بعد مدة رآه فقيراً ينسج الحصر، فقال يا رب: ألم تعدني أن تميته ؟ فقال أو ليس قد أفقرته ؟ وقد تعين علينا في هذا الموضع أن نذكر على كم معنى تتصرف الحياة والموت في اللسان العربي ليتبين ما ذكرناه بشواهده حتى لا يبقى فيه لطاعن مطعن بحول الله تعالى.
اعلم أن الحياة والموت لفظتان مشتركتان تستعملان في اللغة العربية على ثلاثة عشر وجهاً:
ونحن نورد على كل وجه من هذه الوجوه أمثلةً تشهد بصحة ما قلناه إن شاء الله تعالى.
أما الحياة والموت المراد بهما مقارنة النفوس للأجسام ومفارقتها إياها فشهرتهما تغنى عن إيراد مثال لهما.
وأما الوجود والعدم فكقولهم للشمس ما دامت موجودة حية. فإذا عدمت سموها: ميتة. قال ذو الرمة:
فلما رأين الليل والشمس حية ... حياة الذي يقضي حشاشة نازع
شبه الشمس عند غروبها بالحي الذي يجود بنفسه عند الموت وهو من التشبيه البديع. وقال آخر:
إذا شئت أدّاني صرومٌ مشيّعٌ ... معي وعقامٌ تتقي الفحل مقلت
يطوف بها من جانبيها ويتّقي ... بها الشمس حيٌّ في الأكارع ميّت
يريد ظلها في نصف النهار. أراد أنه موجود في الأكارع معدوم من سائر الجسم.
وأما العز والذل، والغنى والفقر فنحو ما قدمناه من حديث موسى صلى الله عليه وسلم ونحو ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: من سره النسأ في الأجل والسعة في الرزق فليصل رحمه. ومنه قول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميتٍ ... إنما الميت ميّت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيباً ... كاسفاً ياله قليل الرجاء
وقال آخر:
فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بأفعالنا إنّ الثناء هو الخلد
وقال آخر:
وكان أبو عمرو معاراً حياته بعمرو ... فلما مات مات أبو عمرو
يقول: كان ابنه عمرو يحيى ذكره فكأنه حي. فلما مات انقطع ذكره فكأنه إنما مات حينئذ.
وأما ما يراد به الهدى والضلال، والعلم والجهل، فكقوله تعالى " يا أَيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إِذا دعاكم لما يُحيِيكُم " ، وقوله عز وجل: " أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فأَحْيَيْنَاه " .
المعنى: أو من كان ضالاً فهديناه، وجاهلاً فعلمناه. وتقول العرب للذكي النبيه: حي، وللبليد الغبي: ميت.
وقال لقمان لابنه: يا بني: جالس العلماء وازحمهم بركبتيك، فإن الله يحي القلب الميت بالكلمة من الحكمة يسمعها كما يحي الأرض بالمطر.
وأما الحياة والموت المراد بهما الحركة والسكون فنحو قول الراجز:
قد كنت أرجو أن تموت الريح ... فأرقد اليوم وأستريح
فجعل هبوب الريح حياةً وسكونها موتاً. وقال المجنون:
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيا إذا فارقتها فيعود
وقال آخر:
ومجلودةٍ بالسوط فيه حياتها ... فإن زال عنها الجلد بالسوط ماتت
يعني الدوامة.
وأما ما يراد به الخصب والجدب، فإن العرب تقول: أتيت الأرض فأحييتها إذا وجدتها مخصبة. ويقال أرض حية بالهاء، وأرض ميت بغير هاء. قال الله تعالى: " وأَحْيَيْنَا به بلْدةً مَيْتا " .
وقال آخر:
أقبل سيلٌ جاء من أمر اللّه ... يحرد حرد الحيّة المغلّه
قال بعض أصحاب المعاني: أراد بالحية: الأرض المخصبة، والمغلة ذات الغلة، ويشهد لهذا التأويل رواية من روى: الجنة بالجيم والنون وقال آخرون: إنما أراد الحية نفسها، والمغلة ذات ذات الغل والحقد، وشبه تلوى السيل وانعطافه بتلوي الحية وانعطافها إذا مشت.
وهذا قول ابن الرومي:
بين حقافي جدولٍ مسجور ... كالسّيف أو كالحية المذعور
وأما اليقظة والنوم فكقول الله عز وجل: " اللّه يتوفى الأَنفسَ حِيْنَ موتها والتي لم تمت في منامها " .
فسمى النوم وفاة.
وسأل رجل ابن سيرين عن رجل غاب عن مجلسه. فقال له: أما علمت أنه توفي البارحة ؟ فلما رأى جزع السائل قرأ: " اللّه يتوفى الأَنفس حين موتها " . وقال الشاعر:
تموت ونحيا كل يوم وليلة ... ولا بد يوماً أن نموت ولا نحيا
وأما اشتعال النار وخمودها فمشهور متعارف أيضاً. فمنه قول ذي الرمة يصف ناراً اقتدحها:
وقال آخر في مثله:
وزهراء إن كفّنتها فهو عيشها ... وإن لم أكفنها فموت معجل
يعني بالزهراء: الشررة الساقطة من الزند عند الاقتداح.
يقول: إن بادرت إليها عند سقوطها من الزند فلففتها في خرقة حييت وإن تركتها ماتت وطفئت.
وأما الحياة والموت المستعملان بمعنى المحبة والبغضاء فكقول الشاعر:
أبلغ أبا مالكٍ عني مغلغلةً ... وفي العتاب حياةٌ بين أقوام
أي إذا تعاتبوا حييت المودة بينهم فإذا تركوا العتاب ماتت المودة أي ذهبت وانقطعت وصاروا إلى البغضاء والتهاجر.
وأما الرطوبة واليبس فنحو ما ذهب إليه السدى في قوله تعالى: " يُخْرجُ الحيَّ مِنَ الميّتِ ويُخْرِجُ الميتَ من الحي " قال: معناه يخرج السنبلة الخضراء من الحبة اليابسة، ويخرج الحبة اليابسة من السنبلة الخضراء. وهذا راجع إلى معنى الخصب والجدب من بعض وجوهه. وينحو نحوه قول ابن ميادة:
سحائب لا من صيّفٍ ذي صواعق ... ولا مخرفاتٍ ماؤهن حميم
إذا ما هبطن الأرض قد مات عودها ... بكين بها حتى يعيش هشيم
وأما الرجاء والخوف فلا أذكر عليهما شاهداً غير قول أبي الطيب:
تركتني اليوم في غفلة ... أموت مراراً وأحيا مراراً
فهذه وجوه الحياة والموت في كلام العرب قد استوفينا أقسامها لما جرى من ذكر الآية المتقدمة.
ثم نرجع إلى ما كنا فيه فنقول: إن من طريف أمر هذا الباب أنه قد يتولد منه مقالتان متضادتان كلاهما غلط، ويكون الحق في مقالة ثالثة متوسطة بينهما، ترتفع عن حد التقصير وتنحط عن حد الغلو. وإذا تأملت المقالات التي شجرت بين أهل ملتنا في الاعتقادات رأيت أكثرها على هذه الصفة.
وقد نبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله: " دين اللّه بَيْنَ الغَالِي والمقَصِّر " .
وهذا تصريح منه بهذا الذي ذكرناه وتحذير منه.
وقال أيضاً خير الأمور أوساطها.
وقال رجل للحسن البصري علمني ديناً وسوطاً، لا ساقطاً سقوطاً ولا ذاهباً فروطاً، فقال: أحسنت خير الأمور أوساطها.
وهذا نوع يطول فيه الكلام إن ذهبنا إلى تتبعه ولكنا نذكر منه شيئاً يستدل به على غيره.
فمن ذلك أن قوماً لما خطر ببالهم أمر القدر والقضاء، وأحبوا الوقوف على حقيقة ما ينبغي أن يعتقد في ذلك. تأملوا القرآن العزيز والحديث المأثور، فوجدوا فيهما أشياء ظاهرها الإجبار والإكراه، كقوله تعالى: " ولَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُم على الهُدَى فلا تكونَنَّ مِنَ الجَاهلين " .
وقوله تعالى: " ختمَ اللّهُ على قُلوبِهم وعلى سَمْعِهم وعلى أَبصارِهم غِشَاوَةٌ " .
وقوله: " بل طبعَ اللّه عَلَيها بكفرهم " ، وفي آيات كثيرة غير هذه.
ووجدوا في الحديث المأثور نحو ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقى في بطن أمه.
فبنوا من هذا النوع من الآيات والأحاديث مقالة أصلوها على أن العبد مجبر ليس له شيء من الاستطاعة، وصرحوا بأن من اعتقد غير هذا فقد كفر.
وخطر ببال آخرين مثل ذلك، فرأوا مذهب هؤلاء فلم يرضوه معتقداً لأنفسهم، فتصفحوا القرآن والحديث، فوجدوا فيهما آيات أخر، وأحاديث ظاهرها يوهم أن العبد مستطيع مفوض أمره إليه، يفعل ما شاء كقوله تعالى: " ولا يرْضى لِعِبَادِهِ الكفرَ " ، وقوله تعالى: " وأَمَّا ثموُدُ فَهَدْينَاهم فاسْتحبُّوا العمى على الهدى " وقوله تعالى: " إِنا هَدَيْنَاه السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِما كَفُوراً " .
وقوله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.
وقوله عليه السلام: يقول الله تعالى خلقت عبادي حنفاء كلهم فأجالتهم الشياطين عن دينهم.
فبنوا من هذا النوع من الآيات والأحاديث مقالة ثانية مناقضة للمقالة الأولى أصلوها على أن العبد مخير مفوض إليه أمره يفعل ما يشاء ويستطيع على ما لا يريده ربه تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً
ولما تأملت طائفة ثالثة مقالتي الفرقتين معاً لم يرتضوا بواحدة منهما معتقداً لأنفسهم ورأوا أنهما جميعاً خطأ. لأن المقالة الأولى تجوير للبارئ تعالى وإبطال للتكليف.
والمقالة الثانية تجهيل للبارئ تعالى بأمر خلقه وتعجيز له عن تمام مشيئته فيهم وكلا الصفتين لا تليق بمن وصف نفسه بأنه أحكم الحاكمين وأقدر القادرين، ووصف نفسه بقوله تعالى: " وما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةِ إِلا يَعْلَمُها وَلاَ حَبَّةٍ في ظلمات الأَرض ولا رَطْبٍ ولا يابسٍ إِلا في كتابٍ مُبينِ " .
وروأوا أن الأخذ بالآيات والأحاديث الأول ليس بأولى من الأخذ بالآيات والأحاديث الأخر. وأن الحق إنما هو في واسطة تنتظم الطرفين وتسلم من شناعة المذهبين واعتبروا القرآن والحديث ببصائر أصح من بصائر الفريقين، فوجدوا آيات وأحاديث تجمع شتيت المقالتين وتخبر بغلط الفريقين كقوله تعالى: " ولوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِليْهِمْ شَيْئاً قليلاً " . وقوله تعالى في يوسف عليه السلام: " وَلَقَدْ همَّتْ بهِ وهَمَّ بها لَوْلاَ أَن رَّأَى بُرْهَانَ ربِّه " ، وقوله تعالى: " وما تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّه " . فأثبت للعبد مشيئة لا تتم إلا بمشيئة ربه تعالى، ووجدوا الأمة مجمعة على قولهم: لا حول ولا قوة إلا بالله. وفي هذا إثبات حول وقوة للعبد لا يتمان إلا بمعونة الله إياه، ووجدوا الأمة مجمعةً على الرغبة إلى الله في العصمة والاستعاذة به من الخذلان وقولهم: اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا فنعجز ولا إلى الناس فنضيع ورأوا الله تعالى قد أثبت لنفسه علم غيب وعلم شهادة بقوله تعالى: " عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ " .
فعلمه الغيب: علمه الأشياء قبل كونها، وعلمه الشهادة: علمه بالأشياء وقت كونها، واعتبروا أحوال الإنسان التي وقع فيها التكليف، وأحواله التي لم يقع فيها تكليف، فوجدوا الله تعالى لم يأمره بألا يسمع ولا يبصر ولا يأكل، ولا يشرب على الإطلاق.
إنما أمره بأن يستعمل آلاته التي يسمع بها ويبصر ويأكل ويشرب في بعض الأشياء ولا يستعملها في بعض. فوجب أن يكون بين الأمرين فرق، ولا فرق ها هنا إلا أنه مكن من أحد الأمرين وجعلت له استطاعة عليه، ولم يمكن من الآخر.
وكذلك رأوا حركة يد المفلوج تخالف حركة يد الصحيح فثبت أن بينهما فرقاً، ولا فرق إلا وجود الاستطاعة على وجه لا يقتضي ما توهمته القدرية من التفويض. ووجدوا مع هذا أحاديث تؤيد بطلان قول الفريقين معاً. وتدل على أن الحق متوسط بين غلو أحد الفريقين وتقصير الآخر، كنحو ما روى عن جعفر الطيار رضي الله عنه أن رجلاً قال: هل العباد مجبرون ؟ قال: الله أعدل من أن يجبر عبده على معصية، ثم يعذبه عليها، فقال له السائل: فهل أمرهم مفوض إليهم ؟ فقال: الله أعز من أن يجوز في ملكه ما لا يريد، فقال له السائل: فكيف ذلك إذن ؟ قال: أمر بين الأمرين. لا جبر ولا تفويض.
وكنحو ما روى عن علي رضي الله عنه أنه لما انصرف من صفين قام إليه شيخ فقال: يا أمير المؤمنين !! أرأيت مسيرنا إلى صفين أبقضاء وقدر ؟. فقال علي: والله ما علونا جبلاً، ولا هبطنا وادياً ولا خطونا خطوة إلا بقضاء وقدر.
فقال الشيخ: فعند الله أحتسب عنائي إذن مالي من أجر.
فقال له علي: مه يا شيخ فإن هذا قول أولياء الشيطان وخصماء الرحمن، قدرية هذه الأمة أن الله أمر تخييراً ونهى تحذيراً، لم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، فضحك الشيخ، ونهض مسروراً، ثم قال:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته ... يوم القيامة من ذي العرش رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً ... جزاك ربّك عنا فيه إحسانا
وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه نحو مقالة جعفر.
بنوا تفريعها على أصل. جملة الغرض منه: أن لله تعالى علم غيب سبق بكل ما هو كائن قبل كونه، ثم خلق الإنسان فجعل له عقلاً يرشده، واستطاعة يصح بها تكليفه، ثم طوى علمه السابق عن خلقه، وأمرهم ونهاهم، وأوجب عليهم الحجة من جهة الأمر والنهي الواقعين عليهم لا من جهة علمه السابق فيهم فهم يتصرفون بين مطيع وعاص، وكلهم لا يعدو علم الله السابق فيهم.
فمن علم الله تعالى منه أنه يختار الطاعة فلا يجوز أن يختار المعصية ومن علم أنه يختار المعصية فلا يجوز أن يختار الطاعة، ولو جاز ذلك لم يكن علم الله تعالى موصوفاً بالكمال، ولكان كعلم المخلوق الذي يمكن أن يقع الأمر كما علم، ويمكن أن يقع خلاف ما علم.
وليس في علم الله الأمور قبل وقوعها إجبار على ما توهمه المجبرون، ولا تتم لأحد استطاعة على ما يهم به من الأمور إلا بأن يعينه الله تعالى عليه أو يكله إلى حوله، ويسلمه إليه.
فإن عصمه مما يهم به من المعصية كان فضلاً، وإن وكله إلى نفسه كان عدلاً، فإذا اعتبرت حال العبد من جهة الإضافة إلى علم الله السابق فيه الذي لا يعدوه وجد في صورة المجبر، وإذا اعتبرت حاله من جهة الإضافة إلى الاستطاعة المخلوقة له، والأمر والنهي الواقعين عليه وجد في صورة المفوض إليه. وليس هناك إجبار مطلق، ولا تفويض مطلق، إنما هو أمر بين أمرين، يدق عن أفكار المعتبرين، ويحير أذهان المتأملين.
وهذا هو معنى ما أشار إليه حذاق أهل السنة. من قولهم: إن العبد لا مطلق، ولا موثق. فما ورد من الآيات والأحاديث التي ظاهرها الإجبار، فهو مصروف إلى أحد ثلاثة أشياء: إما إلى العلم السابق الذي لا مخرج للعبد منه، ولا يمكنه أن يتخير غيره.
وإما إلى فعل فعله الله تعالى به على جهة العقاب، كقوله تعالى: " بلَ طبَعَ اللّهُ عَلَيْها بكفرِهم " .
وإما إلى الإخبار عن قدرته تعالى على ما يشاء كقوله: " ولو شاءَ اللّهُ لجَمَعهُمْ على الهُدَى " .
وما ورد من الآيات والأحاديث ظاهره التفويض، فهو مصروف إلى الأمر والنهي الواقعين عليه.
وإنما غلطت القدرية في هذا لأنهم لا يثبتون لله تعالى علماً سابقاً بالأمور قبل وقوعها. وعلم الله عندهم محدث تعالى الله عما يقول الجاهلون. فاعتبروا حال العبد من جهة الأمر والنهي والاستطاعة المركبة فيه لا من جهة العلم السابق.
وغلطت الجبرية لأنهم اعتبروا حال العبد من جهة علم الله السابق فيه لا من جهة الأمر والنهي الواقعين عليه وظنوا أن علم الله تعالى بجميع ما يفعله العبد قبل فعله إياه إجبار منه له على الفعل. وكلا القولين غلط لأنهم أخذوا بالطرف الواحد وتركوا الآخر.
ورأى المشيخة وجلة العلماء الوقف عن الكلام في ذلك والخوض فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم: إذا ذكر القضاء فأمسكوا. فكان هذا المذهب أحسن المذاهب لمن آثر الخلاص والسلامة.
ولم يكن نهيه صلى الله عليه وسلم ونهى العلماء عن ذلك من أجل أن هذا أمر لا يمكن معرفة الحقيقة منه، وإنما كان من أجل دقته وخفائه، فإنه أمر الخطأ فيه أكثر من الإصابة فأنت ترى القدرية والجبرية إلى يومنا هذا يختصمون فيه، ويناقض بعضهم بعضاً، ولا يصلون إلى شفاء نفس، وكل فرقة من الفرقتين يفضي مذهبها إلى شناعة، إذا ألزمتها فرت عنها.
وكلا الطائفتين قد أخطأت التأويل، وخلت عن نهج السبيل، ووصفت الله بصفات لا تليق به عند ذوي العقول.
وهذه جملة قليلة تفصيلها كثير وهو باب ضيق المجال جداً، والخائض فيه تسبق إليه الظنة بغير ما يعتقده، فلذلك نتحامى الكلام فيه بأكثر مما نبهنا عليه، مع أنا لم نضع كتابنا هذا للخوض في المقالات، إنما وضعناه لتبيين المواضع التي نشأ منها الخلاف.
لكنا نقول ينبغي لمن طلب هذا الشأن، ولم يقنعه ما رآه العلماء، وأمروا به من ترك الخوض فيه أن يراعي أصلين، فإن صحا له من معتقده، فليعلم أنه قد أصاب فص الحق. وإن أخطأهما، أو واحداً منهما. فلعلم أنه قد غلط فليراجع النظر
والثاني أن أفعال الباري تعالى كلها حكمة محضة لا عبث فيها، وعدل محض لا جور فيه، وحسن محض لا قبح فيه، وخير محض لا شر فيه، وأن هذه الأشياء إنما تعرض في أفعالنا إما لوقوع الأمر والنهي علينا، وإما لما ركز في خلقتنا من القوة العقلية التي ترينا بعض الأشياء حسناً، وبعضها قبيحاً، وكلا الصفتين لا يوصف بهما الباري تعالى لأنه لا آمر فوقه ولا ناهي، وهو خالق العقل وموجده.
وجملة ذلك أنه لا يشبه شيئاً من المخلوقات في جهة من الجهات، فكل قول أداك إلى تشبيهه بخلقه في ذات أو فعل فارفضه رفض التراب، وانبذه نبذ القذاة، واعلم بأن الحق في غيره فابحث عنه حتى تظفر به، وإن لم يتفق لك فهم الغرض منه والمراد فاشدد يدك بعروة هذا الاعتقاد، ولا تتهم بارئك في حكمته، ولا تنازعه، قدرته. واعلم بأنه غني عنك، وأنت مفتقر إليه، ووارد بما تزودت من عملك عليه تبارك المتفرد بأقضيته وأحكامه، الذي لا ينازع في نقضه وإبرامه، ولا يمتري العاقلون في عدله، ولا ييأس المذنبون من عفوه وفضله، لا رب سواه، ولا معبود حاشاه.
في الخلاف العارض من جهة العموم والخصوص
والثاني: يعرض في التركيب.
فأما الذي يعرض في موضوع اللفظة المفردة فنحو: الإنسان، فإنه يستعمل عموماً وخصوصاً.
أما العموم فكقوله تعالى: " يا أَيُّها الإِنسانُ ما غَرَّك بربِّك الكرِيمِ " .
وقوله تعالى: " إِن الإِنْسانَ لفي خُسْرٍ " .
ويدل على أنه لفظ عام لا يخص واحداً دون آخر قوله تعالى: " إِلاَّ الذين آمنوا " فاستثنى منه، ولا يستثنى إلا من جملة.
ونحو هذا قول العرب: أهلك الناس الدينار والدرهم، وقولهم: الملك أفضل من الانسان، والإنسان متعبد دون سائر الحيوان.
والخصوص نحو قولهم: جاءني الانسان الذي تعلم، ولقيت الرجل الذي كلمك، وقولهم: شربت الماء، وأكلت الخبز، ولم يشرب جميع الماء ولا أكل جميع الخبز، وهذا كثير مشهور تغني شهرته عن الإكثار منه، وقد يأتي من هذا الباب في القرآن والحديث أشياء يتفق الجميع على عمومها أو على خصوصها، وأشياء يقع فيها الخلاف.
فمن العموم الذي لم يختلف فيه قوله تعالى: " يا أَيُّها الناسُ اتَّقُوا رَبَّكم " و " يا أَيُّها الناسُ إِن وَعْدَ اللّه حقٌّ " وقول النبي صلى الله عليه وسلم: الزعيم غارم، والبينة على المدعي، واليمين على المدعي عليه ونحو ذلك كثي.
ومن الخصوص الذي لم يختلف فيه قوله تعالى: " الذِينَ قَالَ لَهُمْ الناسُ إِنَّ النَاسَ قَدُ جَمَعُوا لكم " .
وهذا القول لم يقله جميع الناس إنما قاله رجل واحد، وهو نعيم بن مسعود ولا جمع لهم جميع الناس، إنما جمع لهم جزء منهم.
ومما وقع فيه الخلاف فاحتاج إلى فضل نظر قوله تعالى: " وإِنْ تُبدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تخفُوهُ يُحَاسِبْكُم به اللّه " قال قوم: إن هذه الآية نزلت عموماً ثم خصصت بقوله صلى الله عليه وسلم: صفح لأمتي عما حدثت به نفوسها ما لم تكلم به أو تعمل.
وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: هي خصوص في الكافر يحاسبه الله بما أسر وأعلن.
والقول الأول أصح لقوله تعالى بأثر ذلك: " فيغفرُ لمنْ يَشاءُ ويُعَذِّبُ من يَشاءُ " ولا خلاف في أن الكافر معذب غير مغفور له. فدل هذا على أن الخطاب وقع عموماً لا خصوصاً ثم خصص بما ذكرناه.
ومن ذلك قوله تعالى: " كلٌّ لَهُ قَانِتُونَ " .
وقال آخرون: إن معناه أن كل ما خلق الله تعالى ففيه أثر للصنعة قائم، وميسم للعبودية شاهد أن له خالقاً حكيماً، لأن أصل القنوت في اللغة: القيام، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل أي الصلاة أفضل ؟ فقال: طول القنوت فالخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم قائمون بالعبودية، إما إقراراً بألسنتهم، وإما بآثار الصنعة البينة فيهم.
ومن هذا الباب قوله تبارك وتعالى: " لا إِكراه في الدين " .
قال قوم: هذا خصوص في أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، وهو قول الشعبي، وكان ابن عباس رضي الله عنه يراه أيضاً خصوصاً، وفسره فقال: معناه: إن المرأة من الأنصار كانت لا يعيش لها ولد، فتنذر على نفسها لئن عاش لتهودنه. فلما أجلى بنو النضير إذا فيهم ناس من أبناء الأنصار، فقال الأنصار: يا رسول الله: أبناؤنا !! فأنزل الله تعالى هذه الآية: وقال قوم هي عموم ثم نسخت بقوله تعالى: " جاهد الكافرين والمنافقين " .
ومن هذا الباب قوله تعالى: " علم الإِنسانَ ما لم يعلمْ " . ذهب قوم إلى أنه خصوص، واختلفوا في حقيقة ذلك. فقال بعضهم: أراد آدم عليه السلام واحتجوا بقوله تعالى: " وعلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا " وقال بعضهم: أراد محمداً صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بقوله عز وجل: " وعَلَّمَكَ مَا لَمْ تكُنْ تَعْلَمُ " .
وقال آخرون: هي عموم في جميع الناس وهو الصحيح.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء.
قال قوم هذا خصوص في جهجاه الغفاري ورد على النبي صلى الله عليه وسلم يريد الإسلام فحلبت له سبع شياه فشرب لبنها، ثم أسلم، فحلبت له شاة فكفته فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال هذه المقالة. وقال قوم: إنه عموم في كل كافر. واختلفوا في حقيقة معناه: فقال قوم معناه أن المؤمن يسمى الله على طعامه فتكون فيه البركة والكافر بخلاف ذلك.
وقال آخرون إنما ضرب هذا مثلاً للزهادة في الدنيا والحرص عليها، فجعل المؤمن لقناعته باليسير من الدنيا كالآكل في معي واحد. والكافر لشدة رغبته في الدنيا كالآكل في سبعة أمعاء.
وهذا القول أصح الأقوال، ويشهد لصحته ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض. فقال له رجل يا رسول الله هل يأتي الخير بالشر ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه يوحى إليه، ثم مسح العرق عن جبينه، وقال: أين السائل ؟ فقال: ها أنذا يا رسول الله. فقال: إن الخير لا يأتي إلا بالخير ثلاثاً، ولكن هذا المال خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع مما يقتل حبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر تأكل حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس فبالت وسلطت، ثم عادت فأكلت، إن هذا المال خضرة حلوة من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو. ومن أخذه بغير حقه ووضعه في غير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع.
ونحو من هذا أيضاً قول أبي ذر: تخضمون ونقضم والموعد الله والخضم الأكل بالفم كله فضربه مثلاً للرغبة في الدنيا، والقضم الأكل بأطراف الأسنان فضربه مثلاً للقناعة ونيل البلغة من العيش.
وقيل الخضم: أكل الرطب، والقضم أكل اليابس وهو نحو المعنى الأول. وقد يأتي من هذا الباب ما موضوعه في اللغة على العموم، ثم تخصصه الشريعة. كالمتعة فإنها عند العرب كل شيء استمتع به لا يخص به شيء دون شيء آخر ثم نقلت عن ذلك واستعملت في الشريعة على ضربين:
والثاني: ما تمتع به المرأة من مهرها كقوله تعالى: " وَمتِّعُوهُنَّ على الموسِعِ قَدَرُهُ وَعلَى المقْتر قَدَره " .
ولأجل هذا الذي ذكرناه وقع الخلاف في قوله تعالى: " فما اسْتَمْتَعْتُم به مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أَجُورهُنّ فَرِيضَةً " .
فكان ابن عباس يذهب بمعناه إلى المتعة الأولى.
وذهب جماعة من الفقهاء إلى أن المتعة الأولى منسوخة، وأن هذه الآية كالتي في البقرة، وأن معنى " فآتوهن أَجُورَهُنَّ " إنما أراد المهر.
والدليل على صحة قول الجماعة قوله تعالى: " فانْكِحُوهُنَّ بإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَة " . فهذا المهر بإجماع.
في الخلاف العارض من جهة الرواية
ونحن نذكر العلل كم هي ؟ ونذكر من كل نوع منها مثالاً، أو أمثلة يستدل بها على غيرها إن شاء الله تعالى.
اعلم أن الحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين لهم رضي الله عنهم تعرض له ثماني علل: أولها: فساد الإسناد. والثانية: من جهة نقل الحديث على معناه دون لفظه، والثالثة: من جهة الجهل بالإعراب والرابعة: من جهة التصحيف، والخامسة: من جهة إسقاط شيء من الحديث لا يتم المعنى إلا به والسادسة: أن ينقل المحدث الحديث ويغفل نقل السبب الموجب له، أو بساط الأمر الذي جر ذكره، والسابعة: أن يسمع المحدث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه. والثامنة: نقل الحديث من الصحف دون لقاء الشيوخ.
العلة الأولى
وهي فساد الإسناد، وهذه العلة أشهر العلل عند الناس حتى إن كثيراً منهم يتوهم أنه إذا صح الإسناد صح الحديث، وليس كذلك، فإنه قد يتفق أن يكون رواة الحديث مشهورين بالعدالة معروفين بصحة الدين والأمانة غير مطعون عليهم، ولا مستراب بنقلهم. ويعرض مع ذلك لأحاديثهم أعراض على وجوه شتى من غير قصد منهم إلى ذلك على ما تراه في بقية هذا الباب إن شاء الله تعالى.
والإسناد يعرض له الفساد من أوجه: منها الإرسال وعدم الاتصال. ومنها أن يكون بعض رواته صاحب بدعة، أو متهماً بكذب، وقلة ثقة، أو مشهوراً ببله وغفلة، أو يكون متعصباً لبعض الصحابة منحرفاً عن بعضهم، فإن من كان مشهوراً بالتعصب، ثم روى حديثاً في تفضيل من يتعصب له، ولم يرد من غير طريقه لزم أن يستراب به، وذلك أن إفراط عصبية الإنسان لمن يتعصب له، وشدة محبته فيه يحمله على افتعال الحديث، وإن لم يفتعله بدله وغير بعض حروفه كنحو ما فعلت الشيعة.
فإنهم رووا أحاديث كثيرة في تفضيل علي رضي الله عنه، ووجوب الخلافة له ينكرها أهل السنة مثل روايتهم أن نجماً سقط على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انظروا. ففي منزل من وقع فهو الخليقة بعدي، فنظروا فإذا هو قد سقط في دار علي رضي الله عنه فأكثر الناس في ذلك الكلام، فأنزل الله تعالى: " والنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى " .
فهذا حديث لا يشك ذو لب في أنه مصنوع مركب على الآية.
وكالذي فعلت المعتزلة فإنهم تجاوزوا تغيير الحديث إلى أن راموا تغيير القرآن فلم يصح لهم ذلك في القرآن لإجماع الأمة عليه، وصح في كثير من الحديث: فغيروا في المصحف مواضع كثيرة كقراءتهم: " مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ " بالتنوين. وقراءتهم: " قَالَ عَذَابِي أُصيبُ بِهِ مَنْ أَسَاءَ " . بسين غير معجمة وفتح الهمزة. وقالوا في قوله تعالى: " وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لجَهَنَّم كَثيراً من الجنِّ والإِنْسِ " .
إن معناه: دفعنا، وأنشدوا قول المثقب:
تقول إذا ذرأت لها وضيني ... هذا دينه أبدا وديني
وليس كما زعموا. إنما يقال في الدفع درأت بدال غير معجمة، وكذلك روى بيت المثقب بدال غير معجمة، وإنما ذرأنا بالذال معجمة بمعنى خلقنا.
وقد روى عن بعضهم أنه قرأ: " ولقد درأْنا " بالدال غير معجمة.
ولست وإن قرّبت يوماً ببائع ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب
ويعتده قوم كثير تجارة ... ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي
وقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على نحو هذا الذي ذكرناه بقوله: " إِنَّ الأَحَادِيثَ ستكثرُ بعدِي كَما كَثُرَتْ عَلَى الأَنْبِيَاءِ قَبْلي، فَمَا جَاءَكُمْ عنيّ فاعْرِضُوه على كِتَاب اللّه تعالى، فَمَا وافَقَ كتابَ اللّه فهُوَ عَنِيّ قُلْتُه أَو لَمْ أَقُلْهُ " .
وقد روى أن قوماً من الفرس واليهود وغيرهم لما رأوا الإسلام قد ظهر ودوخ جميع الأمم ورأوا أنه لا سبيل إلى مناصبته رجعوا إلى الحيلة والمكيدة، فأظهروا الإسلام عن غير رغبة فيه، وأخذوا أنفسهم بالتعبد والتقشف. فلما حمد الناس طرائقهم ولدوا الأحاديث والمقالات، وفرقوا الناس فرقاً. وأكثر ذلك في الشيعة كما يحكى عن عبد الله بن سبإ اليهودي أنه أسلم، واتصل بعلي رضي الله عنه، وصار من شيعته، فلما أخبر بموته قال: كذبتم، والله لو جئتمونا بدماغه مصروراً في سبعين صرة ما صدقنا بموته، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، نجد ذلك في كتاب الله فصارت مقالة يعرف أهلها بالسبئية.
وإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتشدد في الحديث ويتوعد عليه، والزمان زمان والصحابة متوافرون، والبدع لم تظهر، والناس في القرن الذي أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بالحال في الأزمنة التي ذمها وقد كثرت البدع وقلت الأمانة.
وللبخاري رحمه الله في هذا الباب عناء مشكور وسعي مبرور، وكذلك لمسلم وابن معين، فإنهم انتقدوا الحديث وحرروه، ونبهوا على ضعفاء المحدثين والمتهمين بالكذب حتى ضج من ذلك من كان في عصرهم، وكان ذلك أحد الأسباب التي أوغرت صدور الفقهاء على البخاري، فلم يزالوا يرصدون له المكاره حتى أمكنتهم فيه فرصة بكلمة قالها فكفروه، وامتحنوه وطردوه من موضع إلى موضع، وحتى حمل بعض الناس قلقه من ذلك على أن قال:
ولابن معين في الرجال مقالةٌ ... سيسأل عنها والمليك شهيد
فإن يك حقّاً قوله فهو غيبة ... وإن يك زوراً فالعقاب شديد
وما أخلق قائل هذا الشعر بأن يكون دفع مغرماً، وأسر حسواً في ارتغاء، لأن ابن معين فيما فعل أجدر بأن يكون مأجوراً من أن يكون موزوراً. وألا يكون في ذلك ملوماً، بل مشكوراً
العلة الثانية
وهي نقل الحديث على المعنى دون لفظ المحدث بعينه. وهذا الباب يعظم الغلط فيه جداً، وقد نشأت منه بين الناس شغوب شنيعة، وذلك أن أكثر المحدثين لا يراعون ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم التي نطق بها، وغنما ينقلون إلى من بعدهم معنى ما أراد بألفاظ أخر. ولذلك نجد الحديث الواحد في المعنى الواحد يرد بألفاظ شتى، ولغات مختلفة يزيد بعض ألفاظها على بعض، على أن اختلاف ألفاظ الحديث قد يعرض من أجل تكرير النبي صلى الله عليه وسلم له في مجالس مختلفة، وما كان من الحديث بهذه الصفة فليس كلامنا فيه، وإنما كلامنا في اختلاف الألفاظ الذي يعرض من أجل نقل الحديث على المعنى.
ووجه الغلط الواقع من هذه الجهة أن الناس يتفاضلون في قرائحهم وأفهامهم كما يتفاضلون في صورهم وألوانهم وغير ذلك من أمورهم وأحوالهم فربما اتفق أن يسمع الرواة الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، أو من غيره فيتصور معناه في نفسه على غير الجهة التي أرادها.
فإذا عبر عن ذلك المعنى الذي تصور في نفسه بألفاظ أخر كان قد حدث بخلاف ما سمع عن غير قصد منه إلى ذلك.
وذلك أن الكلام الواحد قد يحتمل معنيين وثلاثة، وقد تكون فيه اللفظة المشتركة التي تقع على الشيء وضده، كقوله صلى الله عليه وسلم: قصوا الشوارب وأعفوا اللحي.
فقوله: أعفوا. يحتمل أن يريد به كثروا، ووفروا، ويحتمل أن يريد: خففوا، وقللوا، فلا يفهم مراده من ذلك إلا بدليل من لفظ آخر، والمعنيان جميعاً موجودان في كلام العرب:
ولكنا نعض السيف منها بأسئق ... عافيات اللحم كوم
ويقال: عفا المنزل: إذا درس. قال زهير:
عفا من آل فاطمة الجواء
ففي مثل هذا يجوز أن يذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعنى الواحد ويذهب الراوي عنه إلى المعنى الآخر، فإذا أدى معنى ما سمع دون لفظه بعينه كان قد روى عنه ضد ما أراده غير عامد.
ولو أدى لفظه بعينه لأوشك أن يفهم منه الآخر ما لم يفهمه الأول.
وقد علم صلى الله عليه وسلم، أن هذا سيعرض بعده. فقال محذراً من ذلك نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من مبلغ.
ومن نحو هذا ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أتاه فقال: أيجوز إتيان المرأة في دبرها ؟ فقال: نعم. فلما أدبر الرجل قال: ردوه علي: فلما رجع قال: في أي الخرطتين أردت ؟ أما من دبرها في قبلها فنعم، وأما من دبرها في دبرها فلا.
وقد غلط قوم في حديث عائشة رضي الله عنهما في هذا المعنى: إذا حاضت المرأة حرم الجحران.
فتوهموا أن هذا الكلام ينفك منه جواز الأتيان في الدبر. وهذا غلط شديد ممن تأوله.
وقد رواه بعضهم الجحران بضم النون، وزعم أن الجحران: الفرج ذكر ذلك ابن قتيبة.
والرواية الأولى هي المشهورة، وليس في الحديث شيء مما توهموه، وإنما كان يلزم ما قالوه لو كانت الطهارة من المحيض شرطاً في جواز إتيان المرأة في جحريها معاً فكان يلزم عند ذلك أن يكون ارتفاع الطهارة سبباً في تحريمهما معاً، كما كان شرطاً في تحليلهما معاً. فإذا لم يجدوا سبيلاً إلى تصحيح هذه الدعوى لم يلزم ما قالوه، وإنما المعنى في حديث عائشة أن فرج المرأة يخالف دبرها في إباحة أحدهما، وتحريم الآخر. والإباحة التي خالفت بينهما معلقة بشرط الطهارة من المحيض. فإذا لم يقع شرط الطهارة من المحيض ارتفعت الإباحة التي كانت ملعقة به فاستويا معاً في التحريم لارتفاع السبب الذي فرق بينهما، وهذا كقول قائل لو قال: إذا أسكر النبيذ حرم الشرابان يريد الخمر والنبيذ أي استويا في التحريم. لأن النبيذ إنما خالف الخمر بشرط عدم الاسكار، فلما ذهب السبب، والشرط الذي فرق بينهما تساويا معاً في التحريم. فكما أن هذا القول لا يلزم منه إباحة الخمر قبل وجود الإسكار في النبيذ فكذلك قول عائشة رضي الله عنها لا يلزم منه إباحة نكاح الدبر قبل وجود الحيض في الفرج، ونظير هذا أيضاً لو أن رجلاً كان معه ثوبان. أحدهما فيه نجاسة تحرم عليه الصلاة به. والآخر طاهر تجوز له الصلاة به، ثم أصابت الثاني نجاسة فقال له قائل قد حرمت عليك الصلاة بالثوبين، إنما أراد أن الثوب الثاني قد صار مثل الثوب الأول في التحريم، لعدم الشرط المفرق بينهما.
وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما ينحو نحو هذا، وإن لم يكن مثله من جميع الوجوه، وذلك ما روى عنه من قوله: من سره أن يذهب كثير من وحر صدره، فليصم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر.
يريد بشهر الصبر: رمضان، وليس المراد أن شهر الصبر مباح الأكل فيه لمن لم يسره ذهاب وحر صدره، وإنما معناه فليضف إلى شهر الصبر الواجب صومه على كل حال ثلاثة أيام يصومها من كل شهر.
ومن طريف الغلط الواقع في اشتراك الألفاظ ما روى من أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب لعلي رضي الله عنه عمامةً تسمى السحاب، فاجتاز علي متعمماً بها، فقال عليه السلام: لمن كان معه أما رأيتم علياً في السحاب ؟ أو نحو هذا من اللفظ، فسمعه بعض المتشيعين لعلي، فظن أنه يريد السحاب المعروفة، فكان ذلك سبباً لاعتقاد الشيعة أن علياً في السحاب، ولذلك قال إسحاق بن سويد الفقيه:
بريت من الخوارج لست منهم ... من الغزّال منهم وابن باب
ومن قوم إذا ذكروا علياً ... يردّون السلام على السحاب
ولكني أُحب بكل قلبي ... وأعلم أن ذاك من الصواب
رسول اللّه والصديق حباً ... به أرجو غداً حسن الثواب
العلة الثالثة
وهي الجهل بالإعراب، ومباني كلام العرب ومجازاتها وذلك أن كثيراً من رواة الحديث قوم جهال باللسان العربي، لا يفرقون بين المرفوع والمنصوب والمخفوض، ولعمري لو أن العرب وضعت لكل معنى لفظاً يؤدي عنه لا يلتبس بغيره لكان لهم عذر في ترك تعلم الإعراب، ولم تكن لهم حاجة إليه في معرفة الخطإ من الصواب.
ولكن العرب قد تفرق بين المعنيين المتضادين بالحركات فقط، واللفظ واحد. ألا ترى أن الفاعل والمفعول ليس بينهما أكثر من الرفع والنصب، فربما حدث المحدث بالحديث فرفع لفظةً منه ينوي بها أنها فاعلة، ونصب أخرى ينوي بها أنها مفعولة، فنقل عنه السامع ذلك الحديث، فرفع ما نصب، ونصب ما رفع جهلاً منه بما بين الأمرين فانعكس المعنى إلى ضد ما أراده المحدث الأول. ألا ترى أن قوله صلى الله عليه وسلم: لا يقتل قرشي صبراً بعد اليوم. إذا جزمت اللام من يقتل كان له معنىً، وإذا رفعت كان له معنى آخر، ولو أن قارئاً قرأ: " هو الأَوَّلُ والآخَرُ " . ففتح الخاء لكان قد كفر وأشرك بالله تعالى، وإذا كسر الخاء آمن ووحد، فليس بين الإيمان والكفر غير حركة.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: رحم الله امرأً أصلح من لسانه.
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعلموا الفرائض والسنة واللحن كما تعلمون القرآن واللحن: اللغة. قال الشاعر:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... تبكت على خضراء سمرٍ قيودها
صدوح الضحى معروفة اللحن لم تزل ... تقود الهوى من مسعدٍ ويقودها
وكذلك قوله تعالى: " هو اللّه الخالق البارئَ المصوِّرُ " ليس بين الإيمان والكفر فيه غير فتح الواو وكسرها.
وكذلك قوله تعالى: " وَيلٌ يومئذ لِلْمكذِّبين " ولو أن رجلين تقدما إلى حكم يدعى أحدهما على صاحبه بثوب، فقرره الحكم على ذلك، فإنه إن قال: ما أخذت له ثوب. بالرفع أقر بالثوب على نفسه، ولزمه إحضار ثوب. وإن قال ما أخذت له ثوباً فنصب لم يقر بشيء، ولزمته اليمين إن لم تقم عليه به بينة.
وكذلك إن قال رجل لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، فإنه إن فتح الهمزة طلقت عليه في ذلك الوقت دون تأخير.
وإن كسر الهمزة لم تطلق عليه ذلك الوقت، وإنما تطلق عليه فيما يستقبل إن كان منها دخول للدار.
ويروى أن الكسائي كتب إليه: ما تقول في رجل قال:
فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن ... وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم
فأنت طلاق والطلاق عزيمة ... ثلاثٌ ومن يخرق أعقّ وأظلم
فقال الكسائي: إن كان رفع العزيمة ونصب الثلاث، فهي ثلاث تطليقات.
وإن كان نصب العزيمة ورفع الثلاث فهي واحدة.
يريد أنه إذا رفع العزيمة ونصب الثلاث صار التقدير، فأنت طلاق ثلاثاً، والطلاق عزيمة على التقديم والتأخير.
وإذا نصب العزيمة ورفع الثلاث لم ينو بثلاث التقديم، وصار التقدير فأنت طلاق، وتم الكلام، ثم قال: والطلاق في حال عزيمة المطلق عليه ثلاث، فلم يكن في هذا الكلام ما يدل على أن هذا المطلق عزم على الثلاث، فقضى عليه بواحدة وقد يمكن أيضاً أن ترفع العزيمة والثلاث معاً، ويكون التقدير: فأنت طلاق ثلاث، والطلاق عزيمة، فيلزم ذلك ثلاث تطليقات. " واللّه أَعلم " .
العلة الرابعة
وهي التصحيف.
وهذا أيضاً باب عظيم الفساد في الحديث جداً، وذلك أن كثيراً من المحدثين لا يضبطون الحروف، ولكنهم يرسلونها إرسالاً غير مقيدة ولا مثقفة اتكالاً على الحفظ، فإذا غفل المحدث عما كتب مدةً من زمانه، ثم احتاج إلى قراءة ما كتب، أو قرأه غيره، فربما رفع المنصوب، ونصب المرفوع كما قلنا فانقلبت المعاني إلى أضدادها، وربما تصحف له الحرف بحرف آخر لعدم الضبط فيه فانعكس المعنى إلى نقيض المراد به
وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرع.
وقد جاءت من هذا الباب أشياء طريفة عن المحدثين نحو ما روى عن يزيد بن هارون أنه روى: كنا جلوساً حول بشر بن معاوية. وإنما هو: حول سرير معاوية وكما روى عبد الرزاق: تقاتلون خور كرمان. وإنما خوز بالزاي معجمة.
وكما صحف شعبة التلب العنبري فرواه بثاء مثلثة مكسورة ولام ساكنة، وإنما هو التلب بتاء معجمة باثنتين وكسر التاء واللام، وتشديد الباء على وزن طمر، ويدل عليه قول الشاعر:
إن التّلبّ له عرسٌ يمانية ... كأن فسوتها في البيت إعصار
وروى بعضهم: أدخلت الجنة فرأيت فيها حبائل اللؤلؤ، ولا وجه للحبائل ههنا، لأن الحبائل عند العرب الشباك التي يصاد بها الوحش واحدتها حبالة، ومن كلام العرب: خش ذؤالة بالحبالة، وإنما هو جنابذ اللؤلؤ، والجنابذ جمع جنبذة وهي القبة وهذا النوع كثير جداً. قد وضع فيه الدارقطني كتاباً مشهوراً سماه تصحيف الحفاظ.
ومن طريف ما وقع منه في كتاب مسلم ومسنده الصحيح: نحن يوم القيامة على كذا أنظر.
وهذا شيء لا يتحصل له معنى، وهكذا تجده في أكثر النسخ، وإنما هو نحن يوم القيامة على كوم. والكوم جمع كومة، وهو المكان المشرف، فصحفه بعض النقلة فكتب: نحن يوم القيامة على كذا، فقرأ من قرأ فلم يفهم ما هو. فكتب في طرة الكتاب: انظر يأمر قارئ الكتاب بالنظر فيه، فوجده ثالث فظنه فألحقه بمتنه.
العلة الخامسة
وهي إسقاط شيء من الحديث لا يتم المعنى إلا به. وهذا النوع أيضاً قد وردت منه أشياء كثيرة في الحديث كنحو ما رواه قوم عن ابن مسعود أنه سئل عن ليلة الجن فقال: ما شهدها. أحد.
وروى عنه من طريق آخر أنه رأى قوماً من الزط، فقال: هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن فهذا الحديث يدل على أنه شهدها، والأول يدل على أنه لم يشهدها. فالحديثان كما ترى متعارضان، وإنما أوجب التعارض بينهما أن الذي روى الحديث الأول أسقط منه كلمة رواها غيره، وإنما الحديث ما شهدها منا أحد غيري.
العلة السادسة
وهي أن ينقل المحدث الحديث، " ويُغْفلَ السبب " الموجب له فيعرض من ذلك إشكال في الحديث، أو معارضة لحديث آخر كنحو ما رواه قوم من أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام، وأغاروا على لقاحه فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل عيونهم وتركوا بالحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا.
وقد وردت عنه الروايات من طرق شتى أنه نهى عن المثلة، وإنما عرض هذا التعارض من أجل أن الذي روى الحديث الأول أغفل نقل سببه الذي أوجبه، ورواه غيره فقال: إنما فعل بهم ذلك لأنهم مثلوا براعيه فجازاهم بمثل فعلهم.
ومن الفقهاء من ير أن هذا كان في أول الإسلام قبل أن تنزل الحدود ثم نسخ.
وقد ذهب بعض العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق آدم على صورته إلى أنه مما أغفل الناقل ذكر السبب الذي قاله من أجله ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل وهو يلطم وجه عبده وهو يقول: قبح الله وجهك، ووجه من أشبهك. فقال صلى الله عليه وسلم: إذا ضرب أحدكم عبده فليتق الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورته. قالوا: فالهاء ترجع على العبد، فلما روى الراوي الحديث، وأغفل رواية السبب أو هم ظاهره أنها تعود على الله تعالى تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وهذا الذي قالوه ورووه غير معترض على رواية غيرهم من وجهين: أحدهما: أنه قد جاء في حديث آخر: خلق آدم على صورة الرحمن وجاء في حديث آخر: رأيت ربي في أحسن صورة. وهذا لا يسوغ معه شيء من الذي قالوه.
والثاني: أن الحديث له تأويل صحيح بخلاف ما ظنوه، وقد تكلم فيه ابن قتيبة ولم يأت فيه بمقنع، " بل جاءَ بما لو سكت عنه لكان أَجدى بما عليه " .
فوجه الرد على الدهرية من وجهين: أحدهما: أن الدهرية قالت: إن العالم لا أول له، وأنه لا يجوز أن يتكون حيوان إلا من حيوان آخر قبله، فأعلمنا صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورته التي شوهد عليها ابتداء من غير أن يتكون في رحم كما يتكون الجنين علقة ثم مضغة حتى يتم خلقه.
والثاني: أن الدهرية تزعم أن للطبيعة والنفس الكلية فعلاً في المحدثات المكونة غير فعل الله تعالى الله عن قولهم فأعلمنا أيضاً أن الله خلقه على هيئته التي كان عليها، وانفرد بذلك دون مشاركة من طبيعة ولا نفس، ووجه الرد منه على اليهود. أن اليهود كانوا يزعمون أن آدم في الدنيا كان على خلاف صورته في الجنة، وأن الله تعالى لما أهبطه من جنته نقص قامته، وغير خلقته فأعلمنا بكذبهم فيما يزعمون، وأعلمنا أنه خلقه في أول أمره على صورته التي كان عليها عند هبوطه ووجه الرد منه على القدرية. أن القدرية زعمت أن أفعال البشر مخلوقة لهم لا لله تعالى الله عن قولهم وهو نحو ما ذهب إليه الدهرية من أن للنفس والطبيعة أفعالاً غير فعل الله تعالى. فأفادنا أيضاً بطلان قولهم وأعلمنا أن الله تعالى خلقه، وخلق جميع أفعاله.
فهذا ما في الهاء من القول إذا كانت عائدة على آدم صلى الله عليه وسلم وإذا كانت عائدة على الله تعالى كانت إضافة صورة آدم إليه على وجه التشريف والتنويه، والتخصيص، لا على معنى آخر مما يسبق إليه الوهم من معاني الإضافات، فيكون كقولهم في الكعبة إنها بيت الله، وقد علمنا أن البيوت كلها له.
وكقوله: " وعِبادُ الرحْمن الذين يمشُونَ عَلَى الأَرْضِ هوْناً " . وقد علمنا أن جميع البشر من مؤمن وكافر عباده.
وإنما خصصه بالإضافة إلى الله تعالى دون غيره لأن الله تعالى شرفه بما لم يشرف به غيره، وذلك أنه عز وجل شرف الحيوان على الجماد، وشرف الإنسان على سائر الحيوان، وشرف الأنبياء عليهم السلام على جميع نوع الإنسان، وشرف آدم على جميع بنيه بأن خلقه دفعةً من غير ذكر وأنثى، ودون أن ينتقل من النطفة إلى العلقة، ومن العلقة إلى المضغة، وسائر أحوال الإنسان التي يتصرف فيها إلى حين كماله، ونسب خلقه إلى نفسه دون سائر البشر، فقال تعالى: " لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ " ، " وَنَفَخْتُ فيه من رُوحِي " وأسجد له ملائكته ولم يأمرهم بالسجود لغيره. فنبهنا عليه السلام بإضافة صورته إلى الله تعالى على هذه المنزلة التي تفرد بها دون غيره.
ويدلك على صحة هذا التأويل قوله تعالى: " ونَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحي وقوله: وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ " ، وقوله: " لِمَا خِلَقَتُ بِيَدَيَّ " فكما لا تدل إضافة هذه الأشياء إليه على أن له نفساً، وروحاً ويدين فكذلك إضافته الصورة إليه لا تدل على أن له صورة، وقد يجوز في إضافة الصورة إلى الله تعالى وجه فيه غموض ودقة، وذلك أن العرب تستعمل الصورة على وجهين: أحدهما: الصورة التي هي شكل مخطط، محدود بالجهات كقولك صورة زيد وصورة عمر.
والثاني: يريدون بها صفة الشيء الذي لا شكل له ولا تخطيط، ولا جهات محدودة كقولك: ما صورة أمرك ؟ وكيف كانت صورة قصتك ؟ يريدون بذلك الصفة.
فقد يجوز أن يكون معنى خلق آدم على صورته: أي على صفته. فيكون مصروفاً إلى المعنى الثاني الذي لا تحديد فيه.
فإن قلت فما معنى هذه الصفة، ؟ وكيف تلخيص القول فيها ؟ فالجواب أن معنى ذلك أن الله جعله خليفة في أرضه، وجعل له عقلاً يعمل به ويفكر، ويسوس، ويدبر وينهى ويأمر، وسلطه على جميع ما في البر، والبحر وسخر له ما في السموات والأرض، وقد قال في نحو هذا بعض المحدثين يمدح بعض خلفاء بني أمية:
أمره من أمر من ملّكه ... فإذا ما شاء عافى وابتلى
فيكون معنى قولنا في آدم أنه خلق على صورة الله تعالى كمعنى قولنا فيه إنه خليفة الله.
وهذه التأويلات كلها لا تقتضي تشبيهاً، ولا تحديداً.
والثاني: أن يكون قوله في أحسن صورة راجعاً إلى المرئي وهو الله عز وجل فيكون معناه: رأيت ربي على أحسن صفة فتكون الصورة بمعنى الصفة التي لا توجب تحديداً كما ذكرنا.
وهذا في العربية كقولك: رأيت زيداً في الدار. فيجوز أن يكون قولك في الدار لك كأنك قلت: رأيت زيداً وأنا في الدار، ويجوز أن يكون المعنى: رأيت زيداً وهو في الدار، وعلى هذا نقول: رأيت زيداً قائماً قاعداً، ولقيت زيداً راكبين.
قال الشاعر:
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن ... أيّى وأيك فارس الأحزاب
فإذا كان التقدير رأيت ربي وأنا في أحسن صورة كان معناه أن الله تبارك وتعالى حسن صورته، ونقله إلى هيئة يمكنه معها رؤيته، إذ كان البشر لا يمكنهم رؤية الله تعالى على الصورة التي هم عليها حتى ينقلوا إلى صور أخر غير صورهم، ألا ترى أن المؤمنين يرون الله تعالى في الآخرة، ولا يرونه في الدنيا، لأن الله تعالى ينقلهم عن صفاتهم إلى صفات أخر أعلى وأشرف، فعجل الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم هذه الكرامة قبل يوم القيامة خصوصاً دون البشر حتى رآه وشاهده، والله يؤتي فضله من يشاء، ويختصر بكرامته من يريد.
وإذا كان ذلك راجعاً على الله تعالى كان معناه: أنه رأى ربه على أحسن ما عوده من إنعامه وإحسانه، وإكرامه، وامتنانه كما تقول للرجل: كيف كانت صورة أمرك عند لقاء الملك ؟ فيقول: خير صورة، أعطاني وأنعم علي، وأدناني من محل كرامته وأحسن إلي.
فهذان تأويلان صحيحان خارجان على أساليب كلام العرب دون تكلف. ولا خروج من مستعمل إلى تعسف وقد جاء في بعض الحديث: أنها كانت رؤية في النوم، فإذا كان الأمر كذلك كان التأويل واضحاً لأنه لا تنكر رؤية اله في المنام " وباللّه التوفيق " .
العلة السابعة
وهي أن يسمع المحدث بعض الحديث، ويفوته سماع بعضه كنحو ما روى من أن عائشة رضي الله عنها: أخبرت أن أبا هريرة حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن يكن الشؤم ففي ثلاث: الدار، والمرأة والفرس.
وهذا الحديث معارض لقوله عليه السلام: لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر، ولا غول.
وقد روى عنه في أحاديث كثيرة أنه نهى عن التطير فغضبت عائشة. وقالت: والله ما قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قط، وإنما قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إن يكن الشؤم ففي ثلاث: المرأة، والدار، والفرس.
فدخل أبو هريره فسمع آخر الحديث، ولم يسمع أوله.
وهذا غير منكر أن يعرض لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر في مجالسه الأخيار حكاية، ويتكلم مما لا يريد به أمراً، ولا نهياً، ولا أن يجعله أصلاً في دينه وشيئاً يستن به، وذلك معلوم من فعله، ومشهور من قوله.
العلة الثامنة
وهي نقل الحديث من الصحف دون لقاء الشيوخ، والسماع من الأئمة وهذا أيضاً باب عظيم البلية والضرر في الدين، فإن كثيراً من الناس يتسامحون فيه جداً، وأكثرهم إنما يعول على إجازة الشيخ له دون لقائه والضبط عليه، ثم يأخذ بعد ذلك من الصحف المسودة، والكتب التي لا يعلم صحتها من سقمها، وربما كانت مخالفة لرواية شيخه، فيصحف الحروف ويبدل الألفاظ، وينسب جمع ذلك إلى شيخه ظالماً له وقد صار أكثر علم الناس في زماننا هذا على هذه الصفة، ليس بأيديهم من العلم غير أسماء الكتب.
وإنما ذكرت لك هذه العلل العارضة للحديث لأنها أصول لنقاد الحديث المهتبلين بمعرفة صحيحه من سقيمه، فإذا ورد عليهم حديث بشيع المسموع، أو مخالف للمشهور نظروا أولاً في سنده. فإن وجدوا في نقلته رجلاً متهماً ببعض تلك الوجوه التي ذكرناها استر أبوابه ولم يجعلوه أصلاً يعول عليه.
فهذه جملة القول في هذا الباب وبالله التوفيق.
في الخلاف العارض من قبل الاجتهاد والقياس
إذا أعيا الفقيه وجود نص ... تعلق لا محالة بالقياس
والخلاف العارض من هذا الموضع نوعان: أحدهما: الخلاف الواقع بين المنكرين للاجتهاد والقياس والمثبتين له.
والنوع الآخر: خلاف يعرض بين أصحاب القياس في قياسهم كاختلاف المالكية والشافعية والحنفية ونحوهم. فيعرض من ذلك أنواع من الخلاف عظيمة وهذا الباب أشهر من أن نطيل القول فيه.
في الخلاف العارض من قبل النسخ
وجميع أهل السنة مثبتون له، وإنما خالف في ذلك من لا يلتفت إلى خلافه لأنه بمنزلة دفع الضرورات وإنكار العيان.
والنوع الثاني: خلاف عارض بين القائلين بالنسخ، وهذا النوع الثاني ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: اختلافهم في الأخبار هل يجوز فيها النسخ كما يجوز في الأمر والنهي أم لا ؟ والثاني: اختلافهم هل يجوز أن تنسخ السنة القرآن أم لا ؟ والثالث: اختلافهم في أشياء من القرآن والحديث. يذهب بعضهم إلى أنها نسخت، وبعضهم إلى أنها لم تنسخ
في الخلاف العارض من قبل الإباحة
هذا النوع من الخلاف يعرض من قبل أشياء وسع الله فيها عز وجل على عباده، وأباحها لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
كاختلاف الناس في الأذان والتكبير على الجنائز، وتكبير التشريق، ووجوه القراءات السبع، ونحو ذلك.
فهذه أسباب الخلاف الواقع بين الأمة قد نبهت عليها، وأرشدت قارئ كتابي هذا إليها.
وهذا الكتاب وإن كان صغير الجرم يسير الحجم، فإن فيه تنبيهات على أشياء جليلة يحسن مسمعها، ويحلو من نفس الذكي موقعها، وأنا أستغفر الله من زلل إن كان عرض وأسأله عوناً على ما تعبد به وفرض، لا رب غيره، ولا معبود سواه.
تم جميع الكتاب بحمد الله وعونه، وإحسانه ومنه. وصلى الله على محمد نبيه، وأهله وسلم تسليماً، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق